لو أخذنا بأسلوب "الآن جاء دوري" الذي يتبعه الأطفال خلال لعبهم، فنحن الآن ننتظر ضربة إيرانية لإسرائيل، ردًا على هجوم الأخيرة فجر السبت على منشآت عسكرية لتصنيع الصواريخ والطائرات المسيرة وبطاريات دفاع جوي في ثلاث محافظات إيرانية. لكن كلَّ المؤشرات تفيد بأن طهران، رغم تأكيدها الاحتفاظ بحق الرد، لن تفعل ذلك.
فقد حاولت طهران التقليل من آثار الضربة بإعلان أن خسائرها كانت محدودة، فيما جاءت التصريحات الرسمية الأمريكية لتطلب أن ينتهي الأمر عند هذا الحد وتستبعد إقدام إيران على ضرب إسرائيل مجددًا، على الأقل في القريب العاجل.
في الواقع، ومنذ بداية الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة قبل نحو 13 شهرًا، لم تكن إيران راغبةً في خوض مواجهة مباشرة مع إسرائيل، تزيد معها فرص التدخل الأمريكي المباشر. فطهران التي أنفقت وبذلت الكثير من الجهد طوال العقود الماضية لتمويل وتسليح وبناء التنظيمات الموالية لها في العراق ولبنان وغزة واليمن، كانت تفضل الاستمرار في استخدام أذرعها فقط لفرض هيمنتها الإقليمية وتحقيق أهدافها.
مصيدة نتنياهو للجميع
حتى في مقابل سعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحثيث للاستفادة من مناخ الانتقام السائد بعد طوفان الأقصى، بتوسيع الحرب نحو توجيه ضربات قاضية للأذرع الإيرانية في الشرق الأوسط، ثم استهداف إيران نفسها وقد تتجه لاحقًا للقضاء على مشروعها النووي بمشاركة أمريكية، حاولت طهران تجنب الانجرار لهذه المصيدة وعدم توسيع الحرب المتواصل في غزة بجعلها حربًا إقليميةً شاملة.
ففي ردها الأول على استهداف مقر قنصليتها في دمشق مطلع أبريل/نيسان الماضي، أبلغت إيران بموعد ضربتها مسبقًا، بما يسمح للإسرائيليين وحلفائهم من الأمريكيين والعرب باعتراض الصواريخ وإسقاطها، مكتفية بأن يكون هدفها من الضربة إعلان قدرتها على استهداف عمق الأراضي الإسرائيلية، وبالتالي خرق قواعد الاشتباك القائمة منذ عام 1948.
وبناءً على ضغوط أمريكية مماثلة لتلك التي جرت قبل الضربة الأخيرة فجر السبت، لم تبالغ إسرائيل في ردها واستهدفت بطارية للدفاع الجوي بالقرب من إحدى المنشآت النووية، وأرسلت إشارة واضحة بأن الضربة القادمة ستصيب المنشأة نفسها.
وبعد أن قرر نتنياهو أن الطريقة المناسبة لمواجهة الضغوط الدولية والداخلية المتزايدة لإنهاء الإبادة في غزة تكون بتوسيع الحرب، استهدف في عملية شديدة الجرأة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في قلب طهران، أثناء حضوره تنصيب الرئيس الجديد مسعود بزشكيان في 31 يوليو/تموز، وهو اليوم التالي لاغتيال القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية.
مارست طهران ضبط النفس لأقصى الحدود ولم تسارع إلى الرد. ورغم أن اغتيال هنية مثَّل انتهاكًا فاضحًا لسيادتها وخرقًا خطيرًا لأجهزتها الأمنية، صرَّح بزشكيان بأن بلاده تجاوبت مع رسائل أمريكية وغربية بعدم الرد على إسرائيل على أمل أن يؤدي ذلك إلى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة.
لكن نتنياهو لم يتوقف. فبعد العثور على جثث المختطفين الستة في نفق بالقرب من رفح مطلع الشهر الماضي، وتفجر المظاهرات الداخلية على نطاق واسع تتهمه بتعطيل التوصل إلى اتفاق وعدم الاكتراث بحياة ما يزيد عن مائة أسير إسرائيلي لدى حماس، يُعتقد الآن أن نحو نصفهم أموات، قرر رئيس الوزراء مجددًا الهروب أكثر إلى الحرب، بتفجير أجهزة البيجر واللاسلكي في أجساد الآلاف من مقاتلي حزب الله، ثم اغتيال الأمين العام لحزب الله شخصيًا، في 27 سبتمبر/أيلول.
وضع اغتيال حسن نصر الله والضربات القوية اللاحقة الموجهة للحزب، باغتيال صف قياداته الأول كله تقريبًا، طهران، في موقف محرج للغاية، ولم يعد باستطاعتها تأخير ردها على اغتيال هنية داخل أراضيها أو السعي للقضاء على أهم حلفائها في المحور.
