تصميم أيمن يوسف- المنصة
صورة تعبيرية عن المطالبة بحقوق النساء

النسوية السوداء.. حتى لا نقارن بين المسك والحليب

منشور الأحد 30 أكتوبر 2022 - آخر تحديث الأحد 30 أكتوبر 2022

ذات يوم التقيتُ زميلة عمل لم أقابلها منذ فترة. بادرتني بالترحاب "أهلا يا حبيبتي وحشتيني"، ثم كشرت وجهها ورفعت صوتها "أنتِ مالك اسوديتي كده؟! معلش". لم يكن مني إلا أن أن استرجعت مقولة جدتي "معلش ليه؟ ده المسك بالنفحة لكن اللبن بالسطل".

تركتُ نظرتي الساخرة عالقة بفمها المفتوح، مرددةً أغنية بيونسيه black parade التي أطلقتها 19 يونيو/ حزيران 2020 في ذكرى يوم التحرير الأمريكي، والذي مرّت عليه 155 سنة كمناسبة احتفالية تخص "تحرير العبيد في أمريكا".

بيونسيه فوق سيارة شرطة من أغنية Formation

تزامن إطلاق أغنية بيونسيه مع احتجاجات الأمريكيين السود إثر مقتل المواطن جورج فلويد على يد شرطي في حادث اكتسب شهرة عالمية. وقتها خصصت المطربة الأمريكية عوائد أغنيتها لصندوق أنشأته لدعم الشركات الصغيرة المملوكة للسود، وبالفعل نجح حتّى موعد إطلاق اﻷغنية في تقديم نحو 250 منحة.

ذكرتني عبارة "اسوديتي" بكوني سمراء العائلة الوحيدة، فبشرة إخوتي فاتحة وعيونهم ملونة، وهو أمر استدعى الكثير من "بجد دي أختهم؟ بنتك فعلًا دي يا مدام ولا لقيتوها على باب الجامع؟"، على سبيل الاستظراف، ﻷعيش مراهقتي في دور "البطة السودا" التي تدافع عن نفسها.

Black Feminism

يجذبنا الدفاع عن النفس أمام العنصرية إلى قضية ليست متداولة عربيًا، وهي "النسوية السوداء". الفلسفة الجندرية التي ترتكز على أن المرأة السوداء ذات قيمة بطبيعتها، وأن تحررها ومساواتها ضرورة، ليس كعنصر مساعد، ولكن لحاجة المجتمع ككل إلى الاستقلال والمساواة. كما يساعد الحراك النسوي الأسود على اكتشاف الأصوات المهمشة وبناء مجتمع من موقع المقاومة.

تعبر حركة النسوية السوداء عن تفكير ثوري سياسي ثقافي واجتماعي ضروري لإنشاء مجتمع منصف ليس للنساء السود فحسب؛ لكن لكل من يتعرّض للتهميش والقمع. وولدت الحركة من رحم نقد النسوية البيضاء، والتوجه الذكوري الذي سيطر على حركات مجابهة العبودية(1).

وفي الوقت الذي تُوصم فيه النسوية عامة، تغيب عن عالمنا العربي أيّ كتابات تخص النسوية السوداء تحديدًا، نظرًا للطبيعة السوسيولوجية للمجتمعات العربية، وعدم الاعتراف بالتصنيف العنصري داخله، وإن كان هذا ما نكابده يوميًا من تصنيفات: سودا - بيضا، متجوزة - مطلقة، أرملة- عانس، غني- فقير.

https://www.youtube.com/watch?v=2WFrnJydtQc

وتتبنى بيونسيه النسوية السوداء عبر الموسيقى واﻷغاني، وإن لم تكن الرائدة اﻷولى في هذا المضمار، إذ سبقتها أخريات أشهرهن على الإطلاق مطربة الجاز اﻷمريكية بيلي هوليداي التي توفت في نيويورك عام 1959 عن عمر 44 عامًا، بينما كان لا يزال أمامها مسيرة مهنية طويلة كأيقونة ثقافية. ورغم شهرتها كانت تدخل من الأبواب الخلفية للنوادي الليلية وتحصل على راتب أقل من المغنيين البيض.

