لو طال العهد بالملك كليْب لتغيرت طبائعنا. طمح إلى تأسيس "دولة"، لا تغزو ولا تُغزى. تأسّى على ميراث نفسيّ يصعب معه تحويل الفارس البدوي إلى الزراعة، فقال لهمام بن مُـرّة "ما زالت البداوة متحكمة في النفوس".
الزراعة لا تُرضي مَن جعل رزقه تحت ظل رمحه. كليْب، في مسلسل الزير سالم، يسأل صديقه أبا نويرة "متى سنعرف كيف نعيش بنظام؟". رفض القول إنهم يعيشون في الصحراء، فالصحراء رمال، قاسية يعزّ فيها الماء والشجر، وتخلو من الحياة. وإنما هم يعيشون في البوادي، ولهذا يسمون "البدو". البداوة ظرف محكوم بالجغرافيا، وليست حكم قيمة. وجفاف الطبيعة يؤثر في الأداء السلوكي واللفظي، والموسيقى والغناء، والتلاوة.
من دون استدعاء، جاءنا جيش عربي بالسلاح وأنساق حياة. زرعوا قيمًا وطبائع وتقاليد. نمت وتشربها المصريون مع الدين، وبحكم الصبر التاريحي لم نرفض اللغة. ذهب الغزاة البيزنطيون، واستقر حكم العرب. كما دخل جيش عربي بلاد فارس غير الواقعة تحت الاحتلال، فانكسرت الكبرياء الوطنية. قبلوا الإسلام، ورفضوا لغته.
في سيرته الطريق إلى مكة يسجل ليوبولد فايس (محمد أسد) مشاهداته في إيران في عشرينيات القرن العشرين. في العيون حزنٌ يلخص مأساة أمة قضى عليها العرب، والكره القومي تحول إلى كره عقائدي، "كان تعظيم وتمجيد الإيرانيين للعقيدة الشيعية تعبيرًا عن احتجاج صامت على غزو العرب لإيران". وجدوا في الإمام الحسين رمزًا للجرح القومي.
موجات البداوة
البداوة حالة دالة على ظرف، ولا تقارن بغيرها، لا أحسن ولا أسوأ. وحين تنتقل من بيئتها وتفرض هيمنتها خارج حدودها تصير بَدْوَنة. كما يقوم الحامي لأهله بفرض الغطرسة على الآخرين، في أسوأ تمثيلات "الفَتْـوَنة". في البداوة غلظة وخشونة ورتابة، وفي البَدْوَنة شيء من جفاف مغلّف بنعومة يعتادها الناس بالإلحاح، مع انسحاب البديل الأصيل.
قيل إن القرآن نزل في مكة، وكُتب في تركيا، وقُرئ في مصر. وجذور التلاوة المصرية ضاربة في العمق، تصل روحيًا إلى تراتيل الوداع للمتوفى، والقسم في محكمة "ماعت" على براءته من خطايا أشدّها القتل، ومنها تلويث ماء النيل. التلاوة تحمل رؤية المصريين للحياة، واختراع فنون الاستمتاع بها.
التركيب والتعقيد والثراء من سمات المجتمع المتطور، ثراء حياة المصري القديم موثّق بالكتابة، وبالنقش الغائر والبارز على جدران الكهوف والمعابد والمقابر. عشق الحياة هداهم إلى الموسيقى، ولعل الموسيقى حببت إليهم الحياة.
في الطين نما الغاب، ومن الغاب خلق المصريون الناي والقلم، كلاهما ناعم ومستقيم، وبالاستقامة بدأ النظر إلى الأعلى، واكتشاف الآفاق، فاستقام الظهر واختفى الذيل، واستوى الإنسان، وفكّر بالقلم، وغنى بالناي الذي ليس آلية أحادية، ففي أغنية بعيد عنك، خرج عازف الناي سيد سالم عن النوتة، ارتجل تغريدة غير متفق عليها في اللحن، فانطلقت آهات الجمهور، واستحسنت أم كلثوم وفاءه لجدّه الفلاح مكتشف الناي. التفتت إليه، وابتسمت مندهشة: إيه ده؟
في الخمسين سنة الأخيرة تعرضت مصر، ضمن استهدافات عدة، لموجة تلاوة آلية رتيبة قذفتها البوادي ببذخ. الخواجة جوجل حين يرتل القرآن، أعجمي تُكتب له الآيات بحروف لغته فينطقها. تتشابه مقامات تضخّها حناجر المستعجلين، يريدون إنهاء المهمة، والتخلص من العبء.
من يزدرد الطعام لا يعنيه الاستطعام، يُضحي بمتعة التذوق والتأني استعجالًا لحشو المعدة بأي كلأ. جمال الأصوات هبة من الله لمن يشاء، وقوة الصوت وحدها تدل على نوع من الفتْـونة، ومعظم أصحاب الأصوات البدوية يكتفون بقوة الصوت، يظنون العافية تغني عن الإحساس بالكلمة. ولا يتقنون فقه ما يقرأون. حياتهم طويلة عريضة لكنها فقيرة؛ فاليقين يعصمهم مما أرّق أم كلثوم في صباها.
في كتاب أم كلثوم معجزة الغناء العربي تسجل رتيبة الحفني واقعة مهمة. قبل أن يقابلها الشيخ أبو العلا محمد، كانت تغني ما يطلبه الآخرون. علمها الشيخ أن تفهم الكلام قبل غنائه. قالت "كنت أردد الكلام بلا فهم ولا اهتمام. بدأت الكلمات غير المفهومة تتعثر في فمي، وترفض الخروج من بين شفتي". وفي ليلة كانت تغني مع الفرقة هذين البيتين:
جلّ من طرز الياسمين/ فوق خدّك بالجلنار
واصطفى ذا الجمان الثمين/ معدنا من لماك العقار
وقفت عبارة "ذا الجمان" في فمها، تستعصي على الخروج. صمتت، وردد الكلمة بقية أفراد الفرقة. لاحظ أبوها حيرتها، وظن أنها نست الكلمة، ولم يسألها وتجاهل الموقف. ثم تكرر الصمت، فتأكد لأبيها أن النسيان ليس سبب الامتناع.
سألها فأجابت "مش عارفة أقولها إزاي؟" هل تقولها وهي تفرح؟ وهي تغضب؟ لا تعرف أي إحساس يقترن بغناء الكلمة، "أنا مش فاهمة معناها ايه!! وكانت هذه هي المرة الأولى التي أواجه فيها والدي بما تعلمته من الشيخ أبو العلا محمد، وهو أنه يجب أن أفهم المعاني قبل أن أغني الكلمات". لهذا اختلف أداؤها لأغنية إن كنت أسامح، عام 1928، بعد شائعة اغتصابها في القرية.
خارج مصر اختلف إحساس أم كلثوم، بالتفاعل مع الجمهور في رباعيات الخيام في المغرب، وهذه ليلتي في السودان، والأطلال في تونس.
كانت أم كلثوم مفتونة بصوت الشيخ مصطفي إسماعيل، وتقول إنه يذهلها، "أعظم صوت على الإطلاق"، والشيخ ينفي لها معرفته بالموسيقى، فتسأله: ومن أين تأتي بهذه المقامات يا شيخ مصطفى؟ فيشير إلى السماء "ربنا".
لكل حالة مقام، وآيات النعيم يختلف مقامها عن مقام آيات الوعيد، وآيات الرجاء. يتضرع إبراهيم الخليل إلى ربه "وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى"، فيتلى السؤال بمقام الصبا الملائم لحال التذلل والرجاء. لكن الرد الإلهي، بصيغة السؤال "قال: أوَلم تؤمن؟" يتلى بمقام أقوى هو العجم.
يسجل كمال النجمي، في كتابه الشيخ مصطفى إسماعيل.. حياته في ظل القرآن، زيارته لمحمد عبد الوهاب في بيته. وفي رأيه أن الشيخين محمد رفعت ومصطفى إسماعيل "لا مثيل لهما". الشيخ رفعت فقد بصره منذ الطفولة، وضعُف تأثره بالدنيا من حوله كما تأثر بها الشيخ مصطفى، فكانت قراءته للقرآن حزينة، وتلاوة الشيخ مصطفى المحب للحياة "تفرحك وتشرح صدرك.. وكان صوت الشيخ رفعت فريدًا في تكوينه، فقد كان على صغر حجمه واسع المساحة، معقد التكوين، تجمع أوتاره الفذة بين القرار والجواب وجواب الجواب في لمح البصر، كأنه فرقة موسيقية كاملة.. وكان صوت الشيخ مصطفى أوسع مساحة وأكبر حجمًا من أصوات المقرئين جميعًا".
الموت رحم عبد الوهاب من رتابة التلاوة البدوية، ساعات متصلة بالمقام نفسه أيا كان المعنى. الموسيقار فسّر اختلاف الصوتين العظيمين: الشيخ رفعت "صوت ملائكي لا مثيل له، ليس لنبراته شبيه. لكن إبداع الشيخ رفعت الذي لا يجاريه فيه أحد كان لا يزيد على نصف الساعة، فإذا زادت تلاوته عن ذلك تشابهت طرائقه في التلاوة وتكررت، بعكس الشيخ مصطفى إسماعيل الذي كانت عبقريته في الصوت والأداء تمتد في عطائها ساعات، لا يتوقف خلالها عن الابتكار، فلا تجده يكرر مسارًا لحنيًا ولا وقفة 'قفلة'.. بل يجيء دائمًا بالجديد، ويفاجئ مستمعيه في وقفاته ومساراته اللحنية بما لم يكونوا يتوقعونه من أسرار تلاوته للكتاب".
المقام باب إلى الإحساس
في عام 1950 علم رياض السنباطي أن عبد الوهاب يلحّن سهران لوحدي، وخاف من المنافسة والمقارنة، ثم قال في وقت لاحق "لحنت هذا المونولوج عشر مرات.. كل مرة في مقام شكل.. أبحث عن المقام الملائم للمعنى.. إلى أن استقررت على المقام المناسب". تذكر رتيبة الحفني في كتابها عن أم كلثوم أن السنباطي، على الرغم من نجاح لحنه، ظل "متخوفًا من عبد الوهاب، ومن مفاجآته.. كان يخشى أن يخرج عبد الوهاب بلحنه ويغنيه للجمهور.. وربما يتفوق في تلحينه عليه".
المقام باب إلى الإحساس والصعود إلى المعنى، ولعله هو المعنى. الشيخ مصطفى إسماعيل أتقن الانتقال من مقام إلى آخر، في الآية نفسها، تبعًا للمعنى. ففي سورة القمر "فدعا ربه أني مغلوبٌ فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجّرنا الأرض عيونًا". قرأ الشيخ "فدعا ربه أني مغلوب" بمقام الصبا الملائم لرجاء الضعيف. وأكمل الآية "فانتصر" بمقام العجم الأنسب للاستجابة.
أتمنى أن يكون شَجَريان الملقب بأسطورة الغناء الإيراني قد أتم تلاوة القرآن. شَجَريان أعادني إلى الموسيقى
تشابه طرائق التلاوة وتكرارها، كما ذكر محمد عبد الوهاب، لاحظتُه في تجربة عمومية. في مايو/أيار 2007، نظم الموسيقي العراقي نصير شمة احتفالًا بالشيخ رفعت، في قصر الغوري القريب من مسجد الحسين، وصدر بهذه المناسبة كتيّب قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت، وفي الشهر التالي احتفل بالشيخ مصطفى، وصدر كتيّب عبقرية التلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل.
وفي انتظار بدء الاحتفال الأول، انشغلنا بحوارات صاخبة، وفجأة انطلق الميكروفون بصوت الشيخ رفعت، فعمّ الصمت التام. ثبتنا في أماكننا، كأن القرآن يتنزل الآن. صوت السماء فارق عما يلاحقنا في سيارات الأجرة والفضائيات الدينية من تلاوات رقمية توحي بأن جوجل أسلم، ويقرأ القرآن، فلا تقشعرّ له القلوب.
أتجنب مصطلح "مدرسة التلاوة المصرية"، فقد ابتذله التكرار، وأرى التلاوة فنًا، ولو كانت علمًا لأتقنها "حفظة" قواعد التجويد. هذا الفن المصري، الأشبه بثمرة مقطوفة في الفجر مغسولة بالندى، تأسس على رصيد تاريخي يفيض بحبّ الحياة، ووفرة المياه، ولا يعاني جفاف البادية. ولا تتكرر أصواته كالبصمة ونسخة النيجاتيف الوحيدة، قبل استنساخ نسخ رقمية متطابقة تتلو آليًا.
هناك تيارات عظيمة للتلاوة تحمل السمات الثقافية لمجتمعاتها، في السودان والمغرب على سبيل المثال. وفي إيران تجربة الموسيقي الكبير محمد رضا شَجَريان تستحق الاحترام والتقدير، وأسعدني الإنصات إلى تلاوته الخاشعة لسور القصص والفتح والفجر والبلد، وإلى آيات من آل عمران والأنعام. يوتيوب يتيح هذا الجمال.
أتمنى أن يكون شَجَريان الملقب بأسطورة الغناء الإيراني قد أتم تلاوة القرآن. شَجَريان أعادني إلى الموسيقى، إلى الناي الذي بدأت به المقال، وبه أنتهي. ناي العازف المصري محمود عفت يرقص طربًا بالحياة، على العكس من الناي الجنائزي/الحسيني للإيرانييْن همايون شَجَريان ومحمد يوسفي. الناي ليس آلة صماء. في مصر ناي يحتفل بالحياة، وفي إيران ناي كربلائي. وبينهما قحط البوادي.