لولا زن أمي.. كيف تضيع حقوق النساء في "الكد والسعاية"؟

منشور الأحد 18 مايو 2025

لم تعمل أمي يومًا، لم تملك مصدر دخل. تخلت عن العمل استجابة لرغبة والدي، فهو يعتقد، مثل كثير من الرجال في مصر، أنه لا حاجة لعمل زوجته ما دام قادرًا على إعالة أسرته.

بعد زواج 28 عامًا، انفصل أبي عن أمي، لتكتشف بعد الطلاق أن حقوقها تقتصر على النفقة ومؤخر صداق قيمته ثلاثة آلاف جنيه. كان المبلغ مقبولًا عام 1996، لكنه اليوم وتحت تأثير التضخم  لا يكفي تغطية بند واحد من بنود المعيشة. حالة أمي جسدتها روجينا في مسلسل حسبة عمري الذي عُرض في الموسم الرمضاني الماضي من تأليف محمود عزت وإخراج مي ممدوح.

مثل أمي، وجدت هند/روجينا نفسها في الشارع بعد خلافٍ بسيطٍ مع زوجها الذي ربطتْها به علاقة زواج دامت 25 عامًا، لتبدأ رحلة بحث عن حقوقها، ساعيةً للمطالبة بتطبيق مفهوم حق الكد والسعاية الذي يقضي بحق المرأة عند الطلاق في الحصول على نصف ثروة زوجها التي شاركت في تكوينها.

ما حق الكد والسعاية؟

طبقًا لمركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، فإن حقّ المرأة في "الكدّ والسّعاية" يصنف على أنه فتوى تُراثية، يقوم أصلها الفقهي على أدلَّة الشَّريعة الإسلامية الواردة في حِفظ الحُقوق، والمُقرِّرَة لاستقلالية ذمّة المرأة الماليّة، وبناءً على الآية القرآنية "لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ" (النساء: 32)، إضافةً إلى قضاء الخليفة عمر بن الخطاب بحق زوجةٍ في مالِ زوجها الذي نمَّياه معًا قبل تقسيم تركته، ثم قضى بمثلِه كثيرٌ من القُضاة والفُقهاء عبر العُصور؛ لا سيّما فقهاء المذهب المالكي.

يطبَّق حق الكد والسعاية في دول إسلامية كالمغرب والجزائر وتونس وماليزيا بأشكال مختلفة. وفي مصر سبق ودعا الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر إلى ضرورة حفظ حق "الكد والسعاية" للزوجة في ثروة زوجها. ويرجع إحياؤه لفتوى الكدّ والسّعاية لزيادة مُشاركة النساء في تنمية ثروات أزواجهن، وخروجهن لسوق العمل. وفي عامٍ تالٍ لهذا التصريح جدّد الطيب دعوته إلى إحياء هذه الفتوى في البيان الختامي لمؤتمر لأزهر لتجديد الخطاب الديني المُنعقد في يناير/كانون الثاني 2020، إلا أن هذه الدعوات لم تلق صدى في أرض الواقع. 

العاملات في المنزل

سياسات الإفقار والاقتراض، وما تركته من أثر على استقرار الاقتصاد المحلي زعزع أسطورة اعتماد الأسرة على عمل الرجل. كما ساهم خروج النساء إلى العمل في تغيير نوعي بالعلاقات الجندرية نتيجة للمشاركة الاقتصادية للنساء داخل الأسرة. فطبقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، 30% من الأسر في مصر تعتمد ماديًا على النساء المعيلات، إلى جانب مشاركة النساء في جزء من دخل الأسرة.

أما من اختارت التخلي عن العمل والتزمت ببيتها، فهي في الواقع تعمل بدوام كامل داخل المنزل، دون إجازات، أو رواتب تقاعدية، أو حتى مكافأة نهاية خدمة فهو عمل غير مرئي وغير مقدر اجتماعيًا. ويُعرَّف العمل الرعائي بأنّه "رعاية الأشخاص، والعمل المنزلي، وأشكال أخرى من الأعمال التطوعية التي تخدم فيها المرأة المجتمع الأكبر".

يأتي العمل الرضائي من المهام الموروثة للنساء، ويعود ذلك إلى الأدوار الجندرية التي تُصوّر النساء والفتيات على أنهن "مُقدّمات رعاية بالفطرة"، يمتلكن "مهارات موروثة" تمكِّنهن من التفوّق في أداء هذه المهام.

وحسب منظمة العمل الدولية، تقضي النساء في المتوسط أربعة أضعاف عدد الساعات التي يقضيها الرجال في تقديم العمل الرعائي. وحتى النساء اللواتي يعملن في وظائف خارج المنزل، يقع عليهن، في الأكثر، عبء العمل الرعائي كاملًا.

لذا يعد العمل الرعائي مساهمة غير مباشرة في تراكم رأس المال. فالاشتغال خارج المنزل يتطلب عملًا آخر داخله. وإذا خدم من يقوم به نفسه بنفسه فلن يستطيع ممارسة عمله بكفاءة في اليوم التالي.

لولا زن أمي!

إلى جانب الأدوار الاجتماعية داخل الأسرة المصرية التقليدية، يتولى الأب توفير المال، بينما تتحمل الأم مسؤوليات متعددة. فبالإضافة إلى دورها الإنجابي والرعائي، تقع على عاتقها مهمة "التدبير"، الذي يتخذ عدة أشكال، منها إدارة الميزانية، أي تنظيم النفقات اليومية والمصاريف الشهرية بما يتوافق مع راتب الأب.

