تصوير شريف عازر لـ المنصة
لوحة للشاعر كفافيس في سوق موناستيراكي للأنتيكات، أثينا، فبراير 2025

البحث عن كفافيس.. الشاعر الذي لا يقول كل شيء

كيف يُقال الحب حين لا يجوز قوله؟

منشور الأحد 1 يونيو 2025

لا تحاولوا أن تكتشفوا من كنتُ

من كل ما قلتُه أو فعلتُه

كان هناك عائق

شوّه أفعالي وطريقة حياتي

كان هناك عائق

أوقفني كثيرًا عندما كنتُ على وشك الكلام

فقط من أفعالي الأشد خفاءً

ومن كتاباتي الأشد سرًا –

فقط من هذه يمكن أن يفهموني

ولكن، ربما لا يستحق الأمر

كل هذا الحرص والجهد كي يعرفوني

لاحقًا، في مجتمع أكثر كمالًا،

لا بد أن يظهر شخص آخر

خُلق على شاكلتي،

ويعيش ويعبّر بحرية


كأن النداهة ندهتني، فلم أدرك أن القرارَ الذي اتخذتُه سيكون بدايةَ غرقي في عالم الشاعر السكندري قسطنطين كفافيس العميق دون أن أدري.

خلال رحلتي من القاهرة لأثينا في فبراير/شباط الماضي، تصفحت المجلة الصادرة عن شركة الطيران اليونانية، النسخة الإنجليزية، لأصادف موضوعًا عن كفافيس وخبرًا عن استنساخ مؤسسة أوناسيس للثقافة متحفين له؛ واحد في أثينا والثاني في الإسكندرية في إطار مشروع أرشيف كفافيس.

قررت زيارة متحف أثينا، ومتحف الإسكندرية، وأن أبحث عن كتب كفافيس في مكتبات أثينا والترجمات العربية أيضًا.

معرفتي بكفافيس من قَبْلُ كانت سطحيةً لم تتجاوز القراءة عنه في إصدارات أدبية، وأعلم أنني لست أول من ندهه الشاعر اليوناني من الهاوية لكي يغوص معه في الأعماق، لكن تجربتي معه غريبة، فقد شعرت أنه يود إخباري بشيء.

أنت تحمل سرًا إذا كيف صمدت عمرك كله دون أن تخبر أحدًا

في أول يوم لي في أثينا، زرت سوق الأنتيكات في منطقة موناستيراكي، لأجد علامات كفافيس تطاردني على كل جانب. ها هي لوحة زيتية له، وها هو كتاب له باليونانية، وها هي قصاصة جريدة تتحدث عنه. لا أفهم اللغة اليونانية، لكني أستطيع قراءة الحروف ونطقها من واقع معرفتي باللغة القبطية، لذا استطعت تمييز اسم كفافيس Καβάφης من بين السطور.

شارع كفافيس، محطة الرمل، الأسكندرية، 29 أبريل 2025

لدى مروري على مكتبات أثينا، دائمًا ما كانت تطالعني صورته على الأغلفة وتطل من كل رف. ماذا تريد مني أيها الكفافيس؟ اشتريت كل ما وجدت باللغة الإنجليزية، وبدأت القراءة. يا ويلي! أنت تحمل سرًا إذًا. كيف صمدت عمرك كله دون أن تخبر أحدًا.

في رحلة العودة إلى القاهرة أجلس في الطائرة أقرأ مجموعة من القصائد، وأشعر أنني أدركتُ السر، خاصة في قصيدة "شابان، أعمارهما بين 23 و24 عامًا". وأقرر أن أكمل رحلة البحث عند وصولي، فتوجهت إلى الإسكندرية.

أقف في متحف كفافيس القريب من محطة الرمل، وأنا أقرأ نبذة عن حياته في إحدى اللوحات الإرشادية، تاريخ وفاته 29 أبريل/نيسان، هو  ذاته تاريخ ميلاده، أتفقد تاريخ اليوم فأجده 29 أبريل، أي ألعاب قدرية تلعبها معي؟!

ولد قسطنطين بيترو كفافيس في التاسع والعشرين من أبريل عام 1863 في مدينة الإسكندرية لأبٍ يوناني ثري يعمل في التجارة. كانت أسرته تنتمي إلى الجالية اليونانية الكبيرة التي استقرت في مصر خلال القرن التاسع عشر. بعد وفاة والده، واجهت العائلة ظروفًا ماديةً صعبةً، ما اضطرها للانتقال إلى إنجلترا بعض الوقت، ثم عادت لاحقًا إلى الإسكندرية، حيث أمضى شاعر الإسكندرية معظم حياته. وحتى وفاته بالإسكندرية، في 29 أبريل 1933، عن عمر ناهز السبعين.

 عمل كفافيس موظفًا بسيطًا في قسم الري بوزارة الأشغال العامة، وهي وظيفة ظل يشغلها سنوات طويلة حتى تقاعده. لم يكن يحب الأضواء أو الظهور الاجتماعي، وفضّل حياة العزلة والتأمل، مكرسًا وقته للقراءة وكتابة شعره باللغة اليونانية، مستقيًا الكثير من رموزه ومعانيه من التراث اليوناني القديم والبيزنطي، إضافة إلى التاريخ الروماني.

يكتب عن المثلية بوصفها تجربة داخلية معقدة يعيشها في الظل ويتذكّرها بنوع من العاطفة الممزوجة بالحذر والخوف والحنين

لم ينشر كفافيس دواوينه الشعرية بالطريقة المعتادة، بل كان يطبع قصائده على نفقته ويوزعها في كتيبات صغيرة بين أصدقائه ومعارفه. وبعد وفاته، بدأ الاعتراف به باعتباره أحد أهم الأصوات الشعرية في الأدب اليوناني عبر تاريخه.

تناولت قصائده موضوعات على رأسها الهوية، الاغتراب، الشك، الرغبة، والزمن، بأسلوب يجمع بين الرمزية والتأمل الفلسفي، ما منحه مكانة متميزة بين شعراء عصره. 

أثناء زيارتي لمتحفه بالإسكندرية، تحدثت مع إحدى المشرفات. سألتها بصراحة، هل كان لكفافيس ميول مثلية الجنس؟ فأنكرت بشدة ودافعت بكل ما لديها من حجة وبرهان أنه ليس كذلك. ومن الصعبية في ردها عرفت لماذا عاش كفافيس في الإسكندرية وحيدًا مختفيًا منغلقًا على ذاته، فهذا المجتمع كافٍ بأن يفتك به فتكًا لو علم بالأمر.

المثلية في شعر قسطنطين كفافيس تكمن بين السطور، لا لأنها غائبة، بل لأنها محجوبة عن النظر المباشر ومحمّلة بالتلميح، والرمز، والسكوت. لم يكتب عن المثلية بوصفها هوية سياسية أو موقفًا اجتماعيًا، بل بوصفها تجربة داخلية معقدة، يعيشها في الظل، ويتذكّرها بنوع من العاطفة الممزوجة بالحذر، والخوف، والحنين.

لا تُقَدَّم المثلية بوصفها صراعًا بل فقد دائم.. لحظة سعادة سريعة تنقضي وتبقى في الذاكرة وحدها

في قصائده، لا تُذكر الأجساد بأسمائها الكاملة، ولا تُوصَف الرغبات صراحة. بل نلمحها في نظرة عابرة، في جسد يمرّ بسرعة، في علاقة انقطعت فجأة. يقول بقصيدة "في الحانة":

كان جالسًا قبالتي، لا يقول شيئًا،

لكن جسده كله كان يقول…

هذان السطران اختصرا كثيرًا من المثلية الخفية في شعره: جسد حاضر، كلام غائب، ولغة تبوح بما لا يُقال.

سرير كفافيس في متحفه بالإسكندرية، نوفمبر 2014

كفافيس كان يعيش في مجتمع محافظ، والمجاهرة برغباته قد تعني العزلة أو الإدانة. لذا لجأ إلى الشعر ليخلق مساحته الخاصة، حيث تُقال الأشياء من وراء ستار، وتُترك للمتلقي حرية التأويل.

كثير من قصائده تستند إلى الذاكرة لا اللحظة الحاضرة، كأن المثلية لا يمكن أن تُعاش إلا كماضٍ:

أتذكر كيف دخل الغرفة،

وكيف لمست يدهُ يدي للحظة

ثم اختفى إلى الأبد.

بهذا الشكل، لا تُقَدّم المثلية بوصفها صراعًا، بل فقد دائم، لحظة سعادة سريعة تنقضي وتبقى في الذاكرة وحدها.

وفي بعض الأحيان كان كفافيس يجهر بالحب بين الرجل والرجل، بالرغم من إنكار مشرفة المتحف، فكان يقول:

مفعمين بالفرح والحيوية، بالإحساس والجاذبية،

ذهبا – لا إلى بيوت العائلات "المحترمة"

حيث لم يعودا مرحبًا بهما أصلًا

بل إلى بيت معروف، مميز،

بيت رذيلة، وطلبا غرفة نوم

ومشروبات فاخرة، وراحا يشربان من جديد

وعندما انتهت المشروبات الفاخرة

وكان الفجر قد اقترب،

وهما في سعادة،

أسلما نفسيهما للحب

من قصيدة "شابان، أعمارهما بين 23 و24 عامًا"

عاش كفافيس ومات في الظلام، ولكن أعماله وروحه يطلان من الأعماق ليناديا على المارة، في زمن آخر، ربما هو أكثر تقبلًا وترحيبًا وتفهمًا، ولكن ربما لا، ليس بعد، وهل سيأتي اليوم الذي يفهم العالم كل أشكال الحب؟

أعتذر لأنك متَّ وحيدًا، كأنك غادرت كما عشت؛ على الهامش، في مدينة كنتَ تحبها، لكنها ظلمتك. أعتذر عن العيون التي لم ترَك، عن الذين قرأوا قصائدك ولم يقرأوا وجعك. كنت إنسانًا يتوق للحبّ في عالمٍ لا يتقن الحب، شاعرًا يرى في الظلال حياةً كاملةً، وفي الجسد ذاكرة لا تُمحى. لكنك بقيت، في كل قصيدة خافتة، وفي كل عاشق لا يجد الكلمات، فيجدك، ويجد العزاء.