في بداية كتابتي للشعر في التسعينيات، ورغبة مني في تماهيه مع الحياة، كنت ألتقط الكتابات المتناثرة في الحمامات العامة، وأعدها جزءًا من اللاوعي الشعري. كان يغلب عليها الاعترافات الجنسية، التي استدعاها ذلك الباب المغلق، والتاريخ النفسي للحمامات، والجمهور الذي سيعبر بغرفة الاعترافات تلك. فالحمَّام العام، من هذا المنظور، عبارة عن منبر للتعبير عن اللا وعي، أو الوعي المكبوت، الذي تفك إساره في "بيت الراحة"، لينطلق بكل حمولته، في رحلة تحليق أرضية، للوصول للحظة انسجام مع الذات، تصاحب عملية التغوط، أو الاستحمام.
كانت هذه الكتابات مثل الأرشيف لذلك النوع من اللا وعي السائب، الذي لا يعيره أحد اهتمامًا، ويُترك هكذا على الحوائط، حتى تأتي طبقة طلاء جديدة، تختفي تحتها تلك الطبقة الاعترافية، لتتحول إلى صور لتمثيلات أخرى ستجد لها منفذًا داخل المجتمع.
كنت أعد هذا اللا وعي الجمعي جزءًا من الممارسات اليومية الشعرية، ومن خيال المجتمع في لحظة تعريه، فالاعتراف، يكمن به "شعرية" ما، حتى لو اتخذ شكلًا مبالغًا فيه، أو كان كاذبًا، فكلها تخضع لمرونة مفهوم "الأدبية" و"الشعر" في الثقافة.
الدنس والقداسة قطبان أساسيان في تكوين أي لا وعي جمعي
كانت حوائط هذه الحمامات، وأبوابها، مملوءة بأرقام تليفونات للمواعدة المفتوحة، واعترافات قصصية، وحكم جنسية، ورسومات للأعضاء التناسيلة للجنسين، تتسم بمسحة من الانحراف الجنسي، فكل من يدخلها كان، غالبًا، من الرجال. لذا تم اختراع الأنثى، إما برسم أعضائها مضخمة، أو أن يقوم الرجل، بتغيير جنسه مؤقتًا، ويقوم بأداء دور الأنثى، والحديث على لسانها، ليعبر عن تصوره الشخصي عنها.
كانت هذه النقوش والكتابات تعكس طموحات/مخيال تلك الذوات التائهة في لحظة تعرية مزدوجة، أمام نفسها وأمام الآخرين من زائري الحمامات العامة. ربما فعل تعرية الملابس، وما يليها، يعري أيضًا الكلام والخيال معًا.
حجرات اللاوعي الجمعي
كان بحثي يقتصر على تلك الأماكن المحرمة اجتماعيًا ودينيًا، والتي لا يُلتفت إليها عادة في الثقافة، ربما لغياب أدوات البحث اللازمة آنذاك. كان بعض من حقيقة اللا وعي الجمعي تكمن داخل ذلك الحيز الدنس، كما كنت أرى آنذاك.
قادني البحث العشوائي في أرشيف الحمامات، إلى العثور على أرشيف، ووثائق أخرى للا وعي الجمعي، أكثر ارتباطًا وتمثيلًا للذاكرة الجمعية، تتلخص في تلك الرسائل التي كان يرسلها الناس للقاضي الإمام الشافعي.
تعرفت حينئذ على كتابات دكتور سيد عويس، الذي أخرج ذلك الأرشيف للنور. بدأ يتضح في مخيلتي أرشيفان للا وعي الجمعي، أحدهما يرتبط بالحمامات، والآخر بالأضرحة. كانت النقلة بينهما كبيرة، فأحدهما يرتبط بالدنس، والآخر بالقداسة. ربما السبب أن الدنس والقداسة قطبان أساسيان في تكوين أي لا وعي جمعي، لذا دائمًا ما نجدهما متلازمين.
كنت أفتش عن تلك الكتابات، وعن حجرات اللا وعي الجمعي المتناثرة في شوارع مصر، ليس فقط في الحمامات العمومية، ولكن في كل شيء، على العربات، ومقاصير الأضرحة، وأيضًا أضفت لها دفاتر مصروفات البيوت في الخمسينيات والستينيات، وأولها تلك الكشاكيل التي احتفظ بها أبي، لمصروفات البيت وما صادفتني على عربات الكتب القديمة، وحتى الآن ما زلت أبحث عن تمثلات ذلك اللا وعي الجمعي، في جزئيه، الخشن والمتسامي، معًا.
الرسائل للأضرحة
كان الهدف من دراسة الدكتور سيد عويس وعنوانها من ملامح المجتمع المصري المعاصر، ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي، رصد ظاهرة الجرائم غير المنظورة، التي لا يبلغ عنها المجني عليهم، لأسباب كثيرة، فيلجأون للإمام الشافعي كي يعيد حقوقهم، أو يرفع عنهم الظلم. أثناء بحثه، اكتشف الوجه الآخر للرسائل، وهو علاقة المصريين الحميمة والممتدة مع الموتى والعالم الآخر، الذي يعد امتدادًا لعالم الأحياء.
وقتها لم أفرح بتفسير سيد عويس لتلك الظواهر. فرحتُ فقط باكتشافه لذلك الكنز، الذي يعود له الفضل فيه، أنه فتح صندوق باندورا اللا وعي الجمعي: تلك الرسائل، أو الوريقات المطوية داخل مقصورات الأضرحة لشيوخ ورهبان، في صحاري ومدن وقرى، وأدخلها مجال البحث الأكاديمي.
لا يتفق سيد عويس مع تلك الظاهرة، ويعدها ظاهرة اجتماعية سلبية، يجب أن يتم دراستها لتحويلها لظاهرة إيجابية، كما يذكر في مقدمة الكتاب "فظاهرة إرسال الرسائل إلى الموتى، مثلًا، تعكس اتجاهًا معينًا نحو الحياة، اتجاه لا يمكن اعتباره اتجاهًا إيجابيًا، أو علميًا، أي أن وجود تلك الظاهرة يمثل اتجاهًا نحو الحياة يقف متعارضًا، ضد الاتجاه الجديد نحو الحياة الذي لا بد وأن ينبثق من الظروف الاجتماعية الجديدة، ونحن نحاول أن نبني المجتمع الجديد".
تلمح وراء رغبة إرسال الرسائل ثقة في الموت، كونه ليس موتًا ولكن عتبة انتقال
صدر الكتاب في عام 1965، فترة المد القومي وتضخم الذات القومية، التي لا تقبل النقد إلا على استحياء، وحاز على جائزة الدولة التشجيعية، فجاء تركيزه فقط على الوعي، والعلم، كنقيض للا وعي والخرافة.
برغم هذا، كان سيد عويس يشق طريقًا جديدًا للبحث، ولأنواع جديدة من الأرشيفات والوثائق، ولفحص ذلك اللا وعي الجمعي، وأيضًا لكشف العلاقة الممتدة مع الموت، كأنه شفاف، ولكن من يقف وراءه يمتلك سلطة أكبر، وهبها له الموت.
تلمح وراء رغبة إرسال الرسائل ثقة في الموت، كونه ليس موتًا، ولكن عتبة انتقال، في رحلة طويلة، ومن يقدم على تلك الخطوة الأولى فقد حاز قوة إضافية بجانب قوته وسلطته في الدنيا، فالموت لا يجرد صاحبه من سلطته، بل تنتقل معه أينمًا كان، وتكون رصيدًا له في تلك المرتبة الجديدة من الحياة/الموت.
ما آمن به القدماء
يقارب الكتاب أيضًا في المقدمة، بين ظاهرتي الموت والنوم. ربما ظاهرة التحدث مع الموتى لها علاقة بالأحلام، التي نكلم فيها الموتي ونناجيهم، ونجلس معهم، ونقص أسرارنا أمامهم. ربما عالما النوم/ اليقظة هما النموذج المصغر لعالمي الموت/ الحياة، فلا نعرف من كأن أسبق في الظهور. ولكن الأهم أن داخل هذه الثنائية هناك اتصال وثيق بين عالمي الحياة والموت. والانتقال بينهما، يكسب صاحبه الخلود، فالرسالة التي نرسلها لهذا العالم، تحمل قبسًا من رغبة خلود صاحبها.
يذكر عويس في المقدمة "فالشكوى إلى الموتى وطلب قضاء الحاجات منهم، فضلا عن إرسال الرسائل إليهم، كانت، كلها، أمورا يمارسها أجدادنا المصريون القدماء، والصلة بين ظاهرة النوم وبين ظاهرة الموت، ومفهوم القرين، وعوامل وجود ظاهرة الموت، ووجود آلهة للموت، أو ملاك للموت، والتفكير في الموت، وعدم خشية الموتى، والاعتقاد بوجود حياة بعد الموت(....) ، استمر المصريون على مر الأجيال، يؤمنون بها، ويمارسون الحياة على وجه الأرض على هديها".
علاقة حديثة بالموت
عندما كنت أسير في مدينة الموتى في القاهرة، بداية من التسعينيات، حيث يسكن الموتى والأحياء، لم أشعر بحضور الموتى، وربما هي العلاقة الحديثة التي ظهرت في حياة المصريين والتي لم يتم دراستها حتى الآن، ليس تقديس الموت، ولكن اختفائه وراء الحياة، وليس مجاورته لها.
في مقابر زاوية سلطان في المنيا، يأتي أقارب الميت ليعيشوا معه في البيت/المقبرة الصغيرة المكونة من طابقين، يأكلون ويشربون ويحكون. هناك شخص أثيري يتحرك بينهم، ويأكل معهم، ذلك التمثيل الصعب للموت، وللاتصال القوي بين العالمين، فكما هو الشاهد عن الاتصال، ربما يكون أيضًا شاهدًا على الانفصال بين العالمين. ربما تجاور العالمين، أضعف التمثل المرن بينهما، فطغى أحدهما على الآخر!
أصبح عالم الموت بعيدًا، بالرغم من حضوره في قلب حياتنا. هناك هوة نفسية بيننا وبين الموت، بيننا وبين من لا زالوا يرسلون الرسائل لمقصورات أضرحة الأولياء والقديسين. حدث انفصال نفسي بين العالمين، فأصبح هناك مكان مجهول لم يعد لنا به صلة، وتحولت ظاهرة إرسال الرسائل للأضرحة إلى طقس شكلي.
استئناس الموت
يكتب ميشيل سير، الفيلسوف الفرنسي الذي زار مصر في الثمانينيات، وأقام في مدينة الموتى في القاهرة، في مقاله شرود في المقابر "كان الفقراء بعشرات الألوف يحيون داخل مدن للأموات قيد البناء، في أودية الصحراء. تلك مدنهم، وهي المدن الأولى. ماذا قلت؟ كان الأغنياء والفقراء، الفقراء والمستضعفون، كلهم يعيشون هنا، مقرورين، ومقرونين إلى المهمة العريقة، ألا وهي إرادة تأنيس الموت".
ويرى أن ثقافة مصر القديمة، كانت ومازالت بكل طوائفها وطبقاتها، تسعى في ذلك الاتجاه نحو "استئناس الموت"، جعلِه إنسانيًا، واحدًا منا، كيانًا قابلًا للعيش، حتى لا يضعنا حضوره في مواجهة العدم. ولكن يبدو أن فعل الاستئناس وصل إلى ذروته الآن، في الألفية الجديدة، مع تماهي الحدود بين العوالم الحقيقية والافتراضية التي صنعتها الميديا الحديثة. وحدث التداخل، واندمج العالمين بشدة حتى لم يعد من السهولة الفصل بينهما، وتم إعادة ترسيم حدود نفسية جديدة.
انتقل الموت وعلاماته إلى الحياة، والعكس، حتى أصبح الاثنان لا يفترقان، وغابت العلامات المميزة لكل منهما. المسافة بينهما هي الفراغ الذي تتحرك فيه المشاعر، صوب الموت، أو الحياة، دون هدف. هناك منطقة تلاش بيضاء تظهر بين العالمين، نقف عليها جميعًا كثقافة حديثة.
ضريح حديث
في محطة سكة حديد مصر بعد تجديدها، كان هناك ماكيت زجاجي للمحطة موضوع على جانب منها. كان الناس يضعون فيه صورهم ورسائلهم الصغيرة، من فرجة صغيرة بين ألواح الزجاج التي تغطيه. تحول ذلك المستطيل الزجاجى إلى معرض مفتوح للصور يجذب الجمهور. لو نظرت إليه من إحدى الزوايا فسيبدو كالمدينة التى خلت من البشر ولم يبق فيها إلا صورهم، أو "الضريح الحديث" الذي يبعثون إليه بالرسائل والصور ومصغرات أجسادهم، لتجد مكانًا وسط رحلة البعث والخلود.