حين أهلَّ القرن العشرين على مصر ، جاء حاملًا معه اختراعًا جديدًا؛ الأسطوانات، ذلك الوسيط المدهش القادر على نقل إبداعات الغناء والموسيقى إلى ما هو أبعد من المسارح والمقاهي وجلسات السمر. لم يدرك أهل ذلك الزمن حينها أن الخطوط التي تشكل هذه القطع السوداء المدورة، قد جاءت لتعيد تشكيل عالمهم الصغير برمته. احتاجوا إلى خوض تجربة مربكة قصيرة، علمتهم أن كل تكنولوجيا اتصالية تضمر فعل الفضح؛ فالأسطوانة تسجيل، والتسجيل نقيض النسيان، حين تحضر، تنمحي قدرتنا على ممارسة الخصوصية واخفاء ما نود ستره مما نقول أو نفعل.
ارتبك المجتمع إزاء قدرة الأسطوانات على حفظ ما كان التواطؤ الاجتماعي يخفيه. وتشققت جدران الأخلاق العملية التي كانت توفق بين تناقضات المجتمع، وتجعل اجتماع الواجب بالمحرم ممكنًا، بعدما ظلت الأخلاق الحميدة تتعايش برضا تام مع عالم يخرق نواميس المجتمع الأخلاقية. وهكذا هي المحافظة الاجتماعية؛ قانونها بسيط، يغض الطرف عن تناقض الأخلاق، طالما أن ما يتوجب تجنبه وفق معاييرها، والمعنون بـ "العيب"، ظل متواريًا، لا يظهر إلى العلن.
حين نجحت الأسطوانة في نزع غلالة العيب تضخم شعور عالم المحافظة الاجتماعية بالتهديد، فثارت موجة لتهذيب وجهة التكنولوجيا، لم تخف التناقض بين ما تفرضه الأخيرة من تحولات تفتح آفاقًا للممارسات الاجتماعية الجديدة من جهة، وخوف المجتمع المرضي من التغيير من الجهة الأخرى. خلفت الحرب الدونكيشوتية آثارها التحررية في عمق الوعي، وإن تركتنا مع فعل الرقابة وقد استحال بنية مؤسسية كاملة ومتوحشة.
في البدء، طرقت الأسطوانات باب "الهنك والرنك"؛ ذلك اللون الموصوم بالخلاعة والتهتك، والذي شكل جسرًا بين تعبير فني أكثر تحررًا يعرفه عالم الريف والأحياء الشعبية من جهة، وفنون نخبوية تفضلها برجوازية المدن الكبيرة التي تعيش في أغلال محافظتها الاجتماعية من الجهة الثانية.
ولكي نفهم موضع الهنك والرنك، وموجة غناء الجريء، علينا أن نعود قليلًا إلى نهايات القرن التاسع عشر، إلى قلب المدينة التي لم تسمَّ قاهرة بالصدفة. ثمة عالم من الممارسات كان ينعم بالتسامح، وبؤر متعة يؤمها ذكور راغبين في اقتناص لحظات تحررهم من قيود المجتمع المحافظ؛ كانت شبكة تضم عوامات وجرسونيرات وفيللات قابعة على حواف المدينة، يحضر الممنوع بين جدرانها بلا وجل أو خوف؛ كهوف صغيرة يصخب فيها فن فاقع التعبير، محمل عن آخره بالشهوة والرغبة، لا يخشى التصريح والنقد، بل ويجهر آمنا بالبذاءة والسخرية من الذات والعالم.
