1
شاب، في منتصف العشرينيات، تقريبًا، أصادفه كثيرًا في الترام. طويل، له جسم رياضي، ويلبس براندات عالمية أصلية، من تلك التي عادت للظهور في فضاء الترام، مع الأجيال الجديدة، بعد ثورة يناير. عاد الترام، كماضيه، وسيلة مواصلات لكل الطبقات، والأجيال.
ربما ليست مصادفة، فاحتمالات تقاطع مساراتنا اليومية وارد، كوني أتحرك، مثله، على هذا الخط المستقيم، الذي يتحرك بدوره على قضيبين. أو ربما هي نوع من المصادفات الهامشية، التي توفرها المدينة، داخل جيوب زمنية ومكانية، تحتفظ بهما داخل عشوائية مصادفاتها، واحتمالاتها اللانهائية، وعكس مقولة هيراقليطس "إننا لا ننزل الماء نفسه مرتين"؛ بل يمكن أن ترى وجها واحدًا مرتين، وثلاثة، وأربعة.
أصبح وجه الشاب علامة مميزة وسط وجوه راكبي الترام المتشابهة، التي وحدها المسار المستقيم، والإيقاع الهادئ للترام، وصبها في قالب عائلي لا تنافسه فيه أي وسيلة مواصلات أخرى. له شعر كيرلي، ويفتح قميصه حتى منتصف صدره، وأول ما يلفت نظرك، عيناه، بهذا السواد الذي يحوطهما، كأنها مكحلتان، بينما إنسان العين، شديد السواد، حائر كبندول يتحرك من اليمين لليسار، بسرعة أكبر من سرعة تفكيره أو حتى تردده. يحمل عادة، حقيبة سوداء صغيرة، في يده اليسرى، يقبض عليها بأصابع قوية، من تلك التي يتم الاحتفاظ فيها بالكروت الممغنطة، للهوية الحديثة، التي تفك شفرات الماكينات والبوابات العديدة التي تفحص تلك الهوية يوميًا.
2
يعرِّف نفسه، أمام جمهور الترام، بأنه "ركيِّب تراموايات"، مثل " أكِّيل" و"سمِّيع"، كلها صيغ مبالغة مرتبطة بكثرة حدوث الفعل، كما في تعريف صيغ المبالغة، ولكن مع هذا الشاب يضيف لصيغة الركوب حاسة التذوق، كأنها هواية انقلبت مع الوقت إلى احتراف. يعتبر نفسه المسؤول عن الرد على أي سؤال يطرحه أي من الركاب، حول اسم المحطة الفلانية، أو غيرها.
أصبح الترام وسيلة للتمايز والمباهاة، لا يدرك كنهها إلا من يعرفها جيدًا، وهو واحد من هؤلاء العارفين. ولكن ربما صيغة المبالغة، تنطوي قليلًا، كما سيتضح، على مس من التطرف، أو التوتر اللا إرادي، الذي يعاني منه هذا الشاب. لا يخفي الشاب ذلك التوتر الذي يعتريه أثناء ركوبه للترام. يتحول لكتلة متحركة في كل الاتجاهات، يتنقل من مكان لآخر، ودائما يخرج بنصف جسمه من الشباك، كالأطفال، طوال فترة ركوبه، أو يدخل في نقاشات، مع من يقفون حوله، الذين يعتبرهم ضيوفًا عليه.
تنصب هذه الحوارات حول الترام، يطرح أسئلة كأنهم في مسابقة، تستوجب دقة الملاحظة، وأن يكون لكل منهم جهاز حاسوب وكاميرا بدلًا من المخ. ما أول محطة ترام أنشئت على هذا الخط؟ كم عدد محطات الترام على خط الرمل؟ أو كم عمودًا يتخلل هذا الخط؟ ثم تزداد الأسئلة صعوبة، كم تقاطع يعبره الترام بين محطة الرمل وفيكتوريا؟ ثم تأتي أسئلة الاستحالة، كم شجرة تقع على خط الترام. لا يترك ضيفه حائرًا كثيرًا، فيبادر بالإجابة، بدلًا من الضيف.
