لا أتذكر متى تسللت فكرة العقاب أو الذنب إلى عقلي الطفولي. ربما كانت بدايات غير مباشرة، اتخذت طرقًا جانبية مثل تردد كلمة حرام على أسماعنا، وهي المبثوثة في زوايا عديدة من أحاديثنا اليومية العادية التي لا تتصل بالدين وطقوسه وأركانه؛ سواء من أندادنا، أو من الكبار، خاصة جدتي التي كانت لها تأويلات أسطورية وصور حياتية عديدة لمفهوم "الحرام"، ألغت الحدود تمامًا بين الديني والدنيوي.
كانت كلمة حرام شاملة، تُشير لأفعال معينة يجب أن نتجنبها، حتى ننجو من العقاب الدنيوي أو الأخروي، مثل ترك لقمة من رغيفك وراءك على المائدة، لتجري خلفك العمر كله، وربما تسبقك، وأنا لا أزال لا أفهم السبب. أو ضرورة تصحيح وضع الشبشب المقلوب على وجهه سريعًا. وينضم لهذه الصور أيضًا الغناء في الحمام، أو استخدام حقيبة المدرسة، وبها كتاب الدين، كعارضةٍ لمرمى مرتجلٍ في الشارع بعد يوم دراسي، أو وضع أي شيء فوق المصحف.
شكَّل العقاب اللامرئي لهذه الأفعال "المُحرمة" بداية الإحساس بالذنب، وتأنيب هذا الضمير اللدن، الذي لم يكن عرف بعد الوجه الآخر للحياة.
السنوات البيضاء
كان "الحرام" دينيًا مرتبطًا بسن التكليف الشرعي الذي يبدأ معه الحساب الفعلي؛ بلوغ الخامسة عشر، أو ظهور علامات المراهقة على أجسادنا، وهو ما كنا بعيدين عنه كأطفال؛ فكل شيء مباح ولن نحاسب عليه. الزمن المختزن وراء هذا السن، وبكل ما يذخر به من محرمات، لن يضاف إلى أرشيف صاحبه، فهناك سماحية ومغفرة، تُسقِط تلك الذنوب أولًا بأول.
هكذا تسلل المفهوم إلى خيالي، مخلوطًا بأساطير وصور، وعقاب، وأيضًا بصورة الجنة الأرضية، المتجسدة في تلك السنوات الخالية من العقاب، وبالتالي من الذنوب. فحتى بلوغ سن التكليف أنت تعيش في الجنة، بدون أخطاء أو حساب.
قياس الأخطاء، ضمن هذا التصور، لا يبدأ إلا بعد اكتساب النضج العقلي أو الجسدي؛ كل شيء مسموح به داخل هذه السنوات البيضاء التي يُفترض أن تنام فيها، دون أن تجد ذنوبك الصغيرة تتناثر على الوسادة حولك، أو تتراقص داخل تلافيف عقلك الغض.
ولكن الواقع كان عكس ذلك.
كان هناك شعور بوخز الضمير في هذه السن الصغيرة، أسمع من بعيد صوت رنين الأخطاء على صفيح هذا الضمير الغض. ربما الأخطاء كانت تسبق الذنب، أو هي وجهه الإنساني، ثم استغلها الذنب فيما بعد ليعيش في مساحة جديدة من التأويل، للإمساك بتلابيب الإنسان داخل كل تفاصيل حياته اليومية بدون تفرقة.
تظل الطفولة هي الزمن الذهبي الذي تود أن تعيش فيه، وتعود إليه، ولكن بعقل رجل ناضج
في تلك السنوات البيضاء المتسامحة، كنت أستقبل ذبذبات الأخطاء على رادار نفسي، وأراها منتصبة تُحملق فيَّ، وتُضيّع عليّ لذة نسيانها، وهي أهم مميزات هذه السنوات التي يُرفع فيها التكليف. كانت هذه السنوات تشبه جنة العودة في السماء في مخيّلتي، خاصة بنسيانها الكامل لما سبق، فهناك محو لأي ذاكرة، والذاكرة مرتبطة بحياتنا على الأرض، وقد انتهت مهمتها، أما في جنة العودة فلا مكان للنظر للوراء، لأنه لا ماضٍ ولا مستقبل. إنها حضور دائم.
يبدو أن صورة الجنة كانت أيضًا تصارع لتأخذ مكانها، وتمثلاتها، في خيالنا الطفولي، بجانب مفهوم الحرام والذنب.
أزمنة مدفوعة الثمن
لم تتكرر في حياتنا تلك الأزمنة المتسامحة، التي نعيش فيها بدون مسؤولية، أو بدون عين خارجية تُراقب أفعالنا، وتُحصيها علينا، حيث الله له مكانة أكبر من إحصاء الأخطاء، كما كانوا يصورون لنا في الطفولة. بالطبع صورتنا عن الله ونحن أطفال، من أهم الصور التي كانت تشغل كواليس المسرح الذي نُشيّد عليه خيالاتنا، كي نكوِّن مفهومًا، ولو وهميًا، عن الحياة والعالم الآخر والموت، كما قال الطفل لأبيه في قصة أرني الله لتوفيق الحكيم "إنك يا أبتِ تتحدث كثيرًا عن الله.. أرني الله".
أي زمن متسامح جاء بعد ذلك، كان زمنًا مدفوع الثمن مقدمًا، سواء برصيد الذنوب التقليدي الذي يجب أن يتحمله ضميرك، أو بنسيان متعمد ومؤقت لثنائيات المعادلة وكسر هذه السلسلة التي صاغت حياتنا: ذنب وعقاب، مغفرة وتسامح، حلال وحرام.
لذا تظل الطفولة هي الزمن الذهبي الذي تود أن تعيش فيه، وتعود إليه، ولكن بعقل رجل ناضج، حتى تستثمر هذه السماحية بطريقة أفضل مما استثمرناها في طفولتنا. فهذه الأزمنة البيضاء الخالية من التكليف لن تعود بسهولة، واستعادتها تحتاج إلى زرع الطفولة في تربة جديدة، واستنباتها عكس مرور تيار الزمن.
حيث التجربة
الغريب أنني في تلك السنوات البيضاء، كنت مشغولًا بتخطي الطفولة سريعًا والوصول للمراهقة، أعدُّ السنوات حتى يأتي خط النهاية، وأعيش تحت سيطرة ما بعد هذا الزمن المتسامح حيث "التجربة".
كنت أمرر هذه السنوات، كأني أبعثر رصيدي الحي من الذنوب والأخطاء على مجموعة هائلة من الأشياء واللعبات والكذبات التافهة والخيالات الأسطورية، التي شكلت وقتها آفاق العالم الذي أعيش فيه بلا تجارب. كما عاش آدم في الجنة، قبل خروجه منها، بلا تجربة.
كان لا بد من أن نخرج ونعد الثواني والدقائق والأيام، إيذانًا بميلادنا الثاني
تجربته الوحيدة هي الخروج. فالأخطاء هي التي تسوقنا إلى تجارب، ربما بتصحيحها، أو لإثبات أنها لم تكن أخطاءً، بل طرقًا جديدة للحياة وزوايا مضافة لرؤيتها.
ربما لكي تتذوق حلاوة جنة هذه السنوات البيضاء، وتتذوق ثمرتها المحرمة، يجب أن نغادرها، كما خرج آدم من الجنة. فهذا الوعي، الذي لم يمتلكه آدم في البداية، هو مِنحةُ الذنب أو الخطيئة في أكل الثمرة، هو الوعي نفسه الذي نتمثله في خيالات مرحلة طفولتنا، وننتظر الخروج منها مكررين الخطيئة الأولى.
ربما لأننا نعرف بأننا سنخرج من هذه المرحلة، كأننا ونحن داخلها نفكر في نهايتها، وربما هذا منع عنا الاستمتاع بها وبالحرية الاستثنائية الممنوحة لنا، كما لم يستمتع آدم بالجنة، إلا بعد الخروج منها. ومن هذا الخروج نشأت سلالاتنا على الأرض.
ربما ما كانت تجعلني أمرر الأيام سريعًا حتى ينتهي رصيدي منها، تلك الرغبة الكامنة في النضج. فهذه الجنة البيضاء كانت ناقصة بشكل ما، والهدف منها يقع خارجها، وهو إضافة مرحلة جديدة إلى مرحلة الطفولة، أي تجاوزها. فجمال جنة الطفولة، بكل سماحيتها ولا مسؤوليتها، ليس فيها، ولكن في تذكرها بعد أن نغادرها.
كان لا بد من أن نخرج ونعد الثواني والدقائق والأيام، إيذانًا بميلادنا الثاني.
نقطة التصالح
ربما التناقض، في كل مرحلة عمرية، بين الجسد والروح، هو الذي يضمن الاستمرار والحركة تجاه اكتمال وهمي، ولكنه يظل هدفًا يشغل كواليس مسرح حياتنا، لأننا خُلِقنا على مثال الاكتمال، أو خَلَقنا الله على مثاله، نسعى جاهدين لخرق معادلة الكمال، كي نعود إنسانيين، ولكننا في الوقت نفسه، نسعى لتحقيق هذا الكمال بهذا الخرق، كأن لا طريقًا آخر للمحاولة سوى التسليم، سواء بالإيجاب أو النفي.
ربما مراحل الحياة كلها، لو أعدنا صياغتها، جميعها كانت تحتاج لتعديل في مضمونها، كي تؤتي ثمارها، والمطلوب منها، كقوة فاعلة مضافة لصاحبها، وكسنوات بيضاء يُجرب فيها الأخطاