برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
زهران ممداني يلقي محاضرة في جلسة تدريب تمهيدية أو توجيهية تُقدمها منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين في إحدى كنائس نيويورك. نوفمبر 2024

زهران ممداني ونيويورك التي أحبها

منشور الأربعاء 2 يوليو 2025 - آخر تحديث الأربعاء 2 يوليو 2025

مثَّل فوز الشاب زهران ممداني البالغ من العمر 33 عامًا، بترشيح الحزب الديمقراطي لخوض انتخابات عمدة مدينة نيويورك في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، مفاجأة كبيرة هزت وأربكت حسابات القيادة التقليدية للحزب الديمقراطي نفسه.

كما عكست تغيّرًا واضحًا في مزاج الناخب الأمريكي الذي اختار المرشح الأقرب لهموم حياته اليومية بعيدًا عن أي صور نمطية تُروَّج لإثارة مخاوفه، من خلفية المرشح المسلمة ونقده العلني لإسرائيل، البقرة المقدسة لدى المؤسسة الأمريكية الحاكمة.

كصحفي عاش وتنقل بين نيويورك وواشنطن العاصمة لنحو عقد من الزمن، فإنَّ ممداني، المولود في أوغندا لأبوين من أصول هندية والذي هاجر إلى الولايات المتحدة مع أسرته في سن السابعة وحصل على الجنسية الأمريكية عام 2018، يمثل نيويورك متعددة الأعراق التي أحببتها، والصورة المثلى لما هو معروف بـ"الحلم الأمريكي"، حيث لا تقف الخلفية الدينية والعرقية عائقًا أمام المهاجر المجتهد في مجتمع تسيطر على نخبته الحاكمة عقلية الرجل الأبيض المتفوق.

فخلال سنوات قليلة فقط، تمكن ممداني من الانصهار في المجتمع كأمريكي وحقق أعلى درجات النجاح لدرجة المنافسة على منصب العمدة في واحدة من أغلى مدن العالم في تكاليف المعيشة، وتعدُّ كذلك عاصمة اليهود في الولايات المتحدة، كونها تحتضن ثاني أكبر تجمع لليهود في العالم بعد إسرائيل. وبالتالي يستحيل أن ينجح أو حتى يترشح فيها سياسي معادٍ للسامية. 

لا يعني ذلك أن ممداني خاض قصة كفاح ونضال درامية ومليئة بالدموع مستمدة من الأفلام الهندية. فهو ابن المخرجة السينمائية الشهيرة ميرا ناير، ووالده أكاديمي مرموق في جامعة كولومبيا.

تمكن الشاب بسهولة من استكمال تعليمه الجامعي دون الاضطرار للحصول على قروض كما يفعل غالبية أبناء الطبقة المتوسطة من الأمريكيين. وهذا يعني أن فرصه كانت أفضل بكل تأكيد في الاندماج في أوساط النخبة والأمريكيين البيض، مقارنة بالمهاجرين الفقراء الذي يحلمون فقط بالإقامة في أرض الوفرة الأمريكية، أو حتى الأمريكيين السود الذين تتفشى البطالة والجريمة والفقر في مجتمعاتهم.

الاشتراكية تحكم وول ستريت

لكن ما ميَّز ممداني الذي يعرِّف نفسه كاشتراكي ديمقراطي، إخلاصه لمبادئه وأفكاره، واهتمامه بالاستماع لهموم المواطن العادي وتقديم برنامجه الانتخابي على أساس ما سمعه من الناس لا بناءً على أفكار مسبقة، بجانب الاعتماد بشكل شبه كامل تقريبًا على الإعلام الجديد والسوشيال ميديا للتواصل مع الناخبين، مقارنة بمنافسه السياسي التقليدي حاكم ولاية نيويورك السابق أندرو كومو، الذي تنحى من منصبه بعد اتهامه بالتحرش عام 2021.