عثمان واختراع دهشة الهنك والرنك
كان محمد عثمان، أحد أشهر أساطين هذا الزمن، يشعر بأن ما يقدمه من فن لا زال أدنى مما يروم وجدانه. سأل نفسه؛ أعليّ أن أمضي أسيرا لهذه القيود الموسيقية الموروثة التي تتطلب قدرات صوتية وحيلًا استعراضية مهولة، من أجل محتوىً محدود ومكرر؟ ما الذي يمنعني من أن أحلّ نفسي من قواعدها المدرسية التي تدّعي الرصانة والميل إلى التطريب المتكلف في تقنيته وموضوعه؟
تحت إلحاح السؤال، شرع عثمان في البحث عن لون غنائي جديد. فمضي يفتش بين طيات الموروث الغنائي الشعبي ويقلب تلك الصيغ الأكثر جرأة والقادرة على السخرية والتصريح بمكنونات ورغبات النفس لحد الفجاجة. بدا له المجتمع البعيد عن المدينة متسامحا مع أغان مدهشة، تحفل بمستقبح الكلام، يغنونها بلا حرج. أغان حافلة بالجنس والرغبة، تصرح بما يشتهون بلا مواربة. وحتى حين تلزم الظروف أحدهم أن يتأدب، فهو بسلاسة يغادر التصريح إلى تلميح لا يوارب وسائغة للسانه قوالب شعرية وفكاهية تتولى انجاز هذا التعبير بكفاءة ولماحية.
والمجتمع لا يأنف ذلك الوضوح الشعوري، بل يجد دومًا مبررًا لكسر نواميسه خصوصًا في الاحتفالات بالزواج. في أجوائها، يتواطأ الجميع في مهمة اجتماعية، هي كسر خجل المقبلين على الزواج من "واجب الدخلة". هكذا تتدفق كلمات مغناة، تحفز على تخطي حرم ما كان حتى الأمس محرمًا.
أدرك عثمان أن من لدن هذا المسوغ قد تراكم أمام أهل الريف وتخوم المدينة تراث رحب، يُستدعى سريعًا من ذاكرة حية، لتصدح به الأفواه مجتمعة بينما يرفرف الشبق فوقهم حرًا بأجنحته؛ "يا منجد علّي المرتبة، علشان الهزار والشقلبة"، التي تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر، تنادي"ياللي على الترعة حود على المالح" ليُنشد سلسال الغناء، ويتدرج من خفيفه إلى أكثره فجاجة وبذاءة، وسط ضحكات وغمزات واحتفاء بحرية مختطفة.
على النقيض، كانت مجالس الحرية التي حافظت عليها البرجوازية أسيرة خجلها، حتى مع انعزال الرجال عن النساء فيها، حيث يمضي كل في مجالس لهوه - آمنا لأسوار المجالس الصماء، التي لا تخرج ما بداخلها. لكنها ظلت في نظر عثمان بحاجة لمقدار الحرية الذي عرفته الطبقات الأدنى. كان العالم السري في الحواضر آخذ في التحول بدوره، وبات رجال ونساء البرجوازية يؤمون كهوفه ويتوسلون فيها ما يكسر رتابة حياة لم تستطع بعد أن تتخلص من التشدد. ورغم الحضور الكبير لتراث الغزل العربي الصريح، وبعضه كان مغنّىً، فإن هذا الحضور لم يعد يشفي غليل البرجوازي الصاعد، الطامح إلى كسر قيود المحافظة.
السؤال الآن هو كيف تحول هذا الأسلوب ليكون حاوية للغناء الخليع، ويتماهى لدى الناس تعبير "هنك ورنك" مع معنى الاسفاف؟ الأصل الذي طوره عثمان لا يشي بذلك، وليس معلومًا من تراث الفنان الكبير أنه قد ترك أغان على هذه الشاكلة. لكن التحرر الذي حفل به الأسلوب الغنائي الجديد استدعى روحًا حسية، هي بذاتها ما جعلته يناسب غايات الغناء الصريح والمبتذل.