يبدو أنه في إطلالته الدائمة، خارج شباك الترام، لا يلعب، بل يقوم بعد أعمدة الإنارة، والفلنكات، والمحطات، والمقاعد، والأشجار، وأنواعها. ثم يقوم بعمليات حسابية معقدة، لتسكين هذه الأرقام والصور التي لا يجمعها رابط ولا عاطفة. ربما الكون الحسابي المشتعل على الدوام بحطب الأرقام والصور والأعداد، تفسر هذه الاهتزازات المستمرة لبندول إنسان عينه الذي يتحرك بسرعة شديدة تفوق طاقة الجمع والطرح لأي عملية حسابية بسيطة.
يذكرني هذا الشاب بداستين هوفمان بطل فيلم رجل المطر، كان مثله شديد الدقة في ملاحظته لأي شيء تقع عليه عيناه على الطريق، وأيضًا كان يقوم بعمليات حسابية معقدة لا تقدر عليها إلا الآلة، مما جعل أخوه يقوم باستغلال ذلك العقل في حساب احتمالات كرة الروليت، ليحقق من ورائه الربح. تطرف الشاب يتلخص في كيفية امتلاكه، لذاكرة دقيقة مسخرة كلية للأرقام والصور، بل وربما يسخِّر كل نشاط جسمه وحيويته لخدمة هذه الموهبة.
3
في إحدى المصادفات، وجدته يعيد التذكرة للكمساري، ويبدو أن الكمساري كان معتادًا على ذلك الفعل منه، فلم يأبه أو يستغرب لطلبه. ربما السبب أنه بمجرد أن مر ببصره سريعا على أرقام تذكرته، حتى تجسدت صورة الشيطان، وانعكس هذا على رغبته في سرعة التخلص من هذه التذكرة الشريرة، وإعادتها للكمساري، الذي أشار له ضاحكًا، بأن يستبدلها مع جاره، وبالفعل سلم الشاب تذكرة الشر، الذي كان سيحيق به، للراكب الذي أمامه، وأخذ منه تذكرته، دون استئذان، وجمع أرقامها سريعًا، فاستعاد وجهه اطمئنانه. حدث كل هذا، بينما الراكب الذي وقع عليه الحظ، مستسلم تمامًا، كأنه منوم مغناطيسيًا.
4
في المرحلة الإعدادية، ألححت على أبي، بأن أستخرج أبونيه للترام، حتى أذهب وأعود به من المدرسة. كانت مدرسة عبد الله النديم الإعدادية تقع في محطة مصطفى كامل، على مسافة ثلاث محطات من بيتنا في بولكلي. هوية ما، كنت أتوق لأحوذها باستقلالي هذه الوسيلة. تمنيت التسكع بها، والذهاب أبعد من البيت والشارع والحي. وقتها كان من يركب بمفرده ويظهر هذه البطاقة، داخل الحافظة البلاستيكية الشفافة، للكمساري؛ كأنه التحق بمؤسسة الكبار، وحاز صورة من صور الفردية والاستقلال عن العائلة والشارع والحي. كانت سرعته أكبر من إيقاع سنوات عمري الهادئ، لذا كان مثل سفينة تذهب للمستقبل.
لم يوافق أبي وقتها، كما لم يوافق أن أرتدي بالطو وتربروف أزرق مثل بالطو المخبرين، ألححت عليه في شرائه أيضًا، ولا أعرف السبب في تمسكي ببالطو له تلك المواصفات؟ عقابًا لأبي، عاقبت نفسي، وسرت تحت المطر عند عودتي من المدرسة للبيت، ومياه المطر تغمرني تمامًا، وتتسرب من حذائي، حتى أصاب بنزلة برد. لم يستجب أبي لاستخراج الأبونيه، ولا لشرائه بالطو المخبرين، وحسنًا فعل.
5
لم تُمح حتى الآن ذكرى زميلي في مدرسة عبد الله النديم الإعدادية، الذي ترك ساقه على قضيب ترام محطة مصطفى كامل، حيث تقع المدرسة، بعد خروجنا في فترة مسائي، واستبدل بها ساقًا صناعية. تحولت هذه الساق لذاكرة جمعية، نتذكرها جميعًا زملاء دفعة عام 72. لكل منا ذاكرة تحمل صورة هذه الساق المفقودة على ذلك الخط الدموي، حتى وإن لم يكن حاضرًا للموقعة. وهنا يظهر الوجه الدموي للترام، الذي ابتلع بين قضبانه أشلاء أجسام تحولت مع مرور الزمن لذاكرة جمعية. ضريبة الدم التي ندفعها كي تكون حركتنا أسرع مما سبق.
في بداية تشغيل خط الترام في الإسكندرية عام 1860، كانت تلحق بعرباته، عربة لنقل الموتى، لكل الديانات، توضع عليها شارة حداد سوداء، لا تنزع أبدًا. يبدو أن استخدام هذه العربة تم بعد أن انفتحت المدينة أمام أهلها، وفضلوا السكن بعيدا عن مقابرهم، بسبب هذه الوسيلة السريعة، التي ستقلهم سريعا، أيضًا، في العودة، مرة أخرى، لمقابرهم.
6
كان زميلي هذا "ركِّيب ترام" أيضًا، يحترف الوقوف على السلم الحديدي، ويدلي جسده في الريح الآتية من الاتجاه العكسي، ويتقن النزول قبل الجميع، بينما الترام يسير بسرعته. في الأزمنة العائلية للترام، كان بمجرد أن يخرج أحدهم نصف جسمه من النافذة، أو حتى يده، تنطلق صفارات الإنذار من الكمساري، وتدوي صرخات التحذير من الركاب في وجه هذا الطفل، أو الشاب، مما يجعل سائق الترام يتوقف عنوة. تلك اللعبة الخطرة التي كنا نتبارى فيها: النزول أثناء سير الترام، وامتصاص صدمة الهبوط الاضطراري، مثل الطائرة، استباق الحاضر والدخول في زمن المستقبل، قبل الآخرين، يتخلل هذا الفعل تدافع في الخطو، على هذا الرصيف الزمني، حتى تهدأ حركة الجسم تمامًا ويتماهى مع إيقاع الحاضر الجمعي لراكبي الترام الآخرين.
7
أنا، أيضًا، "ركيب ترام"، مثل ذلك الشاب، ولكن في زمن آخر. هذا الطفل الذي كان يتسلل برأسه، خارج النافذة، ومعها يبلل أطراف أصابعه، لتصطدم بهذا الهواء البارد الآتي من المستقبل، بينما حاضره وماضيه يجلسان بجواره على الكرسي، متجسدًا في أبيه أو أمه. على الرغم من هذا البطء الذي يتسم به الترام، كان يجسِّد الأزمنة تجسيدًا رمزيًا، أصبح أحد أعضاء العائلة الموازية، بعد أن مات الأب والأم، ولم تعد هناك يد أو جسد، تقبض من خلاله على الماضي والحاضر.
ربما هناك شبح لهما قائم داخل هذه الرجرجة المحببة، ذات اليمين وذات اليسار، وهذه السرعة التي تحيل الصور لضباب، لا تخفيها، ولكن أيضا لا تظهرها، وعبر إيقاع السير الهادئ، أيضًا، الذي يجسد الإيقاع العائلي الذي خرجنا منه. أحمل دائمًا حقيبة جلدية كروس على صدري، تشبه حقائب الكمسارية زمان، تخدع أحدهم أو إحداهن، فتتقدم مني وتخرج لي نقود التذكرة. في البداية كنت أغضب، كوني أعتبرها إهانة أن يراني أحدهم كمساريًا، ثم صرت أتقبل الموقف وأتعامل معه كمزحة، وأكون عضوًا عاملًا في هذه العائلة التي تُسير هذه الحياة التي تَسيرُ على قضيبين
8
حملت محطة الترام علامات الحب الأولى، الانتظار أمام محطة ترام بولكلي تحت شجرة السنط وأوراقها الخريفية الصفراء التي تناسب أكثر محطة قطار نائية في الصحراء.
يعيد الترام الإيقاع الرومانسي لأزمنة الفروسية، حيث كانت في بداياتها عبارة عن عربة تسير على قضيبين وتجرها أربعة خيول. لم تختف هذه الخيول بعد دخول البخار، ومن بعده الكهرباء، ظلت كما هي تقل المحبوب، الذي يدخل المشهد وسط صهيلها، بينما وجهه يشغل إحدى النوافذ الزجاجية المستطيلة، والمتتابعة، كأنه كادر فيلم.
كانت حياتي تسير بمحاذاة خط الترام، وأسماء محطاته، وأعمدة إضاءته الخشبية التي استبدلت بها أخرى من المعدن. خلف إحدى هذه النوافذ الزجاجية جلست لأشاهد حياتي وهي تتمدد كبقعة حبر داخل شرايين المدينة، ومن إحدى هذه النوافذ أيضًا، جلس آخر ليشاهدني وأنا واقف على رصيف الانتظار. وفي الحالين لم يغب يومًا صوت صهيل الأحصنة ووقع أقدامها على الأسفلت. ربما أستدعي هنا صورة الأحصنة النارية في فيلم روبين ويليامز الجميل ملك الصيادين.