قدم ممداني برنامجًا بدا ثوريًا للغاية في بلد غارق في رأسماليته

قبل أيام من الانتخابات التي انتهت بفوزه بترشيح الحزب الديمقراطي الأسبوع الماضي، سار ممداني على قدميه لنحو عشرين كيلومترًا من أقصى شمال منهاتن حتى جنوبها، لم يفعل خلالها شيئًا سوى الاستماع للمواطنين ومطالبهم، وإخبارهم أن مطالبهم هي ما تشكّل برنامجه الانتخابي لا العكس.

خلال تلك الجولة، صافح الآلاف وتناول البيتزا من الشارع وأنصت جيدًا لكل من قابله، مع تسجيل كل تلك المقابلات بالفيديو ونشرها على السوشيال ميديا. في المقابل، اكتفى منافسه كومو بالإعلانات التقليدية في محطات التليفزيون التي تكلف الملايين من الدولارات واللقاء بالناخبين في القاعات العامة.

ومقابل حملة تشويه وتخويف مكثفة شنها عتاة اليمين في الحزب الجمهوري، بل وكذلك قادة الحزب الديمقراطيين التقليديين الذين أعلنوا دعم كومو، ومن بينهم الرئيس الأسبق بيل كلينتون وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، كانت كلمة السر التي استخدمها ممداني هي تحسين حياة سكان نيويورك. 

فقد تعهد المرشح الشاب بأن يجعل سكان المدينة الأكبر في الولايات المتحدة أكثر قدرة على تحمُّل تكاليف المعيشة الباهظة، عبر مقترحات بدت ثورية للغاية في بلد غارق في رأسماليته، من قبيل تقديم رعاية مجانية للأطفال قبل سن الخامسة، وتجميد الزيادة في إيجار العقارات، وأن تكون المواصلات العامة مجانية بجانب إقامة متاجر حكومية لبيع الأطعمة والخضر والفواكه، وهو أمر لم يعرفه الأمريكيون طوال تاريخهم، بما سمح لمعارضيه باتهامه بأنه يسعى لتكرار التجربة السوفيتية الاشتراكية في عاصمة المال والأعمال العالمية.

وازداد الخوف والتخويف من ممداني عندما قال إنه سيموِّل ذلك كله من خلال ضرائب تُفرض على الأثرياء في نيويورك بنسب محدودة، وهو ما أثار حفيظة القيادات الجمهورية طبعًا، ومعها القيادات الديمقراطية التقليدية، بما في ذلك حاكمة الولاية كاثي هوكول، وقد رأوا جميعًا أن زيادة الضرائب في مدينتهم سيُخرج أموال الأثرياء إلى ولايات أخرى.

الشريعة تحكم نيويورك

مع فوز ممداني المفاجئ، تصاعدت الحملة العنصرية في مهاجمته من قِبل عتاة رموز اليمين الأمريكي الذين اعتبروا احتمال فوزه خطرًا يهدد المدينة ويسمح لـ"مسلم" بفرض تطبيق أحكام الشريعة، وبتناسي ما تعرضت له المدينة التي استهدفها "الإرهابيون المسلمون" في 11 سبتمبر 2001.

ولكن ذكاء ممداني تمثل في استغلال هذه الهجمات العنصرية لصالحه، ببث رسائل الكراهية التي وصلته عبر صفحاته المتعددة على السوشيال ميديا، ومنها رسائل صوتية تطالبه بأن يتذكر أن مهمته "أن تغسل قدميَّ الأوروبيتين يا ولد".

ستجدنَّ أشد الناس تأييدًا لممداني في معركته الأخيرة اليهود الليبراليين

وصف ستيفن ميلر، المسؤول في إدارة الرئيس دونالد ترامب عن سياسة الهجرة والترحيل المتشددة، فوز ممداني بأنه "أكبر تحذير حتى الآن مما يترتب على فشل المجتمع في التحكم في سياسة الهجرة". أما عضو مجلس النواب الجمهوري عن ولاية تينيسي، أندي أوجلز، فقد اتهم ممداني بدعم الإرهابيين وطلب من وزيرة العدل بام بوندي سحب الجنسية الأمريكية منه وترحيله.

