مرحبًا بك في عالم روكي. هنا النصر والهزيمة مفهومان متداخلان ومتقاطعان يصعب الفصل بينهما في أحيان كثيرة..
إذا لم يَسبِق لك مشاهدة الفيلم الأيقوني روكي Rocky فغالبًا سَمِعتُ عنه ولو مرة واحدة. وإذا لم تكن تعرفه فهو هذا الملاكم الشهير الذي هُزم في النهاية.
في عام 1976 كانت البداية. دبّت الحياة في جسد روكي بفضل سيلفستر ستالون الذي اكتشف لاحقًا أن روكي هو من أحيا مسيرته الفنية ومنحها خصوصيتها؛ إذ صَعَد سيلفستر من القاع إلى القمة بجوار نجوم هوليوود بضربة واحدة. ضربة رشحته لجائزتي أوسكار عن سيناريو الفيلم الذي كتبه وعن دوره أيضًا.
استمرت رحلة سيلفستر في هولييود كأحد نجوم الأكشن لكن بعيدًا عن الجوائز، حتى جاء روكي مجددًا عام 2015 (أيّ بعد فيلمه الأول بـ39 عامًا) ليحصد جائزة الجولدن جلوب ويقتنص ترشحًا جديدًا للأوسكار بنفس الشخصية في فيلم Creed؛ ما دفع ستالون لإهداء الجولدن جلوب لصديقه.. "أود أن أشكر صديقي الخيالي روكي بالبوا لكونه أفضل صديق حظيت به".
رفيقان
ذاق سيلفستر ستالون خلال رحلته مع روكي طعم النجاح وتجرع أيضًا مرارة الفشل. وعَبَرت أجزاء السلسلة عن مراحل النجاح في مسيرة سيلفستر الفنية بطريقة تدعو للدهشة؛ فالفيلم الأول الذي أُنتِجَ عام 1976 كان الأنجح جماهيريًا وكذلك على مستوى النقد الفني الموجّه له. وتوافق نجاحه مع سطوح نجم ستالون فجأة ثم جاءت الأجزاء من الثاني للرابع في الفترة بين عامي 1979 و1985 مصاحبة لنجاحات جماهيرية؛ مع تراجع تدريجي في المستوى الفني وتوافق هذا أيضًا مع تذبذب في مسيرة ستالون الفنية وأعماله الأخرى.
وفي عام 1990، ظهر الجزء الخامس من السلسلة والذي لم يلق النجاح المنتظر. وكان هذا ما حدث في مسيرة سلفستر التي بدأت في الخفوت.
عقب هذا الجزء توقفت السلسلة طويلاً. اختفى روكي 16 عامًا وظن كثيرون أن الشخصية الأيقونية أصبحت جزءًا من الماضي، قبل أن يعود من جديد عام 2006 ويظهر متحديًا بطل العالم الشاب، ليفوز بالرهان نقديًا وجماهيريًا متسلحًا بالحنين إلى الماضي.
هذه العودة رافقت صعود سيلفستر مرة أخرى ودخوله في العديد من التجارب السيمائية الجديدة التي عاد بها لمصاف النجوم محققي أعلى الإيرادات في هوليوود. هكذا كانت مسيرة ستالون مرتبطة بروكي.
وهكذا اكتسبت السلسلة قدرًا من تميزّها. فتفاوت مستوى الأفلام وإنتاجها على فترات زمنية متباعدة. واختلاف وقع اسم البطل على الآذان. وانتقاله من موضع لآخر. من النصر للهزيمة والعكس. كل هذا خلق شعورًا لدى المتابعين أنهم يشاهدون واحدًا منهم. يختلف عنهم في نقطة وحيدة أنه يواجه مصيره على الحلبة.
مفاهيم جديدة
رَسَخَ الجزء الأول من السلسلة مفهومًا مغايرًا للفوز. الجميع ينتظر في أفلامٍ كهذه أن ينتصر البطل في النهاية انتصارًا ماديًا يعوضه عن قسوة ما واجهه طوال أحداث الفيلم، إلا أن روكي في جزئه الأول تعرض للهزيمة في نهاية المطاف، لكن كيف انهزم؟ هذا هو المحور الذي يدور في فلكه الفيلم بأكمله.
يعرف روكي قدراته جيدًا، ويعرف أنه يواجه بطل العالم أبوللو كريد الذي لم يُهزَم قَط. ويعرف أنه لا يوجد مُلاكِم استطاع إكمال مباراة أمام كريد. هذه الحقائق تؤرقه ليلة المباراة، يخرج إلى الشوارع الخالية متجهًا إلى الحلبة المُقدَّر لها أن تشهد النزال، وعندما يجد خطأ في صورته المُعلَّقَة فوق الحلبة يتيقن أنه ليس المَعنِيّ في هذه المباراة. كل شيء مهيأ لفوز جديد لبطل العالم. وعند العودة للمنزل قال لحبيبته إنه لن يفوز.
كل ما أراده روكي أن يظل واقفًا حتى النهاية. وقتها سيعرف أنه ليس مُلاكِمًا متسكعًا. وبالفعل يتحمل اللكمات وينهي المباراة وهو قريب من الفوز. نسمع في هذه اللحظات واحدة من أعظم المقطوعات الموسيقية في تاريخ السينما، نسمعها خلال مقاومة روكي للهزيمة، وتنتهي المباراة ونرى بطل العالم يتراجع ويخبر روكي بعدم إقامة مباراة أخرى بعد التعادل، فيرد بيقين "لا أحتاجها" ويدير ظهره للجميع متجاهلًا نتيجة المباراة التي يفصل فيها الحُكّام، مناديًا على حبيبته.
حقق روكي حلمه بنجاح. هو مهزوم أمام الجميع منتصر أمام نفسه. هنا يحاول وضع قوانين جديدة للنصر والهزيمة لتأتي النهاية غير معتادة وصادمة لكثيرين.
وكما رأينا روكي المنتصر رغم الهزيمة. نراه مهزومًا رغم الانتصار. إذ يبدأ الجزء الخامس بانهيار شامل للبطل بعد فوزه بصعوبة في نهاية الجزء الرابع،.انهيار أعقب خروجه من الحلبة منتصرًا في واحدة من غرائب الفيلم، يبرر روكي هذه الحالة لحبيبته إدريان وهو يرتعد. يقول لها على لسان مدربه ميكي "عندما تقاتل شيئًا ما، تقاتل بقوة لدرجة أنك تكسر شيئًا بداخلك، شيئًا قد يقتلك".
بنظرة سريعة على جميع أفلام سلسلة روكي نجد أن هزائمه عادلت انتصاراته؛ فقد خاض ستة نزالات في ستة أجزاء. خسر منها ثلاثة وفاز بثلاثة. وبين الثلاث هزائم هناك هزيمة واحدة منكرة كادت أن تنهي مسيرته كملاكم. مات بعدها مدربه. فيما جاءت كل من الهزيمتين الأخريين بمثابة انتصارٍ له. وللصدفة كانتا الأولى والأخيرة، ولهما نفس السيناريو في التحدي ومقاومة السقوط وإنهاء المباراة قريبًا من الفوز.
علاقات معقدة
على عكس ما قد يتوقعه البعض ممن لم يروا السلسلة، فإن الحُكمْ الأول عليها أنها رياضية بالدرجة الأولى تدور حول الملاكمة فحسب غير صحيح. يصطدم المُشاهِد في روكي بنوع خاص من الرومانسية والدراما.
روكي ليس من الأفلام التي تتبخر من الذاكرة فور نهايتها. فهو يحمل بين طياته تفاصيلا كثيرة؛ قصة حب دامت بين البطل وبين حبيبته ادريان استمرت حتى بعد وفاة البطلة على الشاشة وظلت ذكراها تحوم في أحداث أخر فيلمين على الرغم من عدم ظهورها فعليًا. صداقة قوية بين روكي وصديقه بولي أخو ادريان. وعلاقته بالملاكم أبوللو الذي نازله في مناسبتين وشهد وفاته ودَرَبَ ابنه، وعلاقته بمدربه ميكي، الذي رأى وفاته وظلت ذكراه معه للنهاية.
هذه العلاقات الإنسانية كانت أساس الفيلم بعيدًا عن النزال الرياضيّ. هذه العلاقات أعطت للفيلم تصنيفًا دراميًا باقتدار. وهي أيضًا أحد نقاط الارتباك في عالم روكي، حيث تصطدم بمجموعة من العلاقات تعرف معنى الحب والكره والتحدي والغضب.
جميع العلاقات بين روكي وبين الشخصيات الأخرى أخذت منحنيات عِدّة ولم تَسِر على خطٍ واحد، كان هذا أيضَا عامل من عوامل نجاح الفيلم وتَعلُّق الجمهور به.
أيضًا تُعطي سلسلة روكي لمشاهديها جرعة كبيرة من الحزن على عكس المتوقع منها. روكي يَمُر بالعديد من اللحظات الحزينة؛ يُفارِق الكثير من الأحباء، يحاول دائمًا العودة من الهزيمة للانتصار، وعندما يصل يجد شيئًا ما ينقصه. دائم الصراع مع نفسه ومع من حوله ومع منافسه المباشر.
هذا المنافس المباشر الذي يتمثل دائمًا في مُلاكِم أخر ما هو إلا إنعكاس لما يلاقيه البطل خارج الحلبة.
تختلط لدى روكي ملامح الهزيمة والنصر، تمامًا كما نرتبك نحن خلال المشاهدة. وكما نشعر تجاه الأحداث في النهاية، هل نحزن لما لاقاه البطل، أم نسعَد لتحقيقه مُراده في النهاية.
سعادة أم حزن؟ هزيمة أم انتصار؟ لا نعرف الإجابة بالتحديد، جَلَّ ما نعرفه أننا نُحِب هذا البطل الذي نرى أنفسنا فيه..نُحِب هذا البطل المهزوم.