
هل كان عبد الوهاب سيغني من أجل غزة؟
نظرة على تراث كروان الشرق مع القضية الفلسطينية
لا يفارق عبد الوهاب يومي العادي، لكنني تعوَّدت، إحياءً لذكراه 13 مارس/آذار من كل عام، الاستمتاعَ بالمزيد من أعماله وحواراته. وفي هذا العام، ومع مرور 16 شهرًا على بدء الإبادة الجماعية في غزة، وجدتني أتساءل عمّا كان يمكنه تقديمه من أعمال لتخليد صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته وبث الشعور بالواجب والمسؤولية في نفوس الشعوب العربية؟!
في الليلة الظلماء يُفتقد البدر. يتدافع هذا السؤال الافتراضي بفعل تضاؤل الإنتاج الفني العربي المهتم بالقضية الفلسطينية رغم فداحة الفواجع وعِظم المخاطر. وعلى خلفية تراجع إذاعة إسهامات عبد الوهاب في هذا المجال، وتواريها خلف أعمال أحدث.
قد نهتدي إلى إجابة نموذجية عبر إعادة استكشاف تراثه المرتبط بالقضية، وأعماله التي لم تعاصر الأحداث كخلفية صوتية زاعقة فحسب، بل رصدت تطوُّراتها وأرَّخت لها.
فعندما أطلقت الجامعة العربية النفير في مايو/أيار 1948 رفضًا لإنشاء إسرائيل، كان عبد الوهاب وهو على مشارف عامه الخمسين، واسعَ الثقافة والتجربة والثراء، صديقًا للسياسيين، وفديَّ الهوى، واعيًا لأهمية اللحظة التاريخية وحساسيتها، وكان عائدًا للتو من فلسطين في رحلة أحيا خلالها بضع حفلات، أواخر أيام الانتداب البريطاني.
أما على المستوى الفني فكان في ذروة توهجه، مع الثلاثية الشعرية الجندول (1940) والكرنك (1941) وكليوباترا (1945)، وقد أثراها جميعًا بمقدمات عارمة وجمل موسيقية ممتعة ومكثفة تُميِّز كلَّ مقطع حسب صبغته من الغزل أو الوصف أو التباهي بالتاريخ والبكاء على الأطلال، محوِّلًا القصيدة الواحدة إلى عقد من الدُّرر.
كان نموذجًا لجيل تفتّح إدراكه على ثورة 1919 فاحتلت السياسة موقعًا جوهريًا في تكوينه، ثم أطلّ به أمير الشعر أحمد شوقي عبر شرفة فسيحة على المجال العام والعمل الوطني والاحتكاك بالشعوب العربية في قلب حالة الغليان ضد الاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم أصبحت فلسطين المحطة الأولى التي سمع فيها لهجة عربية مختلفة عما اعتاده في القاهرة.
فلسطين.. طريق الشام والجبل
يحكي عبد الوهاب في حواره التليفزيوني الممتد مع سعد الدين وهبة كيف زار فلسطين في وقت مبكر بصحبة فرقة الريحاني، ثم مع شوقي، بالقطار. كان يقضي في مدنها ساعات أو أيامًا، ويذهب منها بـ"الأوتوموبيل" إلى بيروت ثم دمشق.
ولا يعرف كثيرون أن الصورة الشهيرة لعبد الوهاب شابًا مع شوقي التُقطت بمناسبة عودة "المطرب النابغة" من جولة ناجحة في فلسطين عام 1931. ونجده يتحدث للأهرام في 31 مايو 1932 عن "الصلات التي تربط مصر وفلسطين ومنها رابطة الفن التي لمسها بنفسه" لدى إحيائه حفلين في يافا وحفلًا في القدس.
تشكَّل وعي عبد الوهاب وضميره الفني على ارتباط حتمي بين مصر ومحيطها العربي، بالأخص فلسطين، ثقافيًا وسياسيًا، قبل عقود من تنامي النزعة العروبية الرسمية في عهد جمال عبد الناصر. وكيف لا؟ وقد عاصر الحراك الوطني المتزامن بين القاهرة وشقيقاتها، ورأى شوقي ينفعل بالثورة السورية الكبرى، ورافقه وهو يلقي في دمشق سلامٌ من صبا بردى في صيف 1926، ثم غنَّاها عام 1943، وعادت إلى الواجهة مؤخرًا مع ترديد الشهيد يحيى السنوار أحد أبياتها "وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدَّقُ".
