لا يدري بحال من خُلع من مكانه عنوة سواه، ولا يستطيع التعبير عما هو فيه إلا لسانه. وحده هو القادر أن يقول لنا ما إذا كان صار سعيدًا أم تعيسًا، وليس أجهزة إعلام السلطة التي تتحدث عن تطوير العشوائيات، وهي مسألة بالطبع كانت ضرورية، دون أن يخبرنا الإعلاميون على نحو صادق ودقيق بمآل هؤلاء الذين أُخذوا من بيوتهم أخذًا، لأسباب ليسوا مسؤولين عن أغلبها.
ففي هذه القضية، كانت البداية بيد السلطة، وإن شئنا نقول الدولة، وهي بيدها غالبًا في النهاية أيضًا، وفي الوسط. فما كانت عشوائيات المدينة ومخالفات الريف وفوضى إسكانهما بعيدة عن ذنب اقترفته حكومات متعاقبة، وعن آثار قرارات عليا متتالية، يمكن تلخيصها في نقاط محددة:
1 ـ حبس الأرض عن الناس تحت لافتة "أرض الدولة"، وكأن الدولة يمكن أن تقوم دون الشعب، أو أن هذا الشعب ليس له حق فيها، باعتباره الركن الأساسي في الدولة، وهو صاحب المال العام، وكل الثروة منه ويجب أن تكون له، بما فيها المخبوء تحت الأرض من ركاز. وهذه اللافتة لم تكن مجرد شعار مرفوع، إنما هي حزمة من القوانين المقيدة، والإجراءات الكثيرة العصية على عموم الناس.
ولا جدال في ضرورة وجود قانون يمنع نهب الأراضي أو الاستيلاء عليها من ذوي سطوة، لمال أو جاه أو تجبُّر. لكن القانون لم يجر على هذا النحو، فالدولة المصرية، ومن أيام نظام الالتزام الذي طبقه محمد علي، كانت مطلقة الحرية تهب الأرض لمن تشاء، وتمنعها عمن تشاء، فأغنت هذا، وأفقرت هؤلاء.
وجدت معلومات ليس فقط عن عدد البيوت، إنما وصف كامل لها، من حيث عدد الغرف، والهيئة التي كانت عليها المباني، بشمول ودقة
2 ـ غياب التخطيط، فالدولة كان حري بها، بل التزام وواجب عليها، ألا تترك الناس يتمددون في سكناهم بلا تنظيم على النحو الذي صنع عشوائيات المدينة ومخالفات الريف. بل كان عليها ابتداء أن تضع علامات على الأرض تحدد للناس الشوارع، وترسم حدود الفراغ، ومساحات التشجير، وتحدد هيئة المباني وحجمها، ولا تسمح بالجور على هذا وذلك لأطماع البشر أو استسهالهم.
لكنها لم تفعل، وتركت أحياء بكاملها في المدن تُبنى في فوضى عارمة، فلا تأتي الشوارع مستقيمة واسعة، وكذلك الحارات والأعطاف والأزقة التي تنبت منها. فرأينا في هذه الأحياء شوارع منحنية ومتعرجة ومنكسرة، تضيق إلى حد خنق الساكنين. وفي الوقت نفسه، رأينا الدولة تغض الطرف عن الذين تطاولوا في البنيان، حتى صارت هناك أبراج سكنية تتقابل في شارع لا يزيد عن بضعة أمتار.
ولا يمكن هنا أن تتحجج الدولة بغياب المعلومات، فما أعرفه أن كل شيء معروف لها، والتفاصيل كافة تحت أيديها. والمثل الذي أضربه في هذا المقام هو الدفاتر الضخمة، التي وقعت تحت يدي ذات يوم وأنا أعد بحثًا عن "القيم السياسية في المحليات" عام 1994.
وكانت هذه الدفاتر صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وحوت تفاصيل الإسكان في مدن مصر بمختلف أحيائها، وفي ريفها، من قرى وكفور ونجوع وعزب، حتى إنني وجدت معلومات ليس فقط عن عدد البيوت، إنما وصف كامل لها، من حيث عدد الغرف في كل بيت، والهيئة التي كانت عليها المباني، بشمول ودقة.
والدولة حين أرادت التدخل فعلت وتمكنت، كما نرى في مدينة دمياط الجديدة، التي يمكن أن نقدمها كنموذج في هذا المضمار، هي وغيرها من مدن جديدة. وهذا إن كان يشكل ميزة تحسب للسلطة، فهو في الوقت نفسه يقيم حجة عليها، لأنه يطرح سؤالًا مهمًا: لماذا لم تفعل الدولة هذا منذ البداية، وفي كل مكان على أرض الجمهورية؟
3 ـ غضت السلطة الطرف، لعقود من الزمن، عن مخالفات الكبار، ممن حصلوا على أراضٍ بغرض زراعتها فحولوها إلى أحياء مرفهة تحيطها أسوار، ليس بمقدور أغلب الناس أن يتملكوا فيها أو يستأجروا، بل حتى يزورونها. وكان يمكن للدولة، حتى مع هذه المخالفة، أن تحدد أسعار السكن، في ضوء القيمة الضئيلة التي حصل بها هؤلاء الكبار في الثروة على الأرض. بل بدت الدولة منحازة إلى السكن المرفه، الذي تعدد وانتشر، وملأت الإعلانات عنه كل وسائل الإعلام.
