شهدت السنوات الأخيرة تزايدًا في عدد الكتب المعنية بالتأريخ لحركة الفن المصري، وتحديدًا الموسيقى والغناء، التي تميزت غالبيتها بالبعد عن النميمة الصحفية، ومحاولة التوثيق اعتمادًا على الأرشيف والمصادر التاريخية.
بعض هذه الأعمال سلط الضوء على فنانين لم تلقَ سيرتهم الاهتمام، كسلسلة كتب محب جميل عن نجوم الغناء في القرن الماضي. وأعمال أخرى قدمت صورة مكبرة لحدث صغير لكنه كاشف لمجموعة من الروابط والعلاقات المتشابكة، مثل كتاب كريم جمال أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي، الذي يركز فقط على سنوات كفاح أم كلثوم لجمع الأموال للجيش.
تبني فيروز كراوية في كتابها الأخير كل ده كان ليه: سردية نقدية عن الأغنية والصدارة، على هذه الجهود التوثيقية، لتقدم قراءة ثورية، ستقلب كل تصوراتك عما تظن أنك تعرفه عن حركة الموسيقى وصناعتها في مصر. لا يقدم الكتاب توثيقًا للموسيقى المصرية في القرنين الأخيرين، بل يحلل العوامل المؤثرة في مسارها، وكيف تمكنت أسماء وتيارات موسيقية بعينها من انتزاع صدارة المشهد.
وبينما تذهب فيروز على طول كتابها إلى أن العوامل المحددة لماهية الصدارة لا تكف عن التغيّر، يوجزها فادي العبد الله في مقدمته بـ "القدرة المعرفية، القدرة الاقتصادية على الإنتاج، الدعم السياسي، التواؤم مع الوسيط التقني الأحدث، والقدرة على بناء الصورة في عصر المشهد".
التكنولوجيا قبل الوطنية
يصعب إيجاز كتاب فيروز كراوية أو تلخيصه في مقال، فهذا كتاب ممتع يقرأ بتمعن؛ لا بسبب كم المعلومات والتفاصيل التي تشبكها لتنتج سرديته، بل لحلاوة ولماحة أسلوبه، وذكاء الطرح الذي يقدمه، ما يجعله علامة ومرجعية في المستقبل لأي تناول لتاريخ الأغنية والموسيقى المصرية.
جرت العادة عند التأريخ لتطور الموسيقى والغناء في بلدنا، على اعتبارهما من عناصر الوطنية والهوية، وقراءة تاريخهما داخل السردية الوطنية. لكن فيروز تعارض تلك النظرة وتقدم قراءة أكثر انفتاحًا، تضع المنجز الموسيقي المصري في سياق حراك فني إقليمي وعالمي، وتربطه بتطور التكنولوجيا، التي ترى أنها المحرك الأساسي لصناعة الموسيقي المصرية. وبالإضافة إلى ذلك، تتناول الأثر الكبير للغناء في إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية والأدوار الجندرية.
وبين هذين القوسين؛ التقنية، والجندر، تسرد كراوية لنا تاريخ الموسيقى والغناء المصري.
من العوالم إلى "الفلاحة المحترمة"
تبدأ كراوية كتابها من منتصف القرن التاسع عشر، وهو الزمن الذي شهد تشكل عالمين للغناء، عالم مغنى القصور والمشايخ، وعالم غناء العوالم والنساء في الحرملك، والذي كان أكثر تحررًا وجرأة. وتوضح كيف كان لاقتحام النساء عالم الموسيقى والغناء والأداء العلني أثر كبير اجتماعيًا وسياسيًا.
لم يحدث ذلك فقط بحكم الأدوار السياسية والاجتماعية التي لعبتها رائدات الغناء وقتها، مثل منيرة المهدية، لكن أيضًا لانتشار آلات الموسيقى في بيوت الطبقة الوسطى. تنقل فيروز عن مجلة "روضة البلابل" عام 1922 "نزور مئات العائلات فنجد الصبيّة أمام البيانو أو بيدها العود أو سواه من الآلات، وكل همتها منصرفة إلى حفظ الطقاطيق ذات الألفاظ الساقطة".
ترافق صعود رائدات الغناء والموسيقى في بدايات القرن الماضي مع ظهور الاسطوانات الموسيقية، وأدى هذا التزامن إلى تغيّر أساسي في شكل الأغنية، لتناسب مساحة الاسطوانة وقدراتها التسجيلية. وساهم انتشار الاسطوانات والجرامافون في البيوت على تداول الموسيقى بين بعض الطبقات، وهو ما دفع بأفكار أكثر تحررًا وجرأة إلى ساحة النقاش العام، ما بين معارض ومؤيد.
غلبة التيار المعارض لتلك الأفكار هي التي قادت للنقاشات الأولى المنادية بفرض الرقابة على المنتجات الموسيقية بعد ثورة 1919، وتعرض موسيقى العوالم للحصار والرقابة، ومنع مسرحيات منيرة المهدية لأول مرة.
في الوقت نفسه، ظهر جيل جديد بزعامة أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، اللذين التقطا إيقاع العصر وتطوراته التكنولوجيا، فاقتحما عالم السينما والإذاعة.
ترى كراوية أن أم كلثوم سعت لتقديم صورة مضادة لصور الفنانات حينها، "أن تكون مطربة وفلاحة محترمة، أي أن يُنظر إليها على خلاف معاصراتها من حيث إنها تقدم فنًا جديدًا بالنسبة لنوعها كامرأة، وأنها تحتفظ لموهبتها بالمكانة اللائقة وتحرسها ضد النظرة السلبية المحيطة بالفنانات".
استغل الاثنان؛ أم كلثوم وعبد الوهاب، السينما. وغيّر الأخير من أسس التلحين، ليتحول لمُعبِّر درامي وبصري عن الكلمات. كما شهدت الأربعينيات تطور صناعة التسجيلات، وبعدما كانت الاسطوانة لا يمكنها تسجيل أكثر من بضع دقائق، أصبحت تسجل أغنيات طويلة، وقدمت أم كلثوم في 1939 أغنية فاكر لما كنت جنبي مع أحمد رامي ورياض السنباطي، والتي ستصبح النموذج للأغنية الطويلة التي ستقدمها سيدة الغناء طوال مسيرتها.
أما عبد الوهاب، فترصد فيروز كيف انسحب تدريجيًا من الحفلات، ليتفرغ للتسجيلات والتلحين، كموقع أرحب لاستيعاب تجاربه الفنية.
النقابة في مواجهة التكنولوجيا
تبرز قدرة كل نجم جديد يتصدر المشهد على استيعاب التطورات التقنية داخل مشروعه الفني، فبعد أم كلثوم وعبد الوهاب، ترافق صعود عبد الحليم مع ظهور الميكروفون وتطور تقنيات البث الحي في الحفلات.
يرصد الكتاب كيف كان الميكروفون دائمًا رفيق عبد الحليم في كل الصور، وهو عصاه التي يتكئ عليها أو كما تقول "مكن الميكروفون صوت عبد الحليم حافظ من اختراع أسلوبه الغنائي الذي دافع عنه حتى النهاية: الأداء السلس والتركيز على الإحساس والمعايشة. أولًا بمنحة القدرة على الظهور في الحفلات العامة، وثانيًا باكتشافه مواطن الجاذبية الخاصة في تفاصيل الصوت دون احتياج لقدرات متميزة من ناحية الشدة".
هنا، تخصص فيروز فصلًا لتحليل الأثر المدمر للرقابة وسياسات التأميم على الإنتاج الموسيقي في الخمسينيات والستينيات. وعلى عكس السردية السائدة التي تعتبر تلك الفترة "عصرًا ذهبيًا"، ترى فيروز أن تلك السياسات جمدت التطور الموسيقي على كل المستويات.
فالغناء الشعبي مثلًا دُمج في خط الدولة، وتحول المغنون الذين كانوا يجوبون الموالد والأفراح ويتواصلون مع الجمهور، إلى موظفين في وزارة الثقافة يخضعون لما تصفه كراوية بمعايير المستوى الرسمي "أصبح انتخاب أعضاء هذه الفرق، ومضمون ما تقدمه شعريًا وغنائيًا بل وملابسهم وهيئاتهم يخضع لاختيارات هيئة الثقافة الجماهيرية، مما أدى إلى تجميد تلك الفنون في إطار متحفي فلكلوري".
انهار ذلك العالم في السبعينيات، ليس بسبب النكسة وتغيير سياسات الدولة فقط، بل مع ظهور شريط الكاسيت، وما أنتجه من موجة جديدة تزعمها أحمد عدوية.
يوضح ما حدث مع عدوية كيف يحيا الجدل الفني في دائرة مغلقة تكرر نفسها دون كلل؛ تقنية جديدة في النشر والتوزيع، تؤثر في الإيقاعات، وتفرض أنواعًا موسيقية جديدة، فأجيال ومؤسسات قديمة تهاجم الظاهرة الجديدة، وتصفها بأنها تهديد للهوية الوطنية وخروج عن القيم والمبادئ.
بينما انشغلت النقابة بحربها ضد حميد والتكنولوجيا كان الإنترنت يفرض شروطًا جديدة مهددًا العالم القديم
نفس ما حدث منذ أكثر من قرن مع منيرة المهدية والمطربات حين اُتهموا بإفساد الذوق والقيم والأخلاق، ظل مكررًا حتى الثمانينيات مع حميد الشاعري، الذي قدم نفسه رائدًا لموجة غنائية تتحدى الذوق الكلاسيكي وتقدم موسيقى "بوب" عربية، مستخدمًا تكنولوجيا التسجيل الجديد عبر نظام التراكات و"السيكوينسر" والحلقات الإيقاعية والمؤثرات الإلكترونية في التوزيع.
خاض حميد حروبًا ضاريه مع رؤساء النقابات الفنية، توضح فيروز "كان سبب المواجهة هو التحول في تكنولوجيا الإنتاج الموسيقي، الذي أثر على عمل عدد كبير من العازفين في مجال التسجيلات والحفلات. حيث اعتمد حميد على استخدام عينات صوتية لأصوات الآلات التي يلعبها الكيبورد مما يقلل من التكلفة الإنتاجية ويسهل عملية تقديم الأصوات الجديدة وبكثرة".
نجحت النقابة في إيقاف حميد الشاعري لمدة ثلاث سنوات، واستخدمت كل أسلحتها الثقيلة في حربها على موجته الموسيقية، وعلى رأسها اتهامات إفساد الذوق العام. لكن بينما انشغلت النقابة بحربها ضد حميد وضد التكنولوجيا كان الإنترنت يزحف، ويفرض شروطًا جديدة مهددًا العالم القديم لصناعة الموسيقى.
وبدلاً من أن تنتبه النقابات ومؤسسات الدولة لتلك التغيرات، وتطالب باستصدار القوانين الملائمة لحماية حقوق الملكية الفكرية للفنانين، وتنظم تداول الأعمال على الإنترنت، طاردت حميد ورفاقه. وحين ظهر الإنترنت دمر صناعة الكاسيت والفيديوكليب.
والآن، يتكرر المشهد ذاته. فالنقابة تخوض حروبًا خيالية ضد مغني وموزعي الراب والمهرجانات. العنوان المعلن هو حماية الذوق العام، لكن الحقيقة أن التكنولوجيا الجديدة مكنّت الفنان من الاستغناء عن العازفين.
لم تنظر النقابة لذلك التطور وتفكر مثلًا في كيفية مواجهة الذكاء الصناعي في صناعة الموسيقى، أو التفاوض مع منصات العرض والتوزيع العالمية، مثل يوتيوب وسبوتيفاي، لتحسين أجور الفنانين المصريين وتعظيم نسبتهم من حقوق الأداء العلني بما سيعود على النقابة بالملايين.
سيفضّل النقيب مصطفى كامل كشف المؤامرات الماسونية وإنشاء وحدة تحري تطارد المطربين مصريين وأجانب.