بعد ميلاد هوليداي بثمانية عشر عامًا ولدت أميرة الجاز نينا سيمون في ولاية كارولينا الشمالية 1933، وبدأت نضالها ضد العنصرية في سن الحادية عشر حينما كانت تقدم عرضًا في مكتبة محلية، ورفضت جلوس والديها في الصفوف الخلفية تاركين المقاعد الأمامية للبيض، وكسبت معركتها حينما أفسح الحضورُ المجال لهما.

المطربة اﻷمريكية نينا سيمون

تناولت سيمون العنصرية ووضع النساء في أغلب أغانيها التي حملت رسائل مباشرة تعبر عن مضمون النسوية السوداء، خاصة أغنية أربع نساء، التي تعرض كفاح النساء وقت العبودية، "حياتي قاسية، أشعر بالمرارة هذه الأيام، ظهري قوي وقوي بما يكفي لتحمل الألم". شجعت نينا النساء السود على مقاومة المآسي اللاتي يواجهنها طوال الوقت، حتى صُنفت موسيقاها كموسيقى احتجاجية.

ما أخذناه من وحل العنصرية

وبعيدًا عن مدى معرفة المجتمع العربي بالنسوية السوداء، تكشف العديد من الممارسات مدى الازدراء الذي نكنه في وعينا ولا وعينا على السواء للنساء السمراوات والسوداوات. معي تحديدًا تحولتْ تعليقات الاندهاش من اختلاف بشرتي عن بشرة شقيقاتي إلى "سمرا بس دمها خفيف، سمرا بس حلوة، سمرا بس شاطرة"، وكأن البشرة الداكنة تحمل نقصًا، بينما المجتمع يغوص في وحله.

يؤصل لهذا الوحل الموروث الشعبي "ياريتني بيضا ولي ضب، أصل البياض عند الرجال يتحب"، في إشارة لدور المرأة الأهم، وهو أن تعجب الرجل، الذي يرى بدوره أول معايير الجمال البشرة البيضاء. وهو الوحل ذاته الذي أطلق على اللون الوردي الفاتح "لحم الهوانم" باعتبار أن الهوانم بشرتهن بيضاء مشربة بحمرة وما دونهن "مسّاحات السلالم"، أي الخادمات.

لكن ما تعرضتُ أنا له يبدو هينّا أمام ما واجهته صديقتي الموديل فاطمة الأمين، ملكة جمال السودان 2010، حين شاركت في مسابقة ملكة جمال العرب. فرغم جمالها الأخّاذ تعامل المجتمع مع لونها بعنصرية، اﻷمر الذي لم أفهمه أبدًا: كيف لا يرون كل هذا الجمال؟

الموديل فاطمة اﻷمين ملكة جمال السودان

لم تكن فاطمة، التي تعيش في مصر، أبدًا فتاة ضعيفة أو هشة. تعرف جيدًا أنّها جميلة، لكن لون بشرتها كان عائقًا في مسيرتها المهنية، خاصة مع تهميش ذوات البشرة الداكنة في المجال الإعلامي والفني، وإن ظهر مؤخرًا بعض القبول كما حدث مع الممثلة أسماء أبو زيد.

تروي اﻷمين، وهي مؤلفة كتاب يوميات بنت سمرا، "بتعرض لمضايقات كتير في الشارع، من أصعبها التحرشات الجنسية، زي مثلًا واحد يقول أنا عندي برد والدكتور قالي أنام مع واحدة سودا.. ما تيجي أما (*****)"، وتضيف في أسى "لو زعقت أو اعترضت، الناس بتستنكر ده باعتباري سودا، وكتر خيره أنه عاكسني أو أتحرش بي، كأنه عمل فيّ معروف".

فاكهة مستباحة

في قصص التاريخ وفي شوارعنا اليوم لا تنتهي العنصرية عند الاعتداء اللفظي، ففي مطلع القرن العشرين، دفعت هوليداي حياتها ثمنًا ﻷغنية فاكهة غريبة Strange Fruit، التي تحتج على شنق السود على الأشجار دون محاكمة الجناة البيض.