هذا اللون اتسم بالبساطة وبالجدة، وبالإثارة التي تصنعها لعبته؛ لعبة صوتية، يتبادل فيها المطرب مع الجوقة من خلفه التلييل، إلى أن ينفتح صوته ويعلو رويدا رويدا. لعبة زخرفية، يرمي فيها بجملة، ويتجاذب تكرارها عبر تنقل مقامي، لتردد الجوقة بصوت متناغم من خلفه؛ في الرنك يقود المطرب وتردد الجوقة، وفي الهنك يحدث العكس، إذ يتبع المطرب جوقته، ويلعب بصوته وكأنه صدى لها.
كان لونًا مختلفًا، بدا كشيء من هارموني مبكر، وإن اتسم بقدر عال من التحرر والارتجال. لم يكن معنيًا بأن يكون المطرب صوته أعلى ومساحة بروزه أكبر، إنما العمل يتشكل من الحوار البوليفوني الحافل بالحيوية.
وسواء كان حافز عثمان لاختراع الهنك والرنك هو ما نظنه من تأثرٍ بالألوان الفلاحية الأكثر تحررًا، أو غير ذلك من أسباب كالمرض الذي ألمَّ بحنجرته فأوهن طبقة صوته ليعجز عن غناء قالب الدور بحسب المؤرخ الموسيقي كامل الخلعي، فقد اهتدى عثمان في الأخير إلى هذا اللون الثوري. وخلال سنوات قلائل، كسر الهنك والرنك تلك الأبواب، وأقبلت البرجوازية على مطربيه الذين تجاوزوا تراث عثمان وحملوا طريقته الجديدة بحيل صوتية متهتكة، وبالحسي من الكلمات والصريح من الرغبات. ربما يتصور بعضنا أن لظهور هذا اللون علاقة مباشرة بهزيمة الثورة العرابية وما تلاها من أجواء كئيبة كرسها الاحتلال البريطاني، إذ جرت تحولات كبيرة في المجتمع ناتجة عن ضغط قوى الاستعمار ونظمه الجديدة.
لا أستبعد هذا التفسير الأنيق، وإن كنت أميل أكثر إلى أن التحولات الاجتماعية التي عرفها المجتمع في هذا الوقت كانت أضخم من ظاهرة الاستعمار. وعلى وجاهة المنظور السيكولوجي، ومقولة إن الناس في أوقات الهزيمة يميلون إلى الفكاك من الأفكار الكبرى، والشك في جدواها، وفي بعض الأحيان يدفعهم الحال إلى حواف تصورات عدمية، لا تسلم منها حتى النخب، لكن الناظر إلى تراث سيد درويش سيدرك كيف أن غرضين غنائيين ظلا متلازمين عنده؛ إنشاد رسولي ملتزم بالثورة وبالتبشير بها، وغناء متحرر يروم كسر القيود الأخلاقية والأفكار المحافظة اجتماعيًا.
من طليعية البحر درويش لارتدادات البنا
لا غرابة إذن أن صاحب قوم يا مصري وبلادي بلادي احتفى صراحة بالكوكايين والحشيش والشمبانيا في أغانيه. هكذا فعل التحلل من التزامات السلوك الاجتماعي المتشدد الذي تفرضه النخب الأقرب لدوائر الهيمنة والسلطة، هو بذاته مضمر كسلوك متمرد في معنى الثورة. ومع الثورة يصير كسر نمط المعيشة المحافظ أقرب إلى مهمة جيلية. والتعلل بإن اللجوء إلى المخدرات في أزمنة الضعف والهزائم على صحته، لا ينفي حالات ازداد فيها الالتجاء للمكيفات واستشراء مدامنتها في مجتمعات تعيش موجة من النهضة والتحرر. لقد مات درويش في الأخير بالمخدرات. لكن رغم ذلك يبدو الربط الحاد بين الهزيمة والفن العابث مدفوعًا بانحياز أخلاقوي محافظ، بأكثر مما هو ربط واقعي يستند لأدلة معقولة.