يقع على كاهل الأم كثيرٌ من عبء "التوفير" وتتحمل تبعاته تلبيةً لاحتياجات باقي الأسرة في ظل الإمكانات المحدودة، وتستخدم الزن أحيانًا لتلبية احتياجات الأسرة التي ربما لا يدركها الأب، فلولا زن أمي لما تعلمنا في مدارس لغات، ولما انتقلنا من شقة صغيرة في بيت عيلة لشقة مستقلة ثم إلى أخرى أكبر تساوي ملايين الجنيهات، الآن وجدت أمي نفسها خارجها بعد الطلاق دون اعتراف بأي من مساهماتها في تراكم تلك الثروة.

ما حدث مع أمي يتكرر مع غيرها، فالمطالبة بحق النساء في ثروة الزوج تتعرض للإجحاف والسخرية؛ في بوست نشرته مبادرة نسوية عن حق الكد والسعاية، فاضت التعليقات باتهامات واستهزاء من نوع "إزاي تعيشوا مستنطعين على حساب الرجل"، "نطاعة نسائية"، "الفئة الجعانة"، "إنتو عالة على الرجل وعلى المجتمع"، "بطلوا تسول بقى"، "شغل استغلال وسرقة".

قانون أكثر عدالة 

يتضمن مشروع قانون أسرة أكثر عدالة الذي سبق وأعدته منظمات نسائية، وسعت لإيصاله للبرلمان، مادةً تقر تقسيم العائد المشترك بناءً على شرط يتضمنه عقد الزواج.

"بعد اللقاءات المجتمعية اللي الناس اتكلمت فيها عن المشكلة دي، أدرجنا الفكرة في مادة مش إلزامية، لكن يمكن النص عليها ضمن شروط عقد الزواج"، تقول جواهر الطاهر، المحامية بمؤسسة قضايا المرأة المصرية، وإحدى اللواتي اشتغلن على إعداد مشروع القانون لـ المنصة، مبررة عدم إلزامية المادة لأنه "وقتها كان المجتمع رافض الفكرة تمامًا".

أي محاولة لفتح نقاش حول حقوق النساء داخل الأسرة يواجهها الرفض ذاته، وسببه الخوف من فقدان السيطرة، فالاعتراف بحق المرأة في الثروة يعني شراكة حقيقية، وليس تبعية، وهو ما تعبِّر عنه جملة "عايزانا نفكر بالمعقول ولَّا نتكلم بالمستحيل؟" التي جاءت على لسان محامي هند/الفنان محمود البزاوي، عندما سألته عن حقها في الكدّ والسعاية.

بالرجوع إلى محمود عزت مؤلف المسلسل، فإن هذه الجملة انعكاس لما تلقّاه من بعض المؤسسات الرسمية التي تواصل معها أثناء العمل على كتابة السيناريو. "أولهم مؤسسة قومية معنية بحقوق المرأة. ورغم دعمها للفكرة، فإنها شافت إنها صعبة وغير واقعية"، يقول عزت لـ المنصة، مؤكدًا تفضيل هذه المؤسسة اتخاذ موقف الحياد في قضية جدلية وتبدو صعبة التحقق.

على العكس من المتوقع، حسب عزت، أبدى الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف موقفًا داعمًا في الجلسة التي جمعته مع مي ممدوح مخرجة العمل أثناء التحضير للعمل، لكنه تخوّف من طول المدى الزمني الذي يستغرقه التغيير. و"فيه مؤسسات تانية شافت الفكرة فيها طابع غربي، لكنها أبدت حماسًا تجاهها في نهاية المطاف".

حساسية القضية

لا تلاقي النساء حين يُطالبن بحقوقهن الدينية والشرعية، مثل حق الكد والسعاية، سوى الصمت. لا أحد يتعرض أو يناقش، يبدو ذلك جليًا حين تُحرم النساء من ميراثهن الشرعي والقانوني، خاصة في صعيد مصر، ولا يُسمح لهن بامتلاك الأراضي، حيث يطبع المجتمع ومؤسسات الدولة، بما يمكن أن نصفه بـ"العنف الاقتصادي الممنهج". فالمسألة ليست دينية، بل إن هذا المجتمع ببساطة لا يريد حقوقًا للنساء.

لكسر هذا الصمت على حقوق النساء، تنوي النائبة البرلمانية نشوى الديب، طرح مشروع قانون أسرة أكثر عدالة للأسرة في الدورة البرلمانية المقبلة، مستندة إلى تصريح الإمام الأكبر بضرورة إحياء فتوى الكد والسعاية، لكنها لا تعلم مدى الاستجابة التي قد ينالها، وفق ما تؤكد لـ المنصة.

بالطبع، ساندتُ أمي. وبعد صدامات ومفاوضات، وفّرتُ لها بعضًا من حقوقها؛ شقة صغيرة كنا نمتلكها وبعضًا من أثاث المنزل. وربما كانت أمي محظوظة بوجود أبٍ على قيد الحياة، وابن وابنة داعميْن لقرار طلاقها، متضامنين معها من أجل نيل حقوقها. لكن كم امرأة تضطر إلى الاستمرار في علاقات مؤذية أو حتى عنيفة، تجنبًا للإقدام على الطلاق، فقط لأنها ببساطة لا تملك مكانًا آخر تلجأ إليه، ولأن عملها الرعائي، الذي أفنت فيه عمرها، غير مرئي أو غير مقدَّر. وحتى إن كانت تعمل وتساهم براتبها في دخل الأسرة، فكيف لها أن تثبت ذلك؟

نحن بحاجة ماسة إلى تعديلات تشريعية تحمي حق النساء في كدهن الذي قد يستمر عقودًا، ثم يجدن أنفسهن فجأة فقدن كل شيء.