9
في المرحلة الثانوية اخترت المدرسة العسكرية، البعيدة عن محطة بيتنا بـ 12 محطة ترام، لكي أضع أبي أمام الأمر الواقع، ويستخرج لي أبونيه. كان الهدف هو البحث عن إيقاع جديد، غير إيقاع السير العادي، ومزيد من مصادفات التقاطع مع مدارس البنات على ذلك الخط الساخن.
في كتاب ترام القاهرة للمؤرخ محمد سيد كيلاني، إشارة إلى أن دخول الترام، في القاهرة، قرَّب المسافات، وسمح بانفتاح الحياة، بل وتحول لفضاء اجتماعي، كالمقهى، حدث فيه اجتماع للعمال، وسمح لهم بأن يوحدوا كلمتهم. لحظة فارقة في تاريخ القاهرة "نقل مجتمع القاهرة من عصر البداوة والتأخر والبغال والحمير، إلى عصر الحضارة، والمدنية، وقام بربط الأحياء وكسر عزلتها، فيمكن للتلميذ الذي لا يجد مدرسة في حيه، أن يلتحق بمدرسة أخرى في حي آخر"، وهذا ما فعلته بالضبط، بعد عدة عقود، من دخول الترام، ومستفيدًا بأهم مميزاته.
10
في مقال ممتع للكاتبة الصحفية صافيناز كاظم الترام ومحطات الذاكرة، في كتابها تلابيب الكتابة تطلق على الترام صفة "صديق قديم عجوز"، أو" عزيز قوم ذل"، بعد أن عادت لركوبه مضطرة، بعد زمن تركته فيه واستخدمت سيارات الأجرة في شوارع القاهرة المزدحمة، حيث كانت تعمل صحفية في دار الهلال، في المبتديان. ولكن قبل أن تطلق عليه رصاصة الرحمة، تذكرنا بسنوات أمجاده "لست من أعداء الترام، فقد عاصرت أمجاده، وسطوته ونفوذه ودوره التاريخي في مظاهرات الطلبة حين كانت تشد السنجة لوقفه علامة الاحتجاج، أو لتغيير اتجاهه وفقا للمسيرة الطلابية، قبل 1952".
وتستأنف في مكان آخر من المقال علامات ذلك المجد وخصوصية هذا الفضاء الاجتماعي"كان الترام يسير منطلقا على قضبانه، لا تجرؤ سيارة على اغتصاب مساحة طريقه، وإلا دق لها السائق بعصبية آلة التنبيه، التي تقع تحت قدمه اليمنى، التي لها صوت كقرع الأجراس، كان دائمًا مزدحمًا غاصًا بالراكبين من مختلف الأشكال والألوان والطبقات، ويقفز الباعة على سلمه من الجانبين، الأيمن والأيسر، لبيع الحلوى والمشابك، الحاجات الضرورية، والبسيطة. وكان هناك جو مرح وأسري يجمع راكبي الترام، ويمكن أن تقول إن تركيبة الترام ككل كانت تتمتع بما يقال عنه "سنس أوف هيومر"، أي إحساس عال بالنكتة".
لم يفقد الترام في الإسكندرية هيبته بهذه الصورة، ربما حدثت هذه الإهانة مع الخطوط الصفراء والخضراء المتجه لرأس التين أو الجمرك أو النزهة، ولكن ظل خط الرمل الأزرق صامدًا، ربما تهاوى من أرستقراطتيته القديمة، أو أصبح "بيئة" بمفهوم هذا المصطلح الطبقي الجديد، في عقد التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة، ولكنه عاد في العقد الأخير واسترد بعضًا من مناخه العائلي وتعدد طبقاته.
11
أحيانًا، أثناء ركوبي الترام، كنت أقلد توفيق الحكيم، الذي كان يركب ترام الرمل، في الإسكندرية، ذا الستائر الحمراء، ويفتح كتابًا ويقرأ وسط حسناوات الطبقة الأرستقراطية. فضاء مناسب جدًا للتمرئي. في المرحلة الثانوية كنت أحمل كتابًا بالإنجليزية، لإحدى مسرحيات شكسبير، من مكتبة أبي، لا أعرف فيه إلا كلماته الأولى، ولكن غلافه كان كافيًا ليضعني في بؤرة المشهد في سبعينيات الترام، ويمنحني الصورة القديمة التي حملها توفيق الحكيم.