روى الكاتب الصحفي الكبير أحمد بهاء الدين لسعد الدين وهبة كيف كان لتلك القصيدة دورٌ هائلٌ في توعية شباب القاهرة بقضية سوريا وخروج المظاهرات من جامعة فؤاد الأول تضامنًا مع الشعب السوري قبيل استقلاله.
أنسنة الأغنية الوطنية
في 1933 ظهرت الأغنية الوطنية الأولى لعبد الوهاب حب الوطن فرض عليّا على نهج جديد، تحلّل فيه من قيود المارشات واختار جملًا بالغة الرقة والشجن متغزّلًا "ما ليش يا مصر حبيب غيرك أميل إليه في الدنيا دي" قبل أن يهب للدفاع يوم يدعو إلى نار الهول داع ليتحوّل لحنًا وأداءً إلى الصرامة والتحدّي "يا يعيش كريم يا أموت كريم" قُبيل القفلة. وكرَّر الاتجاه ذاته بعد نحو عشر سنوات في مين زيك عندي يا خضرة مستخدمًا التورية بين اسم المحبوبة وراية مصر.
قبل عام النكبة توالت وطنياته غزيرةً، منها ما لم يرتبط بمناسبة معينة مثل تحية العلم التي ظهرت في فيلم دموع الحب (1935)، مستحضرًا وظيفته القديمة معلم موسيقى، ومنها ما ارتبط بظروف الحرب العالمية الثانية، وما بدا لبعض دوائر النخبة المصرية فرصةً لانتزاع الاستقلال بالقوة، مثل نشيد الجهاد الذي كتبه مأمون الشناوي عام 1939 مع بدء الزحف الإيطالي على الحدود الغربية.
وفي طائفة ثالثة من الأعمال، حضر النيل رمزًا وطنيًا للخصوبة والخلود حتى في أغانٍ رومانسية أو وصفية مثل النيل نجاشي لشوقي، والجندول وكليوباترا لعلي محمود طه. أما الطائفة الرابعة فشملت ثلاثة أعمال فقط كرَّسها للملك فاروق؛ أنزلت آية الهدى وأنشودة الشباب وأنشودة الفن.
جلّ الفدائيّ والمفتدى
بلغة العصر الحالي؛ لم تكن حرب فلسطين ترندًا يسهل امتطاؤه للشهرة أو تحقيق مكسب. النخبة السياسية المصرية لم تجتمع على خيار الحرب. قرار تبيّن لاحقًا أن الملك فاروق كان المتحمس الأول له. وكانت الرؤى تتراوح بين ضرورة التدخل لإجهاض المشروع الاستعماري وحماية حدود مصر، والتخوف من انفضاح ضعف جاهزية الجيش، ومطالبات ثالثة بالانكفاء على الذات وسلخ مصر عن محيطها وتحول انتمائها إلى المتوسطية.
وفي غمار ارتباك أول أيام الحرب، وبينما يتصوّر كثيرون أن "جيش الفاروق" ذاهبٌ في نزهة لـ"تأديب العصابات الصهيونية"، قدّم علي محمود طه لصديقه عبد الوهاب قصيدة أسماها "نداء الفداء، أنشودة الجهاد في حومة فلسطين". التقط كروان الشرق عوده وبدأ في تلحينها على مقام الراست الجاد الوقور القريب من الصبغة الدينية في الأذان والتلاوة، ثم توجّه إلى دار الإذاعة ليسجّلها بعد ثلاثة أسابيع فقط من إعلان الحرب، لتصبح أول قصيدة مغناة للقضية الفلسطينية.
سرعة فائقة، وصدقٌ في التقاط شرارة القضية، وخلوٌّ تام من شبهة التوظيف السياسي، مع روعة اللحن والأداء واستخدام آلات الموسيقى العسكرية القديمة كالقِرَب على إيقاعات بدويّة، كلها عناصر أكسبت القصيدة طابعها الأيقوني، فبقيت موسيقاها مرتبطة بالصحوة العربية المنشودة، وتردد صدى أبياتها لعقود رمزًا لحلمٍ أفشلته الخيانة والغفلة، وجرحٍ لم يندمل.
نُشرت القصيدة للمرة الأولى كاملة بعد تلحينها في عدد مجلة الرسالة يوم 5 يونيو/حزيران 1948. والغريب أنها تعرضت لهجوم قاس بحجة أنها "أقل حماسة من المفترض" إلى حد وصف الرسالة نفسها للأغنية في 21 يونيو بأنها جاءت على نسق "بلاش تبوسني في عينيا"، وطالب المحرر عبد الوهاب بأن "يأخذ إجازة في هذه الظروف العصيبة".
لكن الشاعر مأمون الشناوي ردَّ في آخر ساعة يوم 23 يونيو تحت عنوان "هل الأغنية الوطنية لعبة من ألعاب القوى؟"، قائلًا "حاول عبد الوهاب أن ينقل ما فيها من معانٍ وطنية إلى قلوب المستمعين بلحن هادئ يستطيع كل صوت أن يؤديه وكل أذن أن تسمعه وتعي ما فيه من ألفاظ. فليست الأغنية الوطنية أن نصرخ بأقصى ما نستطيع".
تخطّت مجريات الحرب البائسة بعض ملامح القصيدة، التي كُتبت بالتزامن مع الزحف المبكر الناجح للقوات المصرية وسيطرتها على شريط غزة ومعظم المستعمرات حولها. لكن قصيدة "فلسطين" تجاوزت الجدل واعتراضات الأزهر على "يسوع الشهيد" وأدّت دورها في تعريف جيل ناشئ بالقضية، وربط آماله بالنضال من أجل أرض لم يكن كثيرون يعرفون عنها شيئا.
يعبّر عن ذلك الكاتب الصحفي الراحل محمود عوض في كتابه محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد بقوله "قبل أن تُغنَّى فلسطين كانت القضية سياسية، وبعدها أصبحت قضية وطنية قومية تخصني شخصيًا، وتذكرني بأنني شخصيًا طرف في هذه الكارثة.. هذه الهزيمة.. هذه المأساة".
للقضية أم للسلطة؟
يُقدّر المايسترو سليم سحاب أعمال عبد الوهاب الوطنية بصوته ولغيره بأكثر من 70 عملًا، تنوعّت بين حب مصر وتمجيد تاريخها، والتعبير عن طموحات الشعوب العربية، وأيضًا تمجيد الزعماء.
سمعنا عبد الوهاب يقول لسعد الدين وهبة "لو لم أكن مطربًا لكنت سياسيًا"، مُدركًا ما يمتاز به من مهارة في العلاقات العامة والتعامل مع السلطة، وإلّا لما غنى ناصر كلنا بنحبك وهنفضل جنبك على ذلك اللحن الأخّاذ، بينما صديقه القديم مصطفى النحاس محدّد الإقامة ينتظر نهايته في صمت، وأيضًا لما ظفر منه وزير الدفاع الأسبق شمس بدران بكم تسجيلات خاصة لا يعرف أحدٌ طريقها، رغم النقد اللاذع الذي وجهه لاحقًا للنظام الناصري كما نقل عنه الشاعر فاروق جويدة في كتاب رحلتي.. الأوراق الخاصة جدًا.
لكنه رغم ذلك استطاع تحقيق درجة من التوازن لم تحسبه على عهد بعينه. فتمكّن من الاستمرار في الإنتاج متربعًا على القمة، بقوة الإبداع الموسيقي المتفرِّد. وفي الوقت ذاته لم يتوقف عن معالجة قضايا الإنسان العربي وفي القلب منها فلسطين، إلى حد يصعب معه تجاوز الكثير من الأعمال بحجة الانخراط في "البروباجندا". فبقيت بالصوت والكلمة واللحن معبرةً ببلاغة عن أحلام النهوض والاستقلال والحرية، وآمالٍ -كانت بنت عصرها- في الوحدة والتكامل العربي ضد الإمبريالية والصهيونية، أكثر من كونها محض دعاية.
قبل أن يُلقّب بـ"مطرب الملوك والأمراء" كان عبد الوهاب يُقدَّم في الإعلانات الصحفية بـ"خليل البؤساء". وربما لم يتحقق هذا اللقب فعليًّا إلّا بأعماله التي تستشعر صدقها بعد مرور عقود، من أجل مصر وفلسطين والعروبة.
إلى فلسطين طريقٌ واحدٌ
نجده في خضم آمال التغيير عام 1954 يقدم قصيدة محمود حسن إسماعيل دعاء الشرق التي وضع لحنها الأساسي بأسلوب روحاني تعود جذوره إلى مسجد سيدي الشعراني، كمناجاة صوفيّة للسماء. لم يذكر اسم فلسطين ولكنها كانت جوهر المأساة "كيف من جناتها يجني المنى ونرى في ظلها كالغرباء".
وفي 1960 أعاد زيارة النكبة في مطوّلة ذكريات بصوت عبد الحليم حافظ، من زاوية الخيانة التي تعرض لها الجيش المصري من بعض الحلفاء "وازاي في اللد وفي الرملة.. كانت العملة.. مأساة كاملة.. استشهد أخويا في أراضيها بين روابيها.. وحبيبته خطيبته مانساش لوعتها.. وكلامها لصورته". وفي العام ذاته أنتج سفره الموسيقي الوطن الأكبر وفيه أفرد مقطعًا لفلسطين غناه عبد الحليم أيضًا. وفي 5 يوليو/تموز 1961 قدَّم بحضور عبد الناصر في حفل عيد ميلاد صوت العرب نشيدًا جديدًا لفلسطين نظمه صديقه الشاعر صالح جودت "يومًا نناديك عبر الحدود عادت لأصحابها أرضنا".
وبدأت مرحلة جديدة من عمر القضية بنكسة 1967، استقبلها عبد الوهاب منتقلًا إلى مرحلة تشجيع النضال المسلّح الذي لم يعد له بديل، فيتلقف كلمات نزار قباني الاستثنائية على لسان ابن الثورة الفلسطينية المتمسّك بحق العودة، ويلحّنها لأم كلثوم "أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم.. إلى رُبىً حزينة كوجه المجدلية.. إلى القباب الخضر والحجارة النبيّة".
غنّى عبد الوهاب القصيدة المكللة بوعد المقاوم "إلى فلسطين طريق واحد.. يمر من فوهة بندقية" على العود مُرسلًا النسخة لأم كلثوم لتحفظها قبل الأداء. وبعد عقدين تقريبًا أفرجت شركته صوت الفن عن هذه النسخة ضمن سلسلة "الوطنيّات" لنُفاجأ بأدائه الرائع من منطقة مختلفة عن أم كلثوم. ومنذ شهور ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة انتشر تسجيل مدمج للصوتين الأسطوريين وتصوّر البعض بالخطأ أنها كانت "دويتو".
ثم قدّم نشيدين آخرين لفلسطين من كلمات رئيس الحكومة الأردنية الراحل عبد المنعم الرفاعي "أيها الساري إلى مسرى النبي، وأرض الشهيد" مختتمًا مشواره مع التلحين والغناء للقضية "المركزية".
غيابٌ بعد الريادة
بتقدّمه في العمر واقترابه من الجنوح الساداتي للسلام، تباعد عبد الوهاب عن فلسطين، التي بدا وأنها اختارت فيروز صوتًا لها بأعمال خالدة نقلت التعبير الفني عن القضية من ساحة التوعية والحماسة السياسية، إلى التبشير بالعودة "سنرجع يومًا إلى حيّنا"، وإحياء الحنين إلى "شوارع القدس العتيقة"، أو بيسان ويافا.
ورغم تقديم أعمال مثل "سيفٌ فليشهر" في أعقاب النكسة كان رهان الأخوين رحباني مقصودًا بتخفيف حدّة الغناء للقضية، عبّر عنه منصور في يوليو 1967 بقوله في مجلة الحوادث اللبنانية "الأغنية يجب أن تكون إنسانية، الإنسانية وحدها توصّل إلى الحق".
وعلى النقيض؛ أفرز النضال المسلح أناشيد الثورة الفلسطينية، التي أزهرت في البداية من دار الإذاعة بالقاهرة مع التنقيب عن الجذور الفلسطينية في الألحان والألفاظ، ودخلت قصص حقيقية عن الشهداء والأسرى خاصة أيام الانتفاضة الأولى التي اندلعت وعُمر عبد الوهاب 85 عامًا، ثم تنامت أناشيد المقاومة الإسلامية. ملأت تلك الصنوف أسماع الأجيال الأحدث، بنبرتها الراديكالية وإيقاعاتها الفلسطينية المناسبة للحشود والحفلات، لتتوارى أعمال عبد الوهاب الرائدة، وتغيب مع تقدمه في السن قدرته الدائمة على المبادرة بالتجديد ومواكبة الزمن.
وهنا نصل إلى إجابة السؤال: هل كان عبد الوهاب سيُغني من أجل غزة؟ وأغلب ظني: نعم كان سيفعل؛ على الأقل للصمود والتشبث بالأرض. وعندما نستمع لأنشودة أرض الشهيد-1969 ربما لن نجد تعبيرًا أدق؛ لفظًا ولحنًا، عن طوفان الأقصى.
ماردٌ من عسكر الجن انبرى
ينهب السهل ويحتل الذرى
حامل رشاشه منطلق
لا يبالي لهبًا أو عسكرا
خلّف الذل بعيدًا وجرى
وارتدى ثوب الردى واعتمرا
يدرك البر يُرى أو لا يُرى
ثم يلقى ربه مستشهدا
ودويُّ الذكر في الأقصى دنا
والخيام السمر أشتات المُنى
والفدائيّ بأطراف القنا
يكتب النصر ويملي الموعدا