ثم جاءت الضربة الإيرانية في الأول من أكتوبر/تشرين الأول وكانت أكثر قوة، إذ أرسلت 180 صاروخًا باليستيًا قطعت المسافة نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة في 12 دقيقة فقط. ولكنها رغم ذلك بقيت محدودةً نسبيًا، وكان هدفها أيضًا إيصال رسالة لإسرائيل بأن لديها القدرة على مهاجمة أهداف إسرائيلية مهمة مثل قواعد الطائرات وكذلك مقر الموساد في قلب تل أبيب، وأن المدن الإسرائيلية أصبحت مستباحة.
في انتظار ترامب
ورغم كل العداء التاريخي بين إيران والولايات المتحدة، توافقت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الإيرانيين على عدم الانجرار إلى الحرب الشاملة التي يتطلع لها نتنياهو. ومثلما أكد بايدن دعمه لما وصفه بحق إسرائيل في الرد على الهجوم الإيراني، وزود جيشها بمنظومة ثاد المتطورة للدفاع الجوي وأرسل أسرابًا إضافية من طائرات F16 لحمايتها وحماية القوات الأمريكية في المنطقة، فإنه أيضًا أجبر إسرائيل على عدم توسيع الضربة لتشمل منشآت نووية أو نفطية.
يؤكد نتنياهو استعداده للقتال منفردًا على سبع جبهات لكنه يبقى خاضعًا للشروط الأمريكية
الحرب ضد حماس في غزة، وكذلك ضد حزب الله في لبنان، مفهومة ومقبولة أمريكيًا، حيث إنها في النهاية حروب ضد "منظمات إرهابية" بالمعيار الإسرائيلي والأمريكي. وعمليًا، فهي رغم خسائرها البشرية الفادحة، لن تؤثر على البورصات العالمية أو ترفع أسعار البترول، قبل أيام فقط من انتخابات رئاسية ساخنة تواجه فيها نائبة الرئيس والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس خصمًا جمهوريًا يُفضّله نتنياهو وحكومته المتطرفة. وأخيرًا، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي يدرك جيدًا أنه لا يستطيع محاربة إيران من دون الدعم الأمريكي، إن لم يكن التدخل المباشر.
يتحدث نتنياهو كثيرًا عن أنه لا يستجيب سوى لمتطلبات الأمن الإسرائيلي وأنه مستعد للقتال منفردًا على سبع جبهات، لكنه في النهاية لم يكن قادرًا على مقاومة الأوامر الأمريكية بعدم توسيع رده على إيران، بعد أن أبلغ الإيرانيون الجانب الأمريكي بوضوح أن أي استهداف إسرائيلي للمنشآت النفطية أو النووية الإيرانية ستكون له عواقب وخيمة على دول الخليج النفطية الحليفة للولايات المتحدة، وأن ضرب المنشآت النفطية السعودية ليس مستبعدًا في هذا السياق، وفق ما نشره موقع أكسيوس.
في هذا السياق جاءت جولة وزير الخارجية الإيراني الإقليمية تحذر من أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي لو لم تقم واشنطن بكبح جماح نتنياهو. وكان من اللافت أنه في أعقاب الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران مباشرة، كانت دول الإمارات والسعودية ومصر في مقدمة الدول التي أدانته باعتباره "هجومًا غير مشروع على الأراضي الإيرانية".
تحاول إدارة بايدن قبل خروجها من البيت الأبيض بنحو ثلاثة شهور التوصل لوقف الحرب في غزة ولبنان، وإقناع نتنياهو أنه حقق كل صور النصر التي يريدها بعد اغتيال هنية ونصر الله وبعدهما قائد حركة حماس يحيى السنوار، وبعد إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل وتدميره، بالإضافة إلى ما ألحقه من خسائر فادحة بحزب الله.
وبينما قد يُظهر نتنياهو تجاوبًا مع رغبات إدارة بايدن قبل خروجها، فإن عينه ستبقى معلقة بالطبع على نتيجة انتخابات الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني. لأن فوز ترامب الذي يتمناه يعني أن الهدوء المتوقع في المواجهة بين إسرائيل وإيران خلال الأسابيع المقبلة سيكون مجرد استراحة محارب، يعود بعدها نتنياهو للضغط على إدارة ترامب لدعم مواجهته مع إيران، باعتبارها أصل كل الشرور، أو حسب تعبيرات وزيره للأمن الداخلي، الإرهابي إيتمار بن غفير، ستكون الضربة الإسرائيلية الأخيرة مجرد ضربة افتتاحية تليها ضربات لاحقة.
فالمؤكد أن الحروب وحدها هي ما يطيل أمد بقاء نتنياهو وتحالفه الإرهابي في الحكم.