حتى عام 2019، كان سيناريو تصفية شركة سيجوارت، التي تأسست في عشرينيات القرن الماضي، مطروحًا بقوة لدى الشركة الأم، القابضة للصناعات الكيماوية، بسبب الخسائر المتفاقمة لهذا الكيان الذي ظل لعقود موردًا أساسيًا لمواسير المياه وفلنكات القطارات في المشروعات الحكومية.
بعد عامين، أعلنت الحكومة عن تعاقد ضخم مع شركة سيمنز لتأسيس قطار كهربائي سريع يربط شرق البلاد بغربها، بتكلفة 23 مليار دولار، وهو ما منح سيجوارت قبلة الحياة، مع حصولها على تعاقدات بتوريد "الفلنكات" إلى القطار الجديد.
بعيدًا عن الجدل حول مشروعات النقل الكبرى، وتأييدها لتيسير الانتقالات أو معارضتها بسبب تكلفتها الباهظة، تقدم لنا قصة سيجوارت وجهًا آخر لهذه المشروعات، باعتبارها داعمةً للحفاظ على كيانات صناعية كانت على وشك التوقف والخروج من السوق رغم تاريخها العريق.
حظر الإسبستوس.. بداية أزمة سيجوارت
يعود تاريخ تأسيس سيجوارت إلى عام 1927، قبل أن تندمج في القطاع العام خلال فترة التأميم في الستينيات وتصبح مورّدًا رئيسيًا لاحتياجات البنية الأساسية مثل مواسير المياه وأعمدة الكهرباء الخرسانية وفلنكات القطارات.
لكن بمرور الوقت تراجعت أهمية بعض منتجات الشركة، مثل المواسير الفخار، وحُظرت واحدة من أهم منتجاتها، وهي مواسير المياه المنتجة من مادة الاسبستوس، التي كانت تُستخدم في مشروعات البنية الأساسية، بسبب تحذيرات من آثارها الصحية مثل تسببها في الإصابة بالسرطان، ما قاد الشركة للدخول في موجة طويلة من الخسائر، حسب عضو مجلس إدارة سابق في الشركة لـ المنصة.
"حتى عام 2005 كانت صناعات المواسير تمثل 70% من إنتاج الشركة، ومع الضغوط التي واجهت هذه الصناعة حاولت سيجوارت أن تغير مسارها نحو الاهتمام بالفلنكات بشكل أكبر، لكن لم يتوفر لديها التمويل الكافي لتطوير خطوط إنتاجها"، كما يضيف المصدر، الذي طلب عدم نشر اسمه.
مشكلة الأجور والإنتاج
خلال الفترة التي أعقبت ثورة يناير 2011 استجابت إدارة سيجوارت لبعض المطالب العمالية داخل الشركة، التي شملت تثبيت نحو ألف عامل ما زاد من التحديات المالية للشركة إذ أدى لزيادة تكلفة الأجور بوتيرة كبيرة، كما يقول المصدر الذي كان في مجلس إدارة الشركة خلال الفترة 2011-2013.
تزامن نمو ميزانية الأجور في الشركة مع تراجع إيراداتها بسبب التضييق على منتجاتها من المواسير، ما اضطرها للتوسع في الاقتراض لتمويل الأجور، الأمر الذي مهد لتراكم الديون على الشركة، كما يضيف المصدر "خلال عام 2013-2014 اضطرت الشركة للاقتراض من البنوك بنظام السحب على المكشوف بقيمة 46.599 مليون جنيه، لسداد التزامات منها الأجور".
ويقول مصدر ثانٍ، عضو مجلس إدارة في سيجوارت حاليًا، إن وثائق الجمعية العمومية للشركة، غير منشورة، تظهر خسائر بقيمة 44 مليون جنيه خلال العام المالي 2012-2013، ما كان سببًا في زيادة ضغوطها المالية خاصة وأنها تزامنت مع تراكم ديون كبيرة لدى البنوك أو لدى القابضة الكيماوية، ومخزون راكد بقيم ضخمة.
"بحلول 2014 بلغ عدد عمال الشركة نحو ألفي عامل، قُدرت أجورهم بنحو 7.5 مليون جنيه شهريًا، ما مثّل عبئًا كبيرًا على الشركة في هذا الوقت" كما يضيف المصدر الثاني، الذي طلب عدم نشر اسمه.
دعم القابضة أو التصفية
مثّلت حقبة التسعينيات مرحلة تحول فاصلة لقطاع كبير من المصانع التابعة للدولة، حيث تم تحفيز هذه الشركات على العمل بالمنطق التجاري وعدم الاعتماد على دعم الدولة، بما يتسق مع توصيات الإصلاح الاقتصادي لصندوق النقد والبنك الدوليين.