عندما كبرت، لم أتخل عن "الكتاب"، ولكن هذه المرة عن جدارة، فقد أصبح الترام أحد متنزهاتي للقراءة. آخذ الترام رحلة كاملة من أول الخط لآخره ذهابًا وإيابًا، وإحدى الروايات أو الكتب في يدي. تجري المشاهد أمام عيني، كما يجري الترام، ولا يعنيني بحق إن كان أحد يلفته منظري أم لا، أفضل الآن أن أكون غير مرئي، حتى أخلص لقراءة هذا الكتاب. لم يكتب إدوار الخراط عن ترام الرمل، استهواه البحر والكبائن والشاطبي، ولم يدخل لعمق الإسكندرية المديني، اكتفى بالهامش، الديني والمديني، في أحياء راغب وغيط العنب وكرموز، ليؤسس عليها حكايته.
12
يصف محمد سيد كيلاني، في ترام القاهرة، شبانًا ظهروا مع ذلك الاختراع "كان شبان العصر الترامي، كما صورهم الأدب، يبالغون في التأنق والزخرف والزينة. كتب أديب من الأرياف جاء إلى القاهرة في شتاء سنة 1902، يصف ما رآه من أحوال الشبان التراميين: هؤلاء زمرة من الشبان الأحداث، تفننوا في تحسين هندامهم، واخترعوا الأزياء المختلفة الألوان، التي لم يسبقهم فيها سابق، وعلى هذا يدور حديثهم، ويشغلهم غير زي جديد، مودة، واختراع حديث في التفصيل. وجل أماني كل شاب أن يكون أحسن من صاحبه في الزي، وألطف في الشكل لينال الإعجاب، ويكون حظه التفاخر على الأقران. ياللعجب! ما هؤلاء الذين يسيرون، ووجوههم ممسوخة، وأزياؤهم غريبة مختلفة في اللون والشكل، يمرحون في الطرق، ويجولون في الشوارع من غير معارض، ويقابلون الناس بالمزاح والملاعبة".
وهنا يكشف محمد سيد كيلاني، عن "سر" ذلك التأنق "والسر في تأنق الشبان، أنهم كانوا يتنقلون بين محطات الترام لاصطياد النساء، ولاشك في أن الأناقة سلاح فعال في هذا الصدد، لأنها تدل على الغنى، فتخدع المرأة وتسير مع الشباب، وكان يكفي أن يصدم الشاب المرأة بكتفه حتى تتبعه إلى حيث يشاء".
الأناقة قبل اختراع السيارات كانت إحدى مظاهر الثروة الظاهرة في الشارع، ومعها تحول الترام لفضاء لممارسة الخديعة، والتلاعب بقشرة الثروة المزيفة، في نظر هذا الكاتب الآتي من الأرياف، الذي يذكره محمد سيد كيلاني، ومعه أيضًا إشارة لذلك الجانب الفاسد من الحداثة واستخدام السرعة، كما يبطن كلامه، وأيضًا تحول فضاء الترام إلى مصيدة للوصول لجسد وقلب المرأة، اللذان كانا يقفان وراء ستار، وجاءت هذه الوسيلة الحديثة، لتقرب البعيد.
13
حاولت كثيرًا أن أخرج عن هذا الإيقاع، الذي تشكلت به حياتي، وهذين القضيبين، وأسيح بلا خريطة وبلا رصيف ينتظرني عليه أحد، أو أنتظر فيه أحدًا. ولكن داخل هذه الحياة التي تسير على قضيبين، قفزت كثيرًا، على هذا الرصيف الزمني، مندفعًا للمستقبل، وسرت بخطو متدافع، غير إيقاع الجميع، لألحق نفسي من الغرق في الإيقاع الممل للحياة، وعبر هذه القفزات المستقطعة من الزمن، اكتشفت حياة أخرى، لا تتوانى أن تمدني بالرموز، وإحساس المخاطرة، والفقد أيضا وتحضر لي "المستقبل"، وسط هجير الحاضر، ملفوفا في زمن ثلجي، ينعش القلب كقطعة الأيس كريم. بجانب الترام كانت تسير مركبة أخرى بلا قضبان أو محطات ولا ذكريات، تلك المركبة التي تنتظرني دومًا لأقفز إليها، وأستقلها في رحلتي في الزمن.