لم يجد الهنك والرنك حرجًا من الاحتفاء بالمكيفات؛ مخدرات وخمور، كما في الكثير من الأغاني التي قدمها سيد درويش، أو في الأغنية الأشهر التي غنتها نعيمة المصرية "هات القزازة واقعد لاعبني، دى المَزّة طازة والحال عاجبني"، أو أغنية منيرة المهدية عن "البوكر"، بل من يقلب في ما بقي من تراثه سيدرك أن أغراض الهنك والرنك امتدت إلى القدح والسباب ورفض بعض الالتزامات الاجتماعية، كأغنية يانا يا أمك التي غنتها المطربة الاستثنائية رتيبة أحمد، ضمن عدد قليل من الأغنيات التي أدت فيها هذا اللون، حتى أن البعض يعتقد أن سبب انسحاب شهرتها، رغم قوة صوتها، كامن في انتشار صورة ذهنية سلبية عنها كانت كفيلة بأن تنمطها وتعرقل جماهيريتها.
لقد عمد منافسو رتيبة إلى إطلاق اسم مسف عليها وهو "مطربة الدحة والكخة"، بعدما أدت أغنية مشابهة لأغنية منيرة الحب دح دح والهجر كخ كخ، بعنوان "أنا حاسة وأنا لسه ماعرفش الكخة من الدحة". كذلك تراث الهنك والرنك الحافل بالتشبيب والغزل والتشهي الجنسي به أيضا آراء صادمة حول المجتمع وأحواله، وشغل جزءًا لا يستهان به منه كسر الجدية عبر الابتذال والتهتك وطرح الموضوعات التافهة، وحتى النقد الاجتماعي للأنماط السلوكية.
لا حاجة لأن نسأل لماذا تورط أساطين الطرب في هذا اللون. لم يكن لمعنى "التورط" قيمة آنذاك، بل هو سؤال مقحم على عصرهم، جلبناه من عصرنا . دراما حياة أشهر الشخصيات طرافة ممن أجادوا لون الهنك والرنك عبد اللطيف البنا قد توضح الكثير من علامات الاستفهام في هذا المنحى. لقد ذاع صيت المطرب الذي بدأ حياته منشدًا ومقرئا للقرآن، حين وظف مواهبه الصوتية الاستثنائية وقدرته على الغناء بصوت نسائي، واشتهر بتقليد ملكة هذا الزمان الست منيرة المهدية، التي قد لا تستسيغ بعض دوائر المجتمع المحافظ استضافتها، كونها أنثى رغم أنها تغني الهنك والرنك المرغوب وقتها بشدة.
جاء البنا كبديل ذكوري عن منيرة المهدية، يغني بصوتها وهو يرتدي البدلة والطربوش. وربما يفسر هذا أنه كان أول مطرب يظهر علانية وقد حلق شاربه، وهي فعلة مهولة بمعايير عصرها لو تعلمون. وسرعان ما بدأ البنا ينافسها في أداء الأغاني التي تنتحل شخصية امرأة لعوب، وصارت له أغانيه الخاصة.
وبخلاف أشهر أغنياته ارخي الستارة اللي في ريحنا لاحسن جيراننا تجرحنا والتي تذهل سامعيها من تمكن البنا من الطبقات الصوتية النسائية، نجد أعمالًا مدهشة مثل “ما تخافش عليّا أنا واحدة سجوريا / في الحب يا إنت واخدة البكالوريا". ودونما اندهاش، كان البنا مثل الكثيرين من جيله، يغنى لثورة 1919 ولزعيمها سعد. ولمن يودون الوقوف على مدى اتقانه، أطرح أنه في موال سلطان جمالك على أهل الغرام حاكم، منح درسًا أدائيًا مهما لأم كلثوم ظلت تردده. استمعوا للتسجيل المتاح على ساوند كلاود ويوتيوب.