ووضع قانون قطاع الأعمال العام، الصادر في 1991، شركات القطاع العام تحت سلطة كيانات قابضة تشرف على عملية تحولها صوب تحقيق الأرباح، وسمح أيضًا باتخاذ قرارات بتصفية الشركات الخاسرة، ومهد القانون لاختفاء عدد كبير من الشركات العريقة وتحولها إلى مبانٍ خاوية أو كتل من الخردة.
في هذا السياق، كانت سيجوارت تحاول إقناع القابضة الكيماوية بأنها لن تتحول لواحد من الكيانات الخاسرة التي تضطر الشركة الأم لتصفيتها في وقت لاحق، كما يقول العضو الحالي في مجلس الإدارة.
ويشرح المصدر أنه خلال الفترة من 2011 - 2013 تم طرح العديد من الأفكار لإنتاج منتجات تواكب احتياجات السوق الحالية وتعيدها للربح، مثل المواسير سابقة التجهيز والمواسير المصممة للمباني الخضراء صديقة البيئة، وإنتاج مادة البيتومين العازلة للرطوبة وألواح تخزين الطاقة الشمسية، لكن هذه المبادرات احتاجت لتمويلات بقيمة 256 مليون جنيه لم تتمكن الشركة من توفيرها، أو من الحصول عليها كقروض بنكية بسبب عدم توفر الضمانات الكافية.
في 2014 تبنت الحكومة مشروعًا واسعًا لإعادة هيكلة القطاع العام، وفي هذا السياق حاولت سيجوارت الترويج لإمكانية بيع جزء من أراضيها لتوفير التمويل لتطوير الشركة، وطرحت بيع 50 ألف متر مربع منها، لكن لم يكتب لهذه المحاولات النجاح، حسب المصدر الثاني.
الذي يقول "القابضة كانت مؤيدة لفكرة تدبير التمويل عن طريق بيع الأراضي، لكن وزارة قطاع الأعمال فضَّلت البحث عن مستثمر للدخول في شراكة مع الشركة" لكن لم يكتمل هذا السيناريو أيضًا.
أمام هذه المحاولات المتعثرة، ظلت سيجوارت تعتمد على كل من دعم القابضة المالي، الذي لم تكن ترغب الحكومة في استمراره لفترة طويلة، بجانب ما استطاعت جمعه من إيرادات محدودة من بيع فلنكات القطارات، باعتبارها الصناعة الوحيدة المواكبة للاحتياجات في هذه الفترة، ما أبقى الشركة في وضع مالي مأزوم، حتى بدأ المشهد يتحول تدريجيًا.
بداية الانفراجة مع مشروعات النقل
وسط كل الحلول المطروحة لإنقاذ سيجوارت، بدت فكرة التوسع في إنتاج فلنكات القطارات أكثر قبولًا لدى القابضة الكيماوية، بالنظر إلى أعمال التحديث الواسعة في خطوط السكك الحديدية خلال العقد الأخير، والتوسعات الكبيرة في مترو الأنفاق.
وحسب حصر نشرته وزارة النقل، فقد تم تجديد مسارات السكك الحديدية بأطوال 1382 كم منذ 2014. صاحب خطة تطوير السكة تسريع وزارة النقل العمل استكمال باقي مراحل الخط الثالث لمترو الانفاق، وبدء تنفيذ القطار الكهربائي الخفيف بالعاصمة الإدارية الجديدة، والعمل في مشروع الخط الرابع للمترو.
"كانت بداية إنقاذ سيجوارت من سيناريو التصفية توقيع ثلاثة عقود مع هيئة الأنفاق في أواخر 2014 لتوريد الفلنكات لمشروع تطوير محطتي المرج القديم والجديد في الخط الأول وللمرحلة الثانية من الخط الثالث، العباسية- الأهرام، وبلغت قيمتهما 15 مليون جنيه، بجانب عقد بـ95 مليونًا مع هيئة السكك الحديدية ضمن مشروع تطوير خطوط القطار"، كما يقول العضو الحالي في مجلس إدارة الشركة.
ويضيف المصدر أن تعاقدات التوريد توالت منذ هذا الوقت، إذ وفرت الشركة المزيد من الفلنكات للسكك الحديدية في 2016 بقيمة 144 مليون جنيه وغطت أيضًا جزءًا من احتياجات الخط الثالث للمترو هارون-عدلي منصور بقيمة 19 مليون جنيه.
لكن هذه المبالغ ظلت أقل من احتياجات الشركة لتمويل الأجور، ما جعلها تستمر في الاعتماد على دعم القابضة الكيماوية، وقدَّرت القابضة في 2019 حجم قروضها لسيجوارت بنحو 750 مليون جنيه، ما جعل سيناريو التصفية لا يزال لائحًا في الأفق، كما يضيف المصدر.
