IMDB- برخصة المشاع الإبداعي
مشهد من فيلم RRR

RRR أو أكاذيب سينما التحرر الوطني من الهند إلى مصر

منشور الجمعة 17 فبراير 2023

أعلنت أكاديمية الفنون وعلوم السينما الأمريكية، الأفلام المرشحة لجوائز الأوسكار، وعلى رأسها الفيلم الهندي RRR، أو "صعود ودوي وثورة" طبقًا لعنوانه العربي. قصة الفيلم خيالية تدور أثناء الفترة المظلمة للاحتلال البريطاني للهند، تلتهم سيرة بطلين من أبطال المقاومة الهندية الحقيقيين وهما ألوري سيتاراما راجو (رام راجو) وكومارام بيم.

قاد الأول المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي في عشرينيات القرن الماضي، حين حاول الإنجليز الاستيلاء على الغابات الهندية والتضييق على حرية حركة الهنود والقبائل من سكانها، وتدمير أنظمتهم الزراعية الفريدة في تلك المنطقة. أما الثاني فكان أحد رموز المقاومة في ولاية حيدر آباد، عاش حياته في رحلة هروب ومقاومة للاحتلال الإنجليزي، والحكم الإقطاعي، بعدما تورط في قتل أحد رجال الإدارة المحلية الإنجليز في العشرينيات.

تاريخيًا لم يلتقِ رام راجو وبيم أبدًا. لكنَّ الفيلم مبني على قصة صداقة متخيلة بينهما، وتصويرهما كأبطال خارقين في معركة ضد الاحتلال.

يبدأ الفيلم بمشهد زيارة الحاكم البريطاني قرية في قلب الغابات الهندية، تُعجب زوجة الحاكم بفتاة صغيرة ذات صوت ساحر، فتأخذها من أهلها وقريتها لتحبسها في قصرها في العاصمة لتغنى لها وتسليها. لكن القبيلة التي خُطفت الفتاة منها، لديها "حامٍ" وهو البطل "بيم" الذي يغادر الغابات في رحلة إلى العاصمة لتحرير الصغيرة وإعادتها لأمها. يكلف الحاكم الإنجليزي الضابط الهندي الشاب "رام راجو" بالقبض على "بيم"، فتتوالى الأحداث.

وقوف العائلتين لإنتاجه بعد عقود من المنافسة، كان لمحبي السينما الهندية كقولك إن عائلات السبكي، ورمزي، والعدل، سيتشاركون لإنتاج فيلم سينمائي

الفيلم متاح على نتفليكس وعُرِض في عدد من دور السينما العربية. وهو ينتمي لصناعة توليود/Tollywood السينمائية وليس بوليود. فالهند بلد كبير مترامي الأطراف، وبينما تكون أفلام بوليود باللغة الهندية، تُنتج الأفلام في توليود باللغة التيلجو أو بلغات محلية أخرى.

ولكلا الصناعتين نجومهما، لكن في العقود الأخيرة نمت صناعة السينما في توليود حتى أصبحت تهدد بوليود، ففيلم RRR مثلًا تكلف سبعين مليون دولار أمريكي، ليصبح الأعلى تكلفة في تاريخ السينما الهندية متجاوزًا أرقام أفلام بوليود المعتادة.

ترايلر فيلم RRR


أثار RRR حماس الجميع قبل طرحه، حين أعلن أن بطولته ستكون لـ أجى ديفجن ورامو رو حفيد الأسطورة السينمائية الهندية NTR. رامو نفسه يعرف باسم NTR الصغير. كلا الممثلين ينتميان لعائلتين متنافستين، من أعرق العائلات الضالعة في صناعة السينما واقتصاد الترفيه الهندي، ومعروف التنافس الشديد بينهما، لذلك فالإعلان عن قيامهما ببطولته، ووقوف كلا العائلتين بعد عقود من المنافسة المشتركة لإنتاجه، كان لمحبي السينما الهندية كقولك إن عائلات السبكي، ورمزي، والعدل، سيتشاركون لإنتاج فيلم سينمائي يروى قصة نضال تحرير مصر من الحكم المستبد.

لكن هذا المقال ليس عن فيلم RRR، وليس عن السينما الهندية، وليس الغرض منه طرح تساؤلات فنية بريئة مثل نقاط التقاطع والتشابه بين فيلمي RRR وكيرة والجن :) فهذه أمور لا تباع ولا تشتري، بل رغاوي العصر والزمن البخس، وكما نعرف فالزبد سيذهب جفاء، وكذلك نحن سنذهب معه.

جراء وخراف

آخر مرة زرت الهند كانت في خريف 2013، في جولة استمرت لشهور سافرت فيها من بومباي إلى حيدر أباد ونيودلهي. عشت لأسابيع في قرى على حدود الغابات أو في المدن الهندية العريقة، ولاحظت خصوصًا في المدن، كيف يحرص الجميع على إبراز إشارات الانتماء الديني والعرقي حتى على منازلهم وأعشاشهم. من أكثر المشاهد المحزنة في مومباي؛ حي كامل من الأحياء البسيطة من عشش من الصفيح والكرتون، ورغم ذلك ترفع كل عشة شعارًا دينيًا واضحًا.

وقتها شرح لي أصدقائي أن الصراعات الطائفية كانت دائمًا موجودة، لكن الجديد في السنوات الأخيرة، هو حرص الجميع على التماهي مع هويته الطائفية، والشعبية الطاغية للهندوسية القومية، بين كل الطبقات سواء فقيرة أو غنية، وتآكل مساحة الخطابات العلمانية، وظهور حركات وكيانات اقتصادية تستثمر في تغذية النعرات الطائفية.

تلال نالامالا في إحدى غابات الهند

في العام التالي، فاز ناريندرا مودي بالانتخابات الهندية، وكذلك فاز الرئيس السيسي بالانتخابات أمام المرشح الرئاسي حمدين صباحي. فوز مودي دمر تفاؤلي بالهند، وأنهى خططي للانتقال هناك.

فمودي ينتمى إلى واحدة من أكثر الحركات الهندوسية القومية اليمينة الإجرامية RSS، وله تاريخ إجرامي موثق، ومدان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، أبرزها مذبحة عام 2002 حين كان رئيس وزراء لولاية غوجارات، وقتلت جماعات الـRSS المسلمين في واحدة من أكبر المذابح الطائفية التي شهدتها الهند، ويقترب عدد ضحاياها من عدد ضحايا مذبحة رابعة.

وقتها وصف مودي الضحايا المسلمين بأنهم مثل الجراء التي تموت تحت عجلات السيارات المسرعة بشكل عرضي، وبالتالي فالأمر لا يستحق كل تلك الضجة.

السنوات التالية حملت إليَّ السجن، ثم المنفى، وانقلب كل شيء. غابت عني الهند وانشغلت عن أخبارها، حتى عام 2019 حين دعاني نادى القلم في نيويورك للمشاركة في مؤتمر أصوات العالم/World Voices Festival، والمحاضرة الرئيسية في المؤتمر، المعروفة باسم محاضرة آرثر ميلر التذكارية، ألقتها الكاتبة الهندية الملهمة أروندهاتي روى. في تلك المحاضرة تحدثت أروندهاتى عن مؤسسة RSS وكيف ابتلعت وتبتلع الهند.

تأسست RSS في عشرينيات القرن الماضي، وهى ليست حزبًا سياسيًا، أو جماعة دينية، أو مؤسسة ثقافية، ولا هي مثل الهلام الذي نعرفه باسم "التيار الإسلامي". بل شبكة تضم مؤسسات وأحزابًا وحركات سياسية وملايين الأفراد، هدفهم بشكل واضح تعزيز الهوية الهندوسية للهند، في مقابل بقية مكونات المجتمع الهندي خصوصًا المسلمين والمسيحيين والسيخ.

ربما ما يجعل المرء متمسكًا بقدر قليل من الأمل، أن الطبيعة الجغرافية الشاسعة المتنوعة للهند وتاريخها السياسي جعلها ذات نظام فيدرالي لا مركزي، مما يعطي الولايات وقوانينها مساحة كبيرة لحماية نفسها من توغل السلطة الفيدرالية. كذلك تكفل اللامركزية والتاريخ السياسي للبلاد قدرًا من الحماية والاستقلالية للمؤسسات القضائية والدستورية، مما يجعل المجال السياسي مفتوحًا للحركة والمقاومة لكن ليس دائمًا.

فمودي وحركة RSS نشروا رجالهم في كل مفاصل الدولة بما فيها القضاء والإدارات المحلية، وخلال السنوات الأخيرة عملت تلك حكومته على تهميش المسلمين وتهجيرهم من أماكنهم، وفتح البلاد للسياسيات النيوليبرالية مما فجر مظاهرات عارمة للمزارعين، والتضييق على رجال الأعمال المعارضين مقابل دعم غير محدود لهؤلاء المنتمين لحركة RSS، والأهم طبعًا قبضة حديدية على الإعلام والثقافة والفنون وما يعرف باسم القوى الناعمة.