كيف انتهى البنا إلى الغناء الصوفي، وكيف انزوى كأول "التائبين عن الفن"، هل هو الانصياع للضغط الاجتماعي، أم تجاوز اللحظة للقيمة الابداعية وتضاؤلها مع التطور، أم قدر وحسب. فقط حتى لا ننجرف لهذه الناحية، البنا انتهى محافظًا حتى في تصوره عن الفن والغناء، واكتفى ككثيرين غيره بأن يردد بعض التراث التطريبي دون أدنى تطوير.
الرقابة وتناقضاتها
نقطع التفلسف ونعود إلى الهنك والرنك، والسؤال عن سبب حصاره. تاريخ الرقابة على المصنفات الفنية عمره من عمر التحرر الفني. وكما قلنا، كان لحضور الأسطوانة الصادم أثره في تحفيز موجة مضادة من التشدد إزاء المعاني المغناة. حين جاءت الأسطوانة بسمتها التسجيلية لتعري المستور، وتهتك أمانه، لاقى الغناء الصريح ضغوطا شديدة، فانحسر بشدة، ودُفِع بيد السلطة دفعا صوب زوايا النسيان. ولكن طمس هذا التراث لم يخمد جذوته، بل كان من مكر التاريخ أن دُوِّرت ألحانه وكلماته في أعمال "مؤدبة" تدفع بها السلطة الاجتماعية، لتنتشر بين الناس كأكواد سرية.
قد يندهش بعضنا من أن تكون عبارة "قولوا لعين الشمس ما تحماشي، لاحسن غزال البر صابح ماشي"، التي زين بها عبد الرحمن الأبنودي أغنية شادية الشهيرة، هي اقتباس لبيت كامل من أغنية هي بمعايير عصرنا بذيئة، عنوانها جننتيني يا بنت يا بيضة. تلك الأغنية التي غناها في البداية عبد الحي حلمي، أحد نجوم بدايات القرن العشرين، ووضع لحنها زكي أفندي مراد. يسرد حلمي في هذه الأغنية بصوت غنوج أن بياض العشيقة سيفعل بعقله فعل شرب النبيذ الاحمر والنبيذ الأبيض، وأنه لدى رؤيتها "خارجة من الحمام زي الخوخة والمصة في الشفة تداوي الدوخة" ستنهار حصونه. بالتأكيد لفت نظرك تكرار جناس خوخة ودوخة في أغان عديدة مشهورة. وإن كنت من عشاق أحمد عدوية فسيستحضر ذهنك بكل تأكيد أغنية عيلة تايهة يا ولاد الحلال من فيلم حسن بيه الغلبان لبركات.
لا تسأل هل شارك الأبنودي وعدوية في لعبة تدوير الماضي واخفاؤه؟ يبدو لي الأمر أعقد من هذا. إن الروح الساخرة والجريئة في المنتج الإبداعي تثير الرغبة في اقتباسه والتناص معه، ضمن سقوف حذرة بالطبع. وينتقل المعنى من التصريح الإباحي بالرغبات والشهوات إلى السخرية العادية. وجدت مثلا أن الأغنية ألهمت اقتباسا كوميديا، يعيه هواة أفلام عادل إمام القديمة، وتحديدا فيلم لصوص لكن ظرفاء، في ذلك المشهد الذي يغني فيه الكوميدي الكبير "بلدي طنطا وأنا أحب أعيش أونطة". جناس طنطا وأونطة مستدعى من هنك حلمي ورنكه
وشبيه بهذه الأغنية أغنية منسوبة لسمحة البغدادية، عنوانها يرن في اذاننا بالطبع، وهو على سرير النوم دلعني، وهي أغنية هناك خلاف على نسبها، بين من يقولون إن ملحنها هو العازف الحلبي الشهير في فرقة سيد درويش وحافظ تراثه جميل عويس، أو أنها من ألحان الشيخ زكريا أحمد، الذي اشتهر بولعه بهذا اللون.
