حساب إذاعة الجيش الإسرائيلي على موقع إكس
جانب من اقتحام قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة المحيطة بمعبر رفح البري، 7 مايو 2024

هل يستسلم الشرق الأوسط لعصر الوصاية الإسرائيلي؟

منشور الاثنين 16 يونيو 2025

دفع ما تعرضتْ له إسرائيل وجيشها من إذلال في هجوم السابع من أكتوبر، قادتَها إلى التفكير في تطوير العقيدة الأمنية التي وضع رئيس الوزراء الأول ديفيد بن جوريون أسسَها في خمسينيات القرن الماضي، لتقوم على قوة الردع الناتجة عن التفوق العسكري الهائل.

تتدرج مرتكزات عقيدة بن جوريون الأمنية من بناء قدرات عسكرية هائلة تردع أعداء إسرائيل عن المبادرة بشن حرب ضدها، إلى امتلاك قدرة استخباراتية فائقة تعطي إنذارًا مبكرًا عن نية العدو في الهجوم، وإذا فشل الردع واندلعت الحرب، فيجب أن تكون إسرائيل قادرة على نقلها لأرض الخصم وحسمها بأسرع ما يمكن.

صمدت هذه الاستراتيجية وأظهرت نجاعة طوال العقود الماضية إلى أن فاض طوفان الأقصى، وكان فيضانه قاسيًا على دولة الاحتلال التي يسيطر على مفاصل مؤسساتها خلال العقود الأخيرة عناصر اليمين الصهيونية، لدرجة دفعهم إلى العمل على إعادة النظر في "الردع الكلاسيكي" كعقيدة أمنية، من أجل الانتقال إلى مفهوم "الحسم التام"، أي القضاء على العدو، وفق المعادلة الصفرية "إما نحن أو هم" التي يتبناها اليوم قادة الائتلاف الحاكم في إسرائيل.

لم تعد إسرائيل تقبل بفكرة التعايش مع أعداء أو خصوم قد يشكلون خطرًا محتملًا عليها، فما جرى ويجري من حرب إبادة وتطهير عرقي في قطاع غزة ومن قبلها جنوب لبنان، وأخيرًا ضرب إيران، كشف أن عقيدة قادة الكيان باتت القضاء على العدو وتدميره تمامًا، أو إخضاعه ودفعه إلى الاستسلام والقبول بأن يصبح جزءًا في المشروع الإسرائيلي الجديد للشرق الأوسط.

لن يقف الأمر عند حدود حماس أو حزب الله وجماعة الحوثي أو حتى إيران، فالرؤية الإسرائيلية للشرق الأوسط الجديد، التي عبّر عنها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو مرارًا قبل طوفان الأقصى وبعده، ترمي إلى أن تصبح المنطقة بالكامل مسرحًا يتحكم فيه السيد الإسرائيلي ويحرِّك كل مكوناته وفق مصالحه.

تجاوز الأمر فكرة ابتلاع كامل فلسطين التاريخية، ومعها الرؤية التقليدية الأمريكية الأوروبية الهادفة إلى تثبيت مكانة دولة الاحتلال في المنطقة دولةً طبيعيةً تتبادل الشراكات الاقتصادية والأمنية مع جيرانها. في التصور الجديد، لن يكون الشرق الأوسط إلا تحت الوصاية الإسرائيلية بالكامل.

لم يعد نتنياهو مهتمًا بجعل بلاده دولة طبيعية في المنطقة بل الدولة القائدة الرائدة صاحبة القرار

منذ بداية العدوان على غزة، تعمل إسرائيل على إعادة هندسة الوعي العربي، إذ تهدف عمليات الإبادة والتطهير العرقي وتدمير كل مظاهر الحياة في قطاع غزة وجنوب لبنان إلى تكفير المواطن العربي بالمقاومة، كما تهدف الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على إيران لدفع شعبها إلى الرغبة في الخلاص من النظام الذي ورطه في هذا الصراع.

"في الوقت الذي نحقق فيه أهدافنا، نحن أيضًا نمهّد الطريق أمامكم لتحقيق هدفكم، وهو الحرية"، هكذا خاطب نتنياهو صراحةً الشعب الإيراني بعد أن بدأ جيشه هجماته الجوية في إيران، مضيفًا "لم يكن هذا النظام أضعف مما هو عليه الآن، وهذه فرصتكم للوقوف وجعل أصواتكم مسموعة".

حتى وقت قريب كانت الحكومات والمؤسسات الإسرائيلية تعمل على أن تبقى دولتهم مستقرة آمنة يمكنها أن تقيم شراكات طبيعية مع جيرانها العرب وفق ما ذهب إليه شيمون بيريز الرئيس الإسرائيلي الأسبق في كتابه الشرق الأوسط الجديد. لكن في تصورات الهيمنة لدى اليمين الصهيوني، ولترسيخ استراتيجية الإخضاع الجديدة، لا يلزم الأمر القضاء على حركات المقاومة فقط، بل على روحها أيضًا، وضرب قدرات إيران النووية والعسكرية باعتبار طهران راعية تلك الحركات وممولتها، ثم استكمال منهجية "تغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط" التي وضعها نتنياهو.

قبل أسابيع قليلة من عملية طوفان الأقصى، حمل نتنياهو خريطة للشرق الأوسط الجديد من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والسبعين، ليقدّم رؤيته لشكل المنطقة المنشود الذي لا توجد به أي دولة فلسطينية، ويتشكل من الدول المنخرطة في عملية التطبيع مع الاحتلال.

طرح نتنياهو في كلمته حينها رؤية تتجاوز الفلسطينيين باعتبارهم عقبة أمام إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول العربية، مشيرًا إلى رغبة بلاده في استكمال اتفاقات أبراهام بضم المملكة العربية السعودية وبقية دول المنطقة إلى ركب التطبيع الذي التحقت ببدايته الإمارات والبحرين والسودان والمغرب.

الآن، وبعد ما يقرب من عامين على بدء الحرب، ومع خروج حزب الله وسوريا من معادلة الصراع، لم يعد نتنياهو مهتمًا بجعل بلاده دولة طبيعية في المنطقة، بل الدولة القائدة الرائدة التي تملك قرار الشرق الأوسط، وموارده وإمكاناته. 

هذه الرؤية تتطلب من إسرائيل إثبات قدرتها على "سحق" أعدائها أو إخضاعهم ودفعهم للاستسلام، وهو ما تسعى إليه الآن، فالهجوم على إيران وضرب مشروعها النووي ومحاولة تغيير نظامها مرحلة متقدمة من الاستراتيجية الجديدة للمشروع الإسرائيلي.

نجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها في إيران له ما بعده، فالأمر لن يقتصر على تغيير موازين القوى في المنطقة، بل هي رسالة إرهاب للجميع، حتى يقر في يقين من في الإقليم جميعًا أن بإمكان "ذراع إسرائيل الطويلة" الوصول لأي مكان في الشرق الأوسط.

"اليوم تعرفون صحة هذا"، قالها نتنياهو وهو يتباهى بنجاحه في اغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني في سبتمبر/أيلول الماضي، حينها أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي أن بلاده وصلت إلى "نقطة تحول تاريخية".

إذا لم تدرك الأنظمة العربية خطورة التحول الذي طرأ على استراتيجية إسرائيل والمشروع الذي تسعى إلى تدشينه في الشرق الأوسط، فلن يسلم أحدٌ من جنون إسرائيل الذي بلغ مداه، وطموحها اللا محدود.

لن ينجو أي طرف من هذا المصير، إلا لو سارعت دوائر صنع القرار إلى وضع مسار لمشروع عربي قادر على مقاومة وكبح المخطط الإسرائيلي المدعوم أمريكيًّا، فما زال لدى الدول العربية، رغم الضعف والتشتت، ما يُمكِّنها من إفساد مخططات استعبادها.