فينا "الزنوج".. ولا نعادي "الرجل الأبيض"!
حين قرأت عدة مجلدات من الأعمال الكاملة للشاعر والناقد العظيم صلاح عبد الصبور في محبسي، وجدته سبقني بنصف قرن في شيئين كانا يؤرقاني قبيل السجن. الأول هو رد الاعتبار للمستشرقين ولمصطلح الاستشراق، الذي كان قد بدأ، في عصره، يتحول إلى سُبَّة ووصمة في كتابات بعض الإسلاميين الأزهريين وبعض العروبيين.
كان عبد الصبور عروبيًا تقدميًا ذا انحيازات يسارية لا يختلف عليها اثنان منصفان، بل إنه أحد رواد مدرسة الشعر الحديث، والوحيد من بينهم الذي قَبِل عباس العقاد أن يناظره اعترافًا منه بأنه مثقف حقيقي جدير بالمجادلة. وكان عبد الصبور عمل أستاذًا زائرًا في جامعة هارفارد قبل سنوات طويلة من بزوغ اسم إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا بنيويورك، حيث أسس هناك مدرسة شيطنة الاستشراق وربطه حصرًا بالاستعمار.
دافع عبد الصبور عن المستشرقين الذين علَّموا الرعيل الأول من طلاب الجامعة المصرية وأساتذتها، وعن المستشرقين الذين علَّموا العرب والمسلمين كيفية تحقيق مخطوطات تراثهم، كما علموهم المناهج العلمية التي استندوا إليها في النهضة الفكرية والثقافية العربية في العصر الحديث. بالطبع دون إغفال أن كثيرين من بينهم كانوا مغرضين وعديمي النزاهة والموضوعية.
لاقى ذلك عندي ارتياحًا كبيرًا، لأنه عبَّر عن أفكار كثيرة كانت تجول بخاطري منذ سنوات طويلة، ولم أبلورها أو أُحسن صياغتها. فمن سيسمعني إذا انتقدت الفلسطيني العروبي الكبير إدوارد سعيد؟ أو نظيره وسط الإسلاميين والأزهريين، محمود حمدي زقزوق، ومن قبله محمود شاكر؟
الزنوجة وصف لا إساءة
أما الارتياح الأكبر، فكان في استعماله العربي الأصيل لكلمة "زنجي" و"زنوج" كما استعملها العرب طيلة قرون من غير أيِّ مدلول عنصري ولا استعلائي. فالزنوجة وصف مورفولوجي، أي خارجي، لملامح بشرية تفرق الأسود الإفريقي عن الأسود الهندي أو الأمريكي الجنوبي. ولم تكن سُبَّة ولا دلالة على عنصرية قائلها أو الإساءة لمن تقال عنه.
في جيل عبد الصبور، الذي هو قريب مِنَّا ولا يزال بعض رموزه يحيوْن بيننا، كان استعمال الزنوجة شائعًا في الأدبيات العربية، بما فيها الأدبيات المناصرة للتحرر الجنوبي والشرقي من "الغرب" الاستعماري. وكان مصطلح "الزنوج الأمريكيين" أسبق بعشرات السنين من مصطلح "الأفروأمريكيين"، بل إنه أدق منه وأصحّ. وفي ذلك تفصيل له مقام آخر، لكن تكفي الإشارة السريعة إلى قصيدة الشاعر السوداني محمد الفيتوري "أنا زنجيّ"، تلك التي قرأتها عند صلاح عبد الصبور أيضًا.
أنا زنجي قُلها لا تجبن قُلها في وجه البشرية أنا زنجي وأبي زنجيُّ الجد وأمي زنجية أنا أسود أسود لكني حرٌ أمتلك الحرية أرضي إفريقية عاشت أرضي عاشت إفريقية |
لاحقًا عُرِّبت أدبيات اليسار الجديد وجيل التسعينيات من الحركات الاجتماعية والحقوقية بفضل مزدوجي الثقافة من العرب المهتمين بالحقوق والحريات والمواقف النقدية. ومن بين ما حملته تلك العولمة الحقوقية، إذا صح التعبير، التجريم الأدبي لاستخدام كلمة "زنجي/ زنوج"، التي ظلَّت مستخدمة في الدراسات الاجتماعية حتى نهاية الثمانينيات. ودون أية معالجة نقدية محلية أو عربية، استسلمنا لمشاركة الأمريكيين، ومعهم الأوربيون، في تحمّل تبعات تاريخهم العنصري المقيت.