هذه الأغنية نالت شهرتها الكبيرة حين تزينت بصوت مطربة تونسية عرفت بجرأتها البالغة، وكانت تقيم في القاهرة في هذا الوقت، هي حبيبة مسيكة، التي يقال أنها تخلت عن اسمها عائلتها العبراني واسمها الأوربي مارجريت، لتتخذ لقبها هذا، وهو تحريف لمزيكا. عندما حاولت مسيكة أن تنقل الهنك والرنك لبلادها تونس حوربت وهددت بشدة. فلم ينسوا أنها قالت "جاني الحليوة العصرية/ وجاب لي بيرة وشمبانيا/ شرب وفرفشني شوية/ وعلى سرير النوم دلعني/ يوسته كمان أنا في خده/ يا محلى جماله وقده/ ونمت أنا على صدره/ وعلى سرير النوم دلعني/ عطف عليا بجماله/ يا محلى غمزه وهزاره/ سبته يعمل ما بدا له/ وعلى سرير النوم دلعني".
قد لا يصدق بعضنا أن أغانٍ شهيرة مثل يا مال الشام التي يؤديها باقتدار صباح فخري، قامت في لحنها الجديد الذي وضعه الملحن الكبير سهيل عرفة على تناص موسيقى من لحن لطقطوقة خليعة لحنها فنان الشعب الشيخ سيد درويش هي وأنا مالي هي اللي قالت لي.
تمثل كلمات الأغنية التي تستطيع أن تجدها بصوت أمينة القبانية، سردًا إباحيا لمشهد إغواء امرأة لرجل تتمنى منه لو يأتيها، بعد أن يذهب السكر برشده. والطريف أن الطقطوقة التي تدور كحوار بين القبانية وسيد درويش، قد أبدع كلماتها الشيخ يونس القاضي. نعم، هو ذاته الفقيه الأزهري والشاعر والمحامي الذي كتب نشيدنا الوطني بلادي بلادي.
قدم القاضي أغان ثورية عديدة لسيد درويش، وسيرته تحفل بنضاله في مواجهة بوليس الاحتلال ورقابته، وقدم هو نفسه مثلًا تاريخيًا في معاناة المبدع المصري من الرقابة؛ رقابة المجتمع ورقابة المستعمر. لكن لمفارقة تثير العبرة، وتعلمنا أن الرقابة العامة والذاتية هي الباب الأول لفرض النسيان، شغل عمنا القاضي شيخ المؤلفين، منصب رقيب فني يتبع وزارة الداخلية. وآلى أشهر من كتبوا أغنيات الهنك والرنك على نفسه أن يفرض المنع على هذا اللون. هل نندهش من أن يرد اسم مطرب جيد كهاني شاكر في السياق نفسه بعد ما يقرب من القرن. لا يعيد التاريخ نفسه، إنما يعيد الغباء نفسه بالتأكيد.
هكذا، لا ينزعج المجتمع البرجوازي المحافظ من التهتك في ذاته، بل ينزعج فحسب من خروجه إلى العلن، فيحرض السلطة على أن تؤدي دورها في تحقيق ما يراه حماية وصونا له. حين أدركت السلطة أن الهنك والرنك قد خرج من مكمنه في الجلسات الخاصة، وصار يوزع بتلك البدعة من تكنولوجيا التسجيل الصوتي لأعداد كبيرة، جاءت بالقاضي، ليكون شاهدا من أهلها، وبحق اجتهد صاحب بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة وتعالَ يا شاطر نروح القناطر، وارخي الستارة اللي في ريحنا في عمله كأول رقيب وطني.
وحين أحرجه البعض بتناقض موقفه الجديد مع أمسه، قدم التعليل الذي سيكرره من بعده من سيخلفونه من المبدعين في هذا المنصب؛ أن معطيات اللحظة لا تسمح، وما كان مقبولًا بالأمس ومحلًا للتسامح، صار اليوم غير مقبول وتعاظم تهديده. هذا دأبهم حين يرتمون في حضن السلطة ويقبلون بأريحية تولي دور جلاديهم.