4 ـ تخلت الدولة عن مشاريع طرحتها سابقًا، كان بوسعها أن تمنع استفحال العشوائيات في المدن، وتحمي الرقعة الزراعية في الريف من التآكل المستمر. من بينها ذلك المشروع الذي قدمه المهندس حسب الله الكفراوي وزير الإسكان في عهد الرئيس أنور السادات، وكان يقوم على إنشاء عدة مدن في الصحراء، تحوي مبانٍ متفاوتة تناسب الطبقات الاجتماعية كافة، وعلى نقل ألف قرية صغيرة إلى الصحراء الغربية وسيناء.
فمثل هذا المشروع لو تم تنفيذه، كان سيمتص الزيادة السكانية في الريف والمدن، فلا تقوم عشوائيات بهذا العدد، حتى أن أحياء تسكنها الطبقة الوسطى لم تخل من عشوائية، ولا يجد الفلاحون أنفسهم مضطرين إلى البناء على الأراضي الزراعية، لتلبية احتياجات أبنائهم وأحفادهم.
وقد سألت الكفراوي حين قابلته ذات يوم في بيت الزعيم السياسي إبراهيم شكري، وكنا في لقاء تأبيني للأخير، عن مصير هذا المشروع، فقال لي إن السادات، وبعد أن كان متحمسًا له، لم يلبث أن طلب مني تأجيله، ثم أُوقف تمامًا، ولفه النسيان من كل جانب.
5 ـ ساهم فساد المحليات، وهي تمثل السلطة عند أدناها، في استفحال العشوائيات. إذ أن موظفيها الكبار والصغار معًا، تواطئوا مع المخالفين، وسمحوا بمد الخدمات إلى الأحياء غير المخططة، وكان أهل الحكم يعرفون هذا، وليس أدل على ذلك من قول مدير مكتب الرئيس الراحل حسني مبارك "فساد المحليات وصل إلى الركب". وبدلا من علاج هذا المرض، تُرك ليصل إلى الرقاب.
استيقظت الدولة، بعد سبات طويل، لتدرك هذا الأمر، وهو لم يكن بعيدًا عنها إذ سبق لها أن اننبهت إلى العلاقة بين العشوائيات والإرهاب. لكن هذه اليقظة اقترنت بأربعة أمور: الأول هو الثمن الباهظ للأرض التي أقيمت عليها بعض العشوائيات، لاسيما تلك التي تقع في قلب المدن، والثاني هو عدم مراعاة المصالح الاقتصادية، والأحوال النفسية، لسكان هذه العشوائيات، والثالث هو عدم النظر في بدائل أخرى لتطوير العشوائيات طبقتها بعض الدول، والرابع هو القيام باستشارة متمهلة وراسخة وحقيقية لسكان العشوائيات فيما يجب أن يتم معهم، ومقدار التعويض المناسب لهم، من سكن بديل أو تعويض مناسب. وبدا الأمر الأول هو الدافع الغالب، بل غَلب أي مصلحة أو حال للناس، وأي بدائل كانت مطروحة.
فقاطنو العشوائيات خُلعوا من أماكنهم في زمن سريع، دون النظر الدقيق والوجوبي إلى مصالحهم المادية، حيث رتبوا فرص عمل على مدار زمن طويل من خلال وجودهم بالقرب من أحياء تسكنها الطبقتين الوسطى والعليا، باختلاف شرائحهما.
فهؤلاء حين نُقلوا إلى أماكن جديدة بنتها الدولة، في مقابل وضع يدها على أرض بيوتهم المتداعية، لم ينظر أحد في الاغتراب الذي ملأ نفوسهم، وقت فقدانهم أماكن ألِفوها، ولهم فيها ذكريات وعلاقات اجتماعية عصية على النسيان.
إن الدولة، التي تغلب فيها المباني المعاني، لم تُعن بما يستعر في نفس شخص فقد مكانه فجأة، وفي الوقت ذاته لم تعطه بقدر ما أخذت منه. فبعض الأسر الكبرى، كانت تقطن بيتًا ما في حي عشوائي، تم تعويضها بشقة واحدة، لا يمكنها أن تستوعب كل من أُخرجوا من ديارهم. بينما أرض هذا البيت، التي بنت عليها الدولة عمارة سكنية، صارت أسعارها مضاعفة، لا يقدر هؤلاء على شرائها، وسيقت حصيلة بيعها إلى جيب الدولة، أو جيوبها.