أدت ثيمة البطل الشعبي دورًا مهمًا في السينما ومرت بمراحل وتغيرات عدّة، تبعًا للظروف السياسية والاجتماعية السائدة في كل مرحلة، حيث أصبحت أكثر حضورًا وتوهجًا عقب ثورة 1952، وتأرجحت بين عدة تصورات وصولًا إلى ثورة يناير وما بعدها، ويمكن أن نعتبر أنها ستنتظر طويلًا في محطة الضابط الذي يحارب الإرهاب ليس فحسب من خلال السينما، لكن أيضًا من خلال الدراما بعد أن هيمنت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية على صناعة الأخبار والترفيه في مصر منذ تأسيسها في عام 2016.
اقتبست السينما ثيمة البطل الشعبي أساسًا من قصص البطولات التي تضمنتها السير الشعبية في التراث الأدبي العربي، وما التصق بها من صفات نبيلة مثل الشجاعة والكرم والمروءة، كما جاءت على ألسنة الرواة والحكّائين، وتصب في اتجاه أساسي هو الانتصار للحق والوقوف بجانب المظلومين. واستلهمت السينما الروائية سيرة عنترة بن شداد، وأبو زيد الهلالي، والظاهر بيبرس، والأميرة ذات الهمة وغيرها من السير والقصص، للتعبير عن صراع الخير والشر.
رسمت السينما طوال تاريخها الطويل صورة مثالية للبطل الشعبي، وألبسته عباءة المُخَلِّص الذي يَقهر الأشرار ويحقق العدل، غير أن ثمة تفاوتًا ملحوظًا وتحولات جذرية في ملامح هذه الشخصية من مرحلة زمنية إلى أخرى بناءً على معطيات اجتماعية وسياسية خاصة بكل مرحلة.
متمرد ثائر بعد 1952
اختلف تصوير شخصية البطل الشعبي في السينما المصرية عقب ثورة 1952 عما قبلها. وبينما جاءت صورته قبل الثورة نمطية ومنقولة من المرويات الشعبية كما في فيلم أبو زيد الهلالي 1947، أو تاريخية كما في فتح مصر 1948 الذي تناول تكاتف المصريين ضد الرومان، أو وعظية كما في فيلم أولاد الشوارع 1951 الذي حمل رسالة عن أثر البيئة الاجتماعية على النشء، تحولت صورته عقب الثورة، في عديد من الأفلام، لتظهر صورته مفعمة بروح البطل الثائر المخلّص الذي يبذل التضحيات من أجل الجميع.
هذه الصورة المحدثة الثورية نجدها واضحة في عدد كبير من أفلام ما بعد تلك الفترة، مثل الله معنا 1955، ورد قلبي 1957، ووطني وحبي 1960 وفي بيتنا رجل 1961 وأدهم الشرقاوي 1964، والمماليك 1965، والأرض 1970 وغروب وشروق (1970)، وحتى الأفلام الأحدث مثل ناصر 56 من إنتاج 1996 وجمال عبد الناصر 1999، وأيام السادات 2001. انتقدت معظم هذه الأفلام مرحلة الملكية والفساد المستشري وفق تصورها، وارتكزت على رصد مساوئها وتأثيراتها السلبية على المصريين.
المرأة محاربة على عدة جبهات
قدمت المرأة شخصية البطل الشعبي في عشرات الأفلام، وجسدتها بوعي شديد في أفلام عن النضال ضد المحتل، ومواجهة الاستبداد، وحرية الرأي، وجاء فيلم جميلة 1958 من إخراج يوسف شاهين، معبرًا عن صورة حقيقية من صور نضال شعب الجزائر، فقد ارتكزت الأحداث على الدور الذي لعبته المناضلة الجزائرية أيقونة الكفاح ضد الاستعمار، التي تصدرت المشهد العالمي كواحدة من أبرز المناضلات في التاريخ الإنساني بعد ما ذاقته من أذى في معتقلات الفرنسيين، وعبر الفيلم عنها باعتبارها واحدة من البطلات الشعبيات اللاتي اتسمن بالبطولة والشجاعة والتضحية.
عبَّرت السينما عن صور النضال للمرأة في عديد من الأفلام مثل الباب المفتوح 1963، وانتبهت فيه المرأة لضرورة المشاركة في الحياة العامة وأن تسير جنبًا إلى جنب بجوار الرجل في مسيرة النضال ضد العدوان، وحمل الفيلم إرهاصة لما يمكن أن تؤديه المرأة من واجبات تجاه مجتمعها. وجاء فيلم الزوجة الثانية 1967 معبرًا عن فاعلية دور المرأة في مواجهة الاستبداد، إذ استطاعت فاطمة الفلاحة البسيطة أن تتصدى للعمدة الظالم بالحيلة والخداع ونجحت في إعادة الحق لكل مظلوم من أهالي القرية.
كما عبرت شادية في فيلم شيء من الخوف 1969 من إخراج حسين كمال، عن قيمة البطل الشعبي، فواجهت ديكتاتورية عتريس وحرضت أهل القرية على الثورة، وكذلك ماجدة الخطيب في زائر الفجر 1973، والهروب من الخانكة 1987، إذ عبَّرت في الفيلمين عن ضمير الإعلام ودوره في مواجهة قوى الفساد والاستبداد من خلال امرأة تتقصى الحقائق وتدافع عن الحق والعدل مهما كان الثمن.
كما عبرت المرأة عن صورة من صور البطل الشعبي في فيلم العمر لحظة 1978 من إخراج محمد راضي، إذ تقوم بدور إيجابي تجاه الناس بالتوعية، وتذهب إلى الجبهة أثناء حرب الاستنزاف وتظل بجوار الجنود للتخفيف عنهم والكتابة عن تجاربهم على خط النار حتى يتحقق النصر.
لا يغفل ما قدمه هنري بركات على وجه الخصوص من أفلام تتميز بهذه النزعة، فقد ترك إرهاصات حقيقية واتجاهًا يعمل على إعادة تشكيل ملامح المرأة فنيًا وتقديمها من خلال الشخصية الأبية، الرافضة لكل مظاهر الاستبداد والبؤس والتسلط، وهو ما نلاحظه في أفلامه التي تتمحور حول المرأة دعاء الكروان 1959، والباب المفتوح 1963، وأفواه وأرانب 1977، وغيرها من الأفلام.
ويمكن اعتبار شخصية أبلة الناظرة التي قدمتها هالة صدقي في فيلم هي فوضى 2007 واحدة من تجليات البطل الشعبي، حيث ناضلت ضد الظلم والقبح من أجل إعلاء قيم الحق والعدل، وانتصرت للبسطاء وحرضتهم على الثورة ضد أمين شرطة فاسد.
فيما تراجع حضور المرأة في ثيمة البطل الشعبي سينمائيًا في معظم أفلام الألفية الجديدة، وجاءت الشخصيات التي قدمتها نمطية ومقهورة خاصة عقب ثورة يناير، فإن كانت قد عبرت، في قليل من أفلام الألفية، عن رفضها للفساد كما في فيلم هي فوضى، وركزت على البحث عن ذاتها دون وصاية كما في في شقة مصر الجديدة 2007 من إخراج محمد خان، على سبيل المثال؛ فإنها بدت مقهورة ومغلوبة على أمرها في عشرات الأفلام.
مهزوز ومهزوم بعد يناير
وعلى صعيد السينما العربية عقب ثورات الربيع العربي ظهر البطل الشعبي مهزومًا، كما في شخصية يوسف التي قدمها أيمن زيدان في الفيلم السوري رحلة يوسف 2022، وشخصية المحامي حبيب التي قدمها ظافر العابدين في الفيلم التونسي غدوة 2021، والشخصية التي قدمها الممثل السوداني ماهر الخير في فيلم السد 2022.
تلاشت صورة البطل الشعبي عقب ثورة يناير وحتى الآن، حسب مفهومها وتصويرها في الأدب الشعبي أو في كلاسيكيات السينما، فقد جاءت الصورة متماشية مع الواقع الجديد وتبدلاته، وذلك باستثناء أفلام قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أو تلك التي استلهمت التاريخ مثل أهل الكهف 2024 فظهر البطل الشعبي مصارعًا في العصر الروماني، أو زعيمًا للشطار كما في فيلم الكنز بجزأيه (2017، و2019) الذي يفرد مساحة واسعة لشخصية علي الزيبق البطل الشعبي الأسطوري الذي كافح ظلم الحكام بالحيلة والدهاء.
إن صورة البطل الشعبي في أغلب الأفلام التي جاءت عقب ثوة يناير 2011 إلى الآن، لا تعبِّر تعبيرًا جادًا عن البطل الشعبي، بل تطرح مزيدًا من الصور البعيدة عن ما اعتادته الذائقة العربية من صور وملامح البطل الشعبي طوال القرن العشرين، فهي تقدم صورًا باهتة وغير مقنعة لهذه الشخصية التي كانت مؤثرة لعشرات السنين. ومنها أفلام عبده موتة والألماني 2012، وقلب الأسد 2013.
الأفلام الثلاثة تدور حول الجريمة وتجارة المخدرات، وتعبِّر عن تحول حاد في مسيرة البطل الشعبي الذي قدمته السينما المصرية على مدى عقود طويلة مثالًا ورمزًا للعدل والتسامح.
في دراسة بعنوان "إشكالية الصورة الذهنية لمصر؛ جدل البطل الشعبي والبطل المضاد- فترة ما بعد 2011 أنموذجًا"، يحلل المترجم والناقد الأكاديمي الدكتور حازم الجوهري، الصورة الذهنية للبطل الشعبي في السينما المصرية ويرى أنها أصبحت موضع نزاع بعد يناير 2011 "جرت محاولة لتخليق صورة مضادة للبطل الشعبي تختلف إجمالًا عن البطل التقليدي الذاتي والمهمش الذي ظهر في سينما الشباب في العقد الذي سبق ثورة يناير، وذلك من خلال نمط مركزي تم الترويج له بطرق متعددة في الدراما وفي السينما"، ويضرب مثالًا بمجموعة أعمال سينمائية ودرامية من بطولة محمد رمضان مثل عبده موته وقلب الأسد والألماني ومسلسل الأسطورة أثارت جدلًا وحققت انتشارًا "باستفزازه الذائقة التاريخية العامة عند عموم المصريين".
كما أدت هيمنة شركة المتحدة للإنتاج الإعلامي على الإنتاج الدرامي والسينمائي إلى ترويج مختلف لمفهوم البطل الشعبي، اختزل في صورة ضابط الشرطة أو الجيش الذي يتصدى للإرهاب ويحمي الوطن مثل فيلم السرب من إنتاج 2024 من إخراج أحمد نادر جلال، والمرة التي أنتجت فيها المتحدة فيلما يحمل ملامح البطل الشعبي المناضل خارج هذا السياق كان في فيلم كيرة والجن من إخراج مروان وإنتاج 2022، واستلهم قصة تاريخية وقعت أحداثها إبان ثورة 1919 وما بعدها، عن نموذجين من نماذج البطولة والنضال.