تكشف الواقعة الأكثر شهرة بين حملات القاضي الرقابية عن تعاضد الرقابة الذاتية مع رقابة السلطة. يوم أن قرر القاضي منع أغنية حسية لأم كلثوم، نعم أم كلثوم، وهي أغنية الخلاعة والدلاعة مذهبي، غنتها في بداياتها، لم يكن القاضي نفسه بعيدا عن تشجيعها. لم يمنع القاضي الأغنية لأن أم كلثوم تجرأت وسجلتها، بل لأن دور شرطي الأخلاق قد فرض عليه أن يقوم بمهمة المطاردة في أقرب دوائره.
وإمعانا في خلق دراما ساخنة، نسب بعض الحكائين المهتمين بتراثنا الغنائي الحديث إلى القاضي نفسه أنه صاحب كلمات الأغنية، لكن الأرجح أن صاحب الأغنية هو ملحنها أحمد صبري النجريدي. وبعيدًا عن هذا الجدل حول نسب الكلمات (وللقاضي قائمة طويلة من هذه الخلافات حول حقوق المؤلف)، نجد اسم شاعر مدرسة الديوان وكاتب أجمل أغاني أم كلثوم، أحمد رامي، يتردد ضمن الحكاية. وتحديدا ضمن مساحة تغيير الكلمات لتناسب ذوق السلطة الاجتماعية.
لقد خشي رامي على شهرة أم كلثوم، أن تؤثر هذه "الوقعة" عليها بعدما بلغت أوجها، وبات الحفاظ عليها بالنسبة له ضرورة. أقنع رامي الست، وهو العارف بهواجسها من أن تنال سيرتها الألسنة، بجمع أسطوانات الأغنية، وكفي الماجور على خبرها. لكن أوديون الشركة المنتجة للأغنية، استمسكت بمكاسبها، وبيدها حق قانوني، ومنتج لأهم مطربة في عصرها، عليه إقبال جماهيري. فاوض رامي الشركة، وقدم لهم تعديلا لكلمات الأغنية، ونجح بالفعل في إقناعهم بإعادة تسجيلها.
في التسجيل الجديد صارت مفردة الخلاعة لطافة، وأعيد انتاج العمل القديم بما يناسب شروط العصر الجديد. سنتذكر أن هذا قد صار قانونا للتصالح، غير مفردة أو عبارة، ونمرر لك أغنيتك. لكن مكر التاريخ عاد من جديد، ليطمس هذه الأغنية من الوجدان، لكن يبقي وحسب خبر العبارة الحسية لصيقا بسيرة أم كلثوم المبكرة؛ فعلى الرغم من خلو كلمات الاغنية الأصلية مما يمكن وصفه بالخليع، سوى كلمة الخلاعة ذاتها، التي ترد في جملتها الافتتاحية "الخلاعة والدلاعة مذهبي، من زمان أهوى صفاها والنبي"، بقيت سيرة الاغنية تتصدر تأريخ الأغاني المسفة والإباحية. السر بالطبع في اسم أم كلثوم وصدمة الموضوع للبراجوازية التي تخشى على رموزها من ارتباط أي منهم بعمل كهذا.
هكذا تدلل سيرة الهنك والرنك على كيفية تعايش البرجوازية مع تناقضاتها، وفشلها في الإمساك بمسار تحولاتها الثقافية والسياسية الحادة، بسبب من محافظتها الاجتماعية، وبسبب من قيمها السطحية التي تدفع بها إلى أن تعيد تشكيل تفضيلاتها وأفكارها في فضاء مدينة لا زالت تعيش في ظل الاستعمار رغم سبعين عامًا من الاستقلال. ولا ينفصل هذا عن فهم أثر التكنولوجيا، وما تحدثه ابداعاتها التواصلية في عالم المجتمع المحافظ.