ومع استحالة اﻷغنية نشيدًا قوميًا للسود، منعت السلطات إذاعتها وحذرت بيلي من غنائها، وخاض ضابط مكافحة المخدرات العنصري هاري آنسلينجر حربًا شخصية ضد هوليداي، التي أدمنت المخدرات في محاولة لتجاوز تعرضها لاغتصاب متكرر في طفولتها. وإثر دخولها المستشفى للعلاج من تليف كبدي، ألقى القبض عليها بتهمة التعاطي ومنع عنها الانسحاب التدريجي للمخدر، ما أدى لوفاتها، لترحل عن دنيانا شابة عمرها 44 عامًا.

مطربة الجاز الأمريكية بيلي هوليداي

وبعد أكثر من قرن على ميلاد هوليداي، تعرضت فاطمة للضرب لاعتراضها على التنمر، "مرة كنت ماشية في الشارع وولد صغير فضل يقول يا سودا يا منكوشة. فقلت لتلات ستات كانوا معاه: ياريت نربي عيالنا. فتكالبوا علي وفضلوا يضربوني في الشارع لمدة نص ساعة".

رغم تجريم أي تمييز بسبب اﻷصل أو اللغة أو الدين في الدستور المصري، تكشف الممارسات اليومية عن وجه يزدري أي مختلف في اللون، ويضع أصحاب البشرة الداكنة في مرتبة أقل، ومن ثمّ استباحتهم. تعاود فاطمة حديثها عن النساء الثلاثة "الموضوع اتكرر فضلوا يستنوني كل ما أعدي في الشارع، ويكرروا الضرب، في الموقف ده كرهت كوني سمرا".

المواجهة بالفنّ

عند الحديث عن التمييز العنصري في مجتمعاتنا العربية، ترتفع بعض اﻷصوات لنفي البُعد العنصري عن الإشكالية مع التشديد على رفض هذه الممارسات، وتمثل هذه المحاولات "سترًا" وتسترًا غير مباشر أو غير مقصود في كثير من اﻷحايين.

ولا تختلف مصر عن غيرها من البلدان، حتّى تلك التي يغلب على أبنائها اللون الداكن، وتجيب اﻷمين عن سؤال هل الوضع في السودان أفضل نظرًا لأن اللون السائد الأسمر؟ "لا أبدًا، في السودان كمان كل ما كان لونك أفتح يتعامل معاك أنك الأجمل والأكثر مرغوبية، كل ما كنتِ أغمق يبقى أنت أقبح".

وبينما يغلب إنكار  التمييز الجندري والعرقي في الوطن العربي، تعرض مجتمعات أخرى المشكلة بشفافية، مع الاستفادة من المشاهير وإنتاجهم الثقافي والفني في مناهضة العنصرية.

ومن بين هؤلاء بيونسيه التي تعد أشهر المغنيات الراعيات للنسوية السوداء، وتعتني بمقاومة الممارسات العنصرية ضد السود عامة والنساء خاصة. وفي 2017 دشنت منحة Formation Scholarship، التي تمنح لأربع طالبات يدرسن الفنون الإبداعية أو الموسيقى أو الأدب أو الدراسات الأمريكية الإفريقية. وتهدف إلى تشجيع ودعم النساء "اللاتى يتمتعن بالجرأة والضمير المبدع والثقة".

كما أنتجت بيونسيه فيلم العودة للوطن home coming، ويحكي عن تجارب المرأة السوداء ومعاناتها، والتأكيد على أنها ليست آلة جنسية لارضاء الرجل، وضرورة قبول النساء للونهن وجنسهن، وعدم الامتثال للموروثات المكبلة لحريتهن.

ليست أغاني بيونسيه استهلاكية، إنما تحمل رسالة وتعد مشروعًا ممتدًا، اختارت أن يكون فنها وشهرتها سبيلها إلى مجابهة العنصرية والتنمر، في حين اختارت فاطمة أن يكون عملها كموديل هو رسالتها لمجابهة القبح بالجمال. أمّا عن لون بشرتي فوددتُ أن تكون الكتابةُ القصصيةُ كنفحاتِ مسكٍ خريفيةٍ تكافحُ بشذاها أفكارًا عنصرية.


(1) ياسين يسني: وضع المرأة السوداء في المغرب بين وصمي اللون والنوع الاجتماعي، مجلة عمران، ع25/7، صيف 2018، ص 75-77.