لا شك في صحة إجراءات حصول ممداني على الجنسية الأمريكية، لكن رغم ذلك فإن حملة الهجوم اليمينية عليه، تشبه ما تعرض له الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما من ترامب حين شكك في جنسيته الأمريكية ونفى أنه ولد في الولايات المتحدة، وهو شرط دستوري أساسي فيمن يرغب في أن يصبح رئيسًا للبلاد.

وبغض النظر عن التفاصيل، فإن مضمون رسالة الكراهية من قبل اليمين هي أن ممداني، وقبله أوباما، ليسا "أمريكيين" حقيقيين وبالتالي لا يحق لهما تبوأ المناصب الرفيعة في الولايات المتحدة.

لكنَّ السبب الرئيسي لهذا الهجوم الشرس على ممداني، لا يكمن فقط في أفكاره التقدمية وسعيه لفرض الضرائب على الأثرياء في نيويورك، بل أيضًا لموقفه الثابت في دعم القضية الفلسطينية، وتأكيده الالتزام بتطبيق قرار المحكمة الجنائية الدولية بالقبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المتهم مع وزير دفاعه السابق يوآف جالانت بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين في غزة.

في المقابل، ستجدنَّ أشد الناس تأييدًا لممداني في معركته الأخيرة اليهود الليبراليين وعلى رأسهم المراقب العام لمدينة نيويورك براد لاندر، ومعهم بالطبع الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، كون ممداني يقدِّم نفسه باعتباره اشتراكيًا ديمقراطيًا علمانيًا، وإن تمسك بهويته كمسلم أمريكي تزوج فنانة دمشقية الأصل.

شكَّل دعم قطاع كبير من المثقفين الأمريكيين اليهود لممداني، وخاصة في أوساط الشباب، حجم التغير في موقف الأمريكيين عمومًا من التعامل مع إسرائيل كبقرة مقدسة، واعتبار أي نقد لسياسات حكوماتها معاداةً للسامية، لا رفضًا للسياسات العنصرية تجاه الفلسطينيين وحرمانهم من حقوقهم المشروعة في تقرير المصير والعيش في دولتهم المستقلة.

فالولايات المتحدة ستدعم إسرائيل دائمًا، ولكن هناك من يدعمها بعمى عنصري كاره للعرب والمسلمين عمومًا، وهناك من أي يرى أن دعم إسرائيل يستوجب الضغط عليها لتعيش مع جيرانها في سلام وتقبل بحل الدولتين وتتوقف عن قتل الفلسطينيين بدم بارد من دون خشية من حساب.

قد لا يتمكن ممداني من الفوز في الانتخابات، ولا شك أنه على مدى الأشهر الأربعة المقبلة سيتعرض لحملات قاسية من التشوية والهجوم، إلى جانب الحشد المالي الضخم لصالح منافسيه، بما في ذلك كومو نفسه الذي سيترشح مستقلًا، أو العمدة الحالي إريك آدامز الذي أدين بدوره بالفساد، لكنه تمكن من الحفاظ على منصبه فقط بسبب حصوله على عفو رئاسي من ترامب.

غير أن ذلك كله لن يقلل من أهمية الفوز الذي حققه المرشح الشاب صاحب الكاريزما والابتسامة الجذابة، والذي مثَّل رسالة مهمة هزت قيادات الحزب الديمقراطي والساسة في الولايات المتحدة عمومًا.

مثلما مثَّل اختيارُ ترامب نفسه رئيسًا، تمردًا على الساسة التقليديين في الحزب الجمهوري كونه يقدم حلولًا غير تقليدية ويثير مشاعر الأمريكيين البيض الخائفين من المهاجرين، مثَّل اختيارُ ممداني تمردًا على الأفكار المعتادة للحزب الديمقراطي، الذي ما زال يترنح عقب الهزيمة المدوية في الانتخابات الأخيرة ويبحث عن أفضل خطاب يسمح له على الأقل بالفوز في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر 2026، بعد أن تمكن الجمهوريون من السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ مع البيت الأبيض.