القطار السريع.. والتحول الكبير لسيجوارت
في 2021 أعلنت الحكومة عن مشروع ضخم لتأسيس قطار كهربائي سريع يغطي 2250 كيلومترًا، ويربط مناطق سياحية مثل السخنة والعلمين، ومواقع إنتاج صناعي بمواني نشطة مثل تلك المطلة على البحر الأحمر.
وبينما تم الاعتماد على سيمنس الألمانية لإنشاء القطار، بتعاقد بلغت قيمته الإجمالية 32 مليار دولار، ظلت العديد من المهام المكملة للشركة الألمانية متاحة للكيانات المصرية، وهي الفرصة التي اقتنصتها سيجوارت لكي تعود للحياة.
"بمجرد الإعلان عن مشروع القطاع السريع طرحت سيجوارت مشروع إنشاء خط إنتاج جديد للفلنكات، وافقت القابضة الكيماوية على المشروع ووفرت له تمويلات بقيمة 50 مليون جنيه، ولاحقًا اقتنصت الشركة عقد توريد للقطار بقيمة تقترب من 2.5 مليار جنيه"، كما يضيف المصدر في مجلس الإدارة الحالي.
وتقدر وزارة النقل أن مشروع القطار الكهربائي السريع يحتاج إلى 8 ملايين فلنكة، وتشير في بياناتها إلى تمسكها بالاعتماد على منتجات محلية لهذا المكون.
الخط الجديد جاء ليلبي أيضًا احتياجات مشروعات جديدة، وإن كانت أصغر حجمًا، مثل القطار الكهربائي الخفيف "عدلي منصور - العاصمة الإدارية"، فضلًا عن مشروع استكمال مراحل الخط الثالث للمترو "اتعاقدنا لاحقًا على توريدات للخط الرابع للمترو بـ90 مليون جنيه" يقول المصدر.
وتوسعت هيئة السكك الحديدية أيضًا في مشروعات التطوير على خط "القاهرة - الإسكندرية" وخط "أسيوط - نجع حمادي" ومن نجمع حمادي إلى الأقصر وقاد توالي المشروعات لطرح فكرة إضافة خط جديد لسيجوارت حتى تلبي الطلب على الفلنكات، يوضح المصدر "احتياجات السكك الحديدية وحدها أصبحت في حدود 150 مليون جنيه سنويًا".
لذا اتجهت للاقتراض من القابضة الكيماوية لشراء خط إنتاج للفلنكات في مصر تابع لشركة سالشيف الإيطالية، التي كانت تعد المنافس الأكبر لها في السوق.
"اشترت سيجوارت خط الإنتاج الجديد بـ45 مليونًا لتسيطر بذلك على 85% من سوق الفلنكات، كما قامت بتجديدات في مصنعها القديم في حلوان"، كما يضيف المصدر.
الشركة تتحول للربحية
انتعاش الطلب الحكومي على الفلنكات جعل سيجوارت تستهدف التحول لتحقيق أرباح صافية خلال العام المالي الحالي بنحو 200 مليون جنيه، بعد أن سيطرت عليها الخسائر لعدة سنوات، كما يقول عضو مجلس إدارة في الشركة القابضة للصناعات الكيماوية لـ المنصة طلب عدم نشر اسمه.
"استطاعت الشركة أن تتخلص من الكثير من أعبائها المالية خلال العام المالي الماضي، مثل سداد مديونية الكهرباء والتأمينات الاجتماعية ومستحقات قدامى العاملين، التي بلغت في مجملها نحو 50 مليون جنيه، وذلك بفضل عقود التوريد لوزارة النقل" كما يضيف المصدر السابق.
"ما يزيد من توقعات تحول الشركة للربحية لأول مرة هذا العام هو العمل الحالي على استغلال أراضي الشركة في حلوان"، يقول المصدر بالقابضة الكيماوية.
"لا أحد ينكر أن المشروعات القومية فتحت مجالات كبيرة أمام شركات القطاعين الخاص والعام"، كما يقول حسن مهندي أستاذ الهندسة بجامعة عين شمس وخبير مشروعات البنية الأساسية لـ المنصة.
ويضيف مهندي "على سبيل المثال هناك أربع شركات أخرى حكومية وخاصة استفادت من تعاقدات خط قطار العلمين- السخنة- مرسي مطروح الكهربائي السريع".
لكن على المدى الطويل يظل التحدي الأكبر أمام الشركة هو قدرتها على الحفاظ على زخم الطلب على الفلنكات بعد انتهاء طفرة المشروعات القومية.
"الشركة أمامها فرصة للتصدير، في مرحلة لاحقة، عقب اكتفاء السوق المحلية من الاحتياجات المطلوبة، لا سيما بعد التوسع الكبير في تنفيذ شبكة القطارات السريعة، ومشروعات تطوير خطوط السكك الحديدية الحالية"، كما يقول مهندي معلقًا على مستقبل الشركة.