لا أزال أحتفظ لنفسي بمجادلتي حول التفرقة بين الاستعمال المسيء لكلمة "أسود"، والاستعمال البريء لكلمة "زنجي" في اللسان العربي. وأقرب دليل على ذلك حين ذهبت لزيارة الحاج عبد الهادي من مُعمِّري النوبة، في بيته بحي منشية النوبة في مدينة أسوان، فلمَّا اقتربت من بيته بحسب الوصف، سألت أحد البائعين عنه، فسألني بجدية "الأسمر شوية؟".
كدت أضحك لأنه هو نفسه أسمر داكن البشرة، لكنه يقصد أنَّ الحاج عبد الهادي، رحمه الله، كان أسود. تجنب البائع النوبي الأسمر استعمال كلمة "الأسود" ووصف مبتغاي بأنه أكثر "سمارًا". وعلى هذا المنوال يمكنني أن أجادل، لكني لا أفعل. أما مجادلتي في نقد بقية قصيدة الفيتوري فلها سياق آخر.
في رفض تكرار البؤس مع "الرجل الأبيض"
لم أعد أحاول أن أجادل أحدًا في براءة "الزنوجة" في اللسان العربي من المحمول العنصري، وأغلقت هذا النقاش إلى حين. لكنني لن أقف مكتوف اليدين وأنا أرى البؤس يُكرر نفسه في استسهال استعمال مصطلح "الرجل الأبيض" للدلالة على أشياء لم تعرفها مجتمعاتنا ولا تجربتنا الإنسانية. ولا ينبغي لنا أن نتساهل أبدًا في التطبيع مع مثل هذا البؤس المزري!
أتساءل عن كونداليزا رايس وكولن باول، شريكي الإجرام "الأبيض" ضد العراق. أيهما كان "رجلًا أبيض"؟
يُستعمل مصطلح الرجل الأبيض للإشارة إلى السلطوية الاستعلائية التي يجسدها الرجل الذكوري ضد النساء، وضد من يفتقد لمواصفات الفحولة المقاتلة عمومًا، مخلوطًا بالعنصرية البيضاء ضد الملونين والسود خصوصًا. وفي هذا المصطلح ما فيه من تكثيف لكل المعاني البغيضة المتمحورة حول الاستحقاق والاحتقار والبطش الناجي من المساءلة والعقاب، مع إنتاج معرفي مهيمن يُكرّس لهذا الظلم المنهجي، الذي يبلغ مرحلة الاضطهاد، بالإضافة إلى الإرث الاستعماري الطويل.
في الآونة الآخيرة، سواء منذ اندلاع الجولة الجارية من صراعنا الإنساني في فلسطين في 7 أكتوبر أم من قبلها، لاحظت أنَّ بعض المنتسبين إلى الأكاديميا والبحث والنقد يلوكون مصطلح "الرجل الأبيض"، بمدلوله السيئ وظلال الوصمة، حتى بدأ يتسرب لمدّعي الثقافة وصناع المحتوى الخفيف على السوشيال ميديا، ومن ثَمَّ بدأ ينتشر كــ"موضة". ويبدو أن المصطلح ذو جاذبية من نوعٍ ما بائس، يتلذذ بإعادة إنتاج المظلوميات ويقتات عليها.
نعم، كان الاستعمار عنصريًا، وكان كما كان العالم كله، ذكوريًا. ونعم، وُلدت الدولة اللقيطة سفاحًا من ذكوريٍّ أبيض عنصريٍّ اغتصب أرضًا خصبة كان أهلها أضعف من الدفاع عنها. لكن ما الداعي الآن إلى اجترار مصطلحات تحمل تكثيفًا كبيرًا لمعانٍ لم نختبر تحققها معًا في سياقنا الجاري؟
بعبارة أخرى، حين يستعمل اللسان النقدي الأمريكي، أو الغربي عمومًا، مصطلح "الرجل الأبيض" فهو يعي في مخزونه اللساني الاجتماعي أنه تطوير لمصطلح "الدبور". والدبور في الإنجليزية اسمه wasp، وليس لحشرة الدبور أية دلالة استعمارية، لكن حروف الكلمة نفسها WASP هي اختصار، لا تعرف العربية مثيلًا معاصرًا له سوى في س. ح. م. (سكك حديد مصر)، لعبارة white anglo saxon protestant/الأبيض الأنجلوساكسوني البروتستانتي، وهي عبارة تكثّف صفات النخبة الحاكمة المتسلطة تاريخيًا في الولايات المتحدة الأمريكية.
فحين تطور "الدبور" إلى "الرجل الأبيض" كان ذلك بفضل النسوية الأفروأمريكية (ولن أقول الزنجية احترامًا للسياق!). تلك التي كانت بروتستانتية في معظم تكوينها، كموجة متطورة من حركة الحقوق المدنية. فلذلك يفهمها المجتمع الأمريكي فهمًا عميقًا، ويبتسم لها حين تستعمل في غير محلها على سبيل الاستعارة والمجاز.
هنا من حقي أن أتساءل عن كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية من أصل إفريقي في إدارة جورج بوش الابن، وعن تاريخها المخزي هي وابن عرقها كولن باول، كشريكين في الإجرام "الأبيض" ضد العراق؟ أيهما كان "رجلًا أبيض"؟!
وهنا تأتي الفذلكة، نسبة إلى المجادلة التي تنتقل من المقدمة إلى النتيجة بأداة الربط "فذلك"، التي تقول: فذلك دليل على مجازيّة مصطلح الرجل الأبيض، الذي يقصد به الدور الوظيفي الاستعماري الاستعلائي. وهنا أقول: هذا بالضبط ما أرفضه.
وفذلكتي أني أتساءل: إذا وُصف وزير بريطاني، أو وزيرة، من أصل شرقي بأن سلوكهما المعادي لأصحاب الحق الفلسطيني والمنحاز للمحتل الصهيوني بأنه، مجازًا، سلوك "رجل أبيض" في انحيازه وقيمه وموقفه، فبماذا نصف اليهود الأشكيناز أو الأوروبيين المسيحيين الشُّقْر الذين يناصرون قضيتنا؟ هل نَصِفهم بأنهم أفارقة مثلًا؟! أقتبس هنا تغريدة محمود هدهود على إكس.
ألا نحذر من أن تتحول عبارة "الرجل الأبيض" إلى سبة ووصمة عرقية ومورفولوجية وكأنها عنصرية عكسية تحتقر الرجل الأبيض لكونه رجلًا وأبيض، وتمجّد من أي لون آخر؟!
ألا ننتبه إلى الوحل الذي بدأ رذاذه يصلنا بجدية زاحفًا من بين أحراش خوارزميات السوشيال ميديا مستقطَبًا بين الكمايتة، أبناء "كيميت"، والأفروسنتريك؟ ألا نستبق موجة محتملة جارفة من العنصرية البينية في بلدان ما بعد الاستعمار، ونبادر بنقدنا اللغوي العربي/ المحلي للاستسهال في استعمال مصطلحات مقطوعة الصلة بسياقنا الاجتماعي خشية ما تجلبه علينا من "فواتير" لا نتحمل مسؤولية "مشاريبها"؟
ألا ينبغي ملاحظة أنَّ سياقنا البائس يكثر فيه ذوو البشرة البيضاء من العرب والشركس والأمازيغ، في الشام ومصر وشمال إفريقيا، كنسبة صغيرة من السكان ذات عدد ضخم من البشر؟ فماذا يمكن لمصطلح "الرجل الأبيض" أن يحمل من مدلولات وتبعات إذا تم توطينه كوصمة تحمل معاني التسلط والاستعلاء واحتقار الآخر؟
ألا نستحق حسًّا نقديًا أكثر تركيبًا من سلوكيات الببغاوات؟!
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.