رسائل مبطنة

كهاوٍ ومحب للسينما الهندية وأخبار نجومها، لمست التقاطعات بين مسارات السينما والدراما الهندية خلال السنوات الماضية والسينما المصرية، مع فارق حجم السوق والاستثمارات وعمق وتوغل الصناعة. ورغم فاشيتها لم تسمح السينما الهندية مثل مصر بفرض شركة واحدة لاحتكار الإنتاج، لكن ظهرت الكثير من الممارسات والتوجهات الفنية المشتركة.

فشهدت السنوات الأخيرة، تهميشًا واستهدافًا للفنانين والسينمائيين المعارضين لسياسات مودي، أو المنتمين لأقليات دينية أو عرقية غير مرضي عنها. وأصدرت حكومته عدة قوانين تحت بنود محاربة الإرهاب والحفاظ على هيبة الدولة، ووظفتها لاستهداف كل من يفتح فمه، ومن لا تطوله تلك القوانين جرى استهدافه عبر مباحث الضرائب، أو حملات التشويه والتلفيق.  

كما ظهرت بكثافة أفلام البروباجندا الهندوسية؛ وهي أفلام مصنوعة وممولة من قبل الفاشية الهندوسية والأفرع المتعددة لشبكة RSS الشيطانية. ومثل أعمال البروباجندا المصرية لبيتر ميمى أو محمد سامي، تتميز تلك الأفلام بثراء الإنتاج، واستخدام أحدث تقنيات الصورة، ودعم الجيش والشرطة بتوفير الأدوات العسكرية لاستخدامها في التصوير، والطموح لإعادة كتابة التاريخ وسرده، لدرجة أن هناك فيلمًا من المتوقع أن يصدر قريبًا يتناول حياة المجرم الذي قتل غاندي كبطل ومدافع عن الهوية والروح الهندوسية.

أحد مستخدمي موقع قاعدة بيانات السينما IMDB وضع قائمة بأفلام البروباجندا الهندية، وفي بداية القائمة ترك تنبيهًا "هذه قائمة بأفلام البروباجندا الهندية الهندوسية القومية، هذه الأفلام قد تستهدف المسلمين، السيخ، والمنبوذين (طائفة الدليت الهندوسية) وأقليات أخرى في الهند، كما قد تحتوي على إهانات وتشويه لتاريخ باكستان، أفغانستان، وبنجلادش".

لكنك لن تجد RRR في تلك القائمة، لأن مثل تلك الأعمال من البروباجندا المركبة، لا تحتوي على رسائل مباشرة، أو خطابات زاعقة. مثل الفارق بين مسلسلات يكتبها باهر دويدار أو هاني سرحان، وأخرى يكتبها عبد الرحيم كمال أو أحمد مراد.

الحقيقة أن استغلال الفن لخدمة الأفكار الفاشية والرجعية أسهل وأكثر رواجًا من دوره كسلاح مقاومة أو كشف أو تحدٍّ

تطمح هذه الأفلام إلى إعادة سرد التاريخ، وزرع قيم وجدانية ومعانٍ أخرى في عقول المشاهدين. فالفاشية الهندوسية القومية، تنهض على تصورين أساسين، الأول هو الهوية الهندوسية كهوية سائدة ومصدر واحد للسياسيات الهندية، وبالتالي فالهندوس أولاً ثم بقية الطوائف والأديان. أما الثاني فتصور عقائدي في قلب الهندوسية التي ترى الناس على هيئة طبقات، هذه الطبقات وجدت في الماضي وستظل باقية، والإنسان يولد في طبقته ويعيش فيها للأبد.

خذ مثلاً طبقة البراهمة، وهي أعلى الطبقات في التصور الهندوسي عن العالم، لا يمكن للإنسان أن يصبح براهميًا، بل يولد لعائلة براهمة فقط. وإذا ولد براهميًا فهو يحصل على عدة امتيازات مادية ومعنوية واجتماعية. وبالفعل، معظم المشاهير والأغنياء الهندوس براهمة.

على سبيل المثال، لا الحصر، ريشي سوناك رئيس وزراء إنجلترا وساندر بيتشاي مدير جوجل. في المقابل هناك عشرات الطوائف والقبائل محرومين من الكثير من حقوقهم الأساسية لمجرد أنهم ولدوا لعائلة تنتمي لطبقة الدلتا (المنبوذون).

في RRR نجد الشخصيتين؛ رام راجو الذي ينتمي إلى واحدة من الطبقات العليا، وبيم الذي ينتمى إلى جماعة الجوندا/Gond المصنفة طبقًا للفاشية الهندوسية كجماعة تنتمى للطبقات الدنيا.

يسافر بيم إلى العاصمة لإنقاذ الفتاة التي خطفتها زوجة الحاكم من قبيلته، لكن تلك القبيلة لا تظهر أبدًا، وإن ظهرت فنراهم أناسًا نصف عراة، ضعفاء، جهلاء. حتى بطلهم يصاب بالذهول ولا يعرف كيف يتصرف أو ماذا يفعل حين تُعجب به ابنة الحاكم الإنجليزي. في المقابل يظهر أهل رام راجو كمتعلمين، يتدربون على إطلاق النار ومستعدين لتحرير البلاد لكنهم لا يملكون السلاح.

منذ لحظة التقاء رام ببيم وبداية الصداقة، نلاحظ هرمية العلاقات التي تترسخ بين الاثنين بلا أي سبب درامي سوى الاختلاف الطبقي. وفي نهاية الفيلم حين يسأل رام راجو بيم عما يريده، يقول له أريد أن تعلمني. فحتى لو كان "بيم" بطلًا خارقًا، فهو يحتاج إلى رام المنتمي إلى الطبقة العليا ليعلمه ويثقفه وينوره.

في مناورة من مناورات دراما الفيلم بعدما يعذب ويجلد رام راجو بيم، يسامحه الأخير سريعًا ويغفر له، أما رام راجو فلا يسامح ولا يغفر لأحد. وفي مشهد "الأكشن" الرئيسي في الفيلم نشاهد بيم يحمل رام على كتفيه، في إشارة صريحة إلى مكانة كل طبقة. وبمثل تلك الإشارات تترسخ المعاني الهندوسية، والتصورات الهرمية عن المجتمع الطبقي وضرورة خضوع كل فرد للطبقة الأعلى.

تعلن رسالة الفيلم عن نفسها بوضوح في المشهد الأخير، حيث استعراض الانتصار والفرح المعتاد في أفلام توليود، وفيه تظهر صور أبطال التحرر الوطني الهندي الذين حاربوا ضد الاستعمار والاحتلال الإنجليزي، ومن ضمن كل الصور التي تظهر، لا يظهر هندي مسلم أو سيخ واحد، رغم امتلاء تاريخ المقاومة الهندية بالأبطال والثورات التي قادها المسلمون ضد الاحتلال الإنجليزى.

لفيلم RRR وجهان، الأول يخاطب الجمهور العالمي الذي يراه فيلمًا ضد الاستعمار ويكشف وحشية المستعمر البريطاني. فالخطابات الفاشية المعاصرة تستخدم الهندوسية القومية كخطابات السيادة الوطنية، ورفع لواء الحرب ضد الاستعمار. أما في الداخل فالطبقات العليا، سواء كان البراهمة أو العسكريين، فيستلمون السلاح أو الكرباج من المستعمر ليكملوا المهمة على ظهور الطبقات الأدنى، لإجبارها على الالتزام بحياة القهر وبموقعها الطبقي في الأسفل.

يحدث هذا وهم يغنون ويرقصون على الأغاني الوطنية، التي تتغنى بحلاوة الوطن وطعامته.

وخيارات أخرى

في لحظة صعود الفاشية الجديدة في عدد من دول العالم، يعول الكثيرين على الفن كوسيلة تعليم وتوعية ومقاومة، لكن الحقيقة أن استغلال الفن لخدمة الأفكار الفاشية والرجعية أسهل وأكثر رواجًا من دوره كسلاح مقاومة أو كشف أو تحدٍّ. وبين الاختيارين خيار ثالث فيه الفن، وسيلة لجلب المتعة الذهنية، وإثارة الأسئلة، وإشباع فضول المعرفة والإحساس، وأخيرًا صناعة الذكريات؛ خبز الكلام الذي عليه نحيا.

***

وإلى محبي السينما الهندية والخيار الثالث، أرشح لهم أيضًا على نتفليكس الأفلام التالية:

  • The White Tiger: مناسب لمحبي أفلام عاطف الطيب ومحمد خان والواقعية الجديدة. بطل الفيلم وأداؤه يذكرني بأعمال عادل إمام الأولى في رجب فوق صفيح ساخن، ورمضان فوق البركان وغيرهما من الروائع.
  • ملحمة Bahubali التي ننتظر بقية أجزائها، وهي مناسبة لمحبي أفلام السوبر هيروز.
  • Chopsticks فيلم عائلي مناسب لمحبي أفلام أحمد حلمي ودنيا سمير غانم، ويمكن لعمرو سلامة تمصيره بسهولة.
  • Lust Stories وهو أربع قصص يرويها أربعة مخرجين، مناسب لمحبي أفلام سينما زاوية وتامر حبيب.

وأخيرًا لمن يريد خوض التجربة السينمائية الهندية كاملة، لا يفوتك فيلم Pathaan الذي يعرض حاليًا في السينما، بطولة النجم العالمي وحبيب قلبي شاروخان، في عودة إلى الشاشة بعد غياب سنوات.