قبل أكثر من سبعين سنة كانت شوارع القاهرة تُغسل كل صباح بالماء والصابون، وكان الفرنسيون يقولون "نتمنى أن تكون باريس نظيفة مثل القاهرة"، لكن هذه المزية لم تلبث أن ضاعت بمرور السنين، حتى صارت عاصمة مصر ومدنها القديمة، من أكثر المدن فوضى وتلوثًا في العالم، بل عادت بعض أحيائها وجوانبها أو حوافها إلى ما كانت عليه قبل التحديث العمراني.
وحدها شوارع المدن الجديدة أو الكومباوندز، التي تحتفظ برونقها دون قمامة، لتثبت أن الناس في بلادي ليس عصيًا عليهم أن يتخذوا من نظافة الشوارع سبيلًا لراحة العين، وصحة البدن، وأنهم ليسوا وحدهم الذين يرون النظافة من الإيمان، ومن تحضر الإنسان، وميله إلى السكينة والجمال، بل لأنهم قادرون على الدفع مقابل النظافة، معتمدين في ذلك على شركات خاصة، أو عمال يخصونهم.
أما الأحياء المتوسطة والفقيرة فقد تركت لإهمال الناس وتقاعس حكومة تُحصّل رسوم نظافة مع إيصالات الكهرباء الشهرية، لكنها تقصر جهدها على كناسي الشوارع، الذين يتوزعون ليلًا على أماكن تجمع القمامة ليرفعوها بانتظام، لكن هذا الرفع يتأخر كثيرًا في الأحياء الشعبية، والشوارع الخلفية، التي اعتاد الناس فيها على منظر القمامة ملقاة عند بعض الجدران، أو على أرصفة ضيقة تتوسط الشوارع، تغوص فيها أحيانًا أقدام السائرين.
هناك بنايات يعتمد سكانها على جامع القمامة التقليدي، الذي يأتي مساء فيدور على الأبواب، ويُلقي ما جمعه في جوف عربة ربع نقل، أو عربة كارو يجرها حمار، ويكون ذلك مقابل رسوم شهرية، تقدر على دفعها الطبقة المتوسطة، وتراها الطبقات الفقيرة والمهمشة فوق طاقتها.
وحين تُسأل الحكومة عن حاويات القمامة، التي تم توزيعها ذات يوم ثم اختفت؟ تكون الإجابة: وضعناها وسُرقت، فلأنها من حديد، سطا عليها مجهولون لبيعها إلى من يصهرها ويعيد تشكيلها.
لكن هذا عذرٌ غير مقبول، والسرقة إن كانت جرت في أحياء فقيرة، فهي لم تقع في أخرى تسكنها الطبقة المتوسطة وما فوقها. وهناك حاويات من بلاستيك يمكن صناعتها أو استيرادها وترفعها عربات جمع القمامة في يسر وسلامة.
ويُحاط كل ذلك بثقافة سلبية تقول إن المصري يهتم بشقته من الداخل فينظفها ويزينها بينما لا يتأفف من الهيئة القذرة التي تكون عليها البناية من الخارج، أو الشارع الذي تنتصب فيها البنايات، التي تؤدي إلى بيته.
فوضى الرصيف
تصنع القمامة فوضى في شوارعنا، لكنها ليست الوحيدة، فهناك فوضى ناجمة عن ضيق الأرصفة أو إشغالها من قبل باعة جائلين، أو بسبب المقاهي والمطاعم التي يدفع أصحابها لرجال البلدية في سبيل غض النظر عن احتلالهم لها. وحتى بعض أصحاب المحلات يجورون على الأرصفة، ويمدون إليها بضائعهم، وكأنها صارت جزءًا لا يتجزأ من حوانيتهم.
في هذا الإطار، صارت بعض المقاهي والمطاعم والورش والمحلات مصدر إزعاج لسكان الشقق التي تعتليها. وبعض هؤلاء يتقدمون بشكوى تلو الأخرى مطالبين بتطبيق لوائح الضبط، لكن الشرطة تعتبر مثل ذلك التبرم شيئًا زائدًا عليها، وصادرًا ممن لا يقدرون حجم همومها، وهي العاجزة عما تراه جديرًا باهتمامها من الجرائم والسلوكيات التي تهدد الأمن العام، فضلًا عن الأمن السياسي الذي يجُب في بلادنا ما عداه.
احتلال الأرصفة على هذا النحو، أو ضيقها على الغادين والرائحين، جعل هؤلاء يضطرون إلى السير في أنهار الشوارع، فيأخذون من المساحات المخصصة للسيارات والدراجات، فيكون سائقوها مضطرين هم الآخرين إلى السير بطيئًا.
من الأسمنت والتراب
وللمركبات بمختلف أنواعها فوضاها أيضًا، تصنعها مرة بعدم التزام قواعد المرور، وأخرى بمحاولات مغالبة الزحام، وثالثة بصنع ضجيج عارم. وبمرور الوقت، وبحكم الاعتياد، صار ضغط السائقين على هذه الأبواق سلوكًا نمطيًا متكررا، يصدر ويخرج ويزعج، حتى لو لم تكن هناك حاجة ماسة إليه.
وما يزيد الطين بلة أن قواعد المرور منتهكة، سواء في التزام خطوط السير أو مقدار السرعة، ورجال المرور غائبون عن مناطق كثيرة، في مدن مكتظة بالسكان، وشوارع تحتاج إلى جيش عرمرم من المنظمين، في ظل غياب الإشارات عن بعضها، وتعطلها في البعض الآخر.
تغض الدولة البصر لأنها غير قادرة أو غير راغبة في توفير البدائل
ولم تسلم الطرق الرئيسية التي تربط بين المدن، فهي إن كانت تشق بطن الصحراء سلمت من العراقيل، وإن كانت واصلة بين القرى والمدن الصغيرة على الأسفلت، وتنفتح عليها أبواب البيوت، لجأ السكان إلى إقامة مطبات يدوية، من الأسمنت والتراب، لا تراعي سلامة السيارات، ليجبروا السائقين على تخفيف السرعة حفاظًا على أرواح صغارهم أو بهائمهم.
ويكفي في هذا المقام أن نقول إن الطريق الزراعي القديم الذي يربط القاهرة بأسوان، والذي كان قبل عقود هو المسلك الوحيد الموازي لشريط السكة الحديد، صار معدمًا، ولولا أن الحكومة عبّدت طريقين آخرين، واحد في الصحراء الغربية، والآخر في الشرقية، لتعذر الذهاب بالسيارات من القاهرة إلى الصعيد والعكس.
وتمتد الفوضى إلى الأسواق الشعبية، التي تقام بين البنايات المأهولة بالسكان، وتختلط وتتداخل بطريقة تجعلها عصية على التنظيم، ويمتد هذا ليشمل الشوارع التي تحل فيها مصالح وهيئات حكومية يحتاج جمهور عريض إلى التردد عليها لقضاء حوائجهم.
ففي أوقات العمل، ولا سيما ساعات الذروة، يحتشد الناس أمام نوافذ هذه المصالح، أو ينظمون طوابير تمتد إلى نهر الشارع، وقد تغلقه أمام السائرين والسيارات معًا. ويزيد من سوء الوضع استمرار المركزية الإدارية التي تجعل مواطنًا يأتي من مدينة أو قرية نائية إلى القاهرة، ليمهر ورقة رسمية بخاتم الدولة، أو يحصل على موافقة موظف كبير.
ضيق البيوت
في الأحياء الشعبية، ومتوسطة الحال، تضيق المقاهي بالهاربين من ضيق البيوت وزمتتها، فيقفون على النواصي متسامرين، وبعض هؤلاء لا يلتزم بآداب الطريق، فتشكو النساء من التحرش، والعجائز من التنمر، والسابلة من التلصص.
وزادت هذه الظاهرة، وانتقلت من الشوارع إلى الكباري التي تعتلي النيل، والتي يعتبرها بعض الشباب ممن تضيق جيوبهم عن أثمان مشروبات المقاهي، متنزها لهم.
وتغض الدولة البصر عن هذه الظاهرة، لأنها غير قادرة أو غير راغبة في توفير البدائل، وكل ما يهمها هو ألا يتم تسييس هذه التجمعات البشرية العفوية، حال استغلال بعض نشطاء السياسة لها وتحويلها من المتعة الرخيصة إلى التذمر. وهي مسألة فصل في شرحها آصف بياتي في كتابه الممتع الحياة سياسة. لهذا تتابع عيون صغار رجال الأمن هذه التجمعات عن كثب، لاسيما في أوقات الأزمات.
إن فوضى الشوارع في بلادنا لن تنتهي طالما أن المدن الجديدة التي تُبنى ليست في متناول الشباب رقيقي الحال، وليس فيها مصدر رزق للراغبين في الذهاب إليها إن كانوا قادرين، وطالما أن الحكومة تنظر إلى الأرض، وليس الإنسان، على أنها مصدر الثروة، وبذا تسارع إلى إقامة بنايات جديدة في أي مكان يخلو في المدينة المزدحمة. ولا يمكن أن نغفل في هذا المقام، بالطبع، الزيادة السكانية التي يغلب فيها الكم على الكيف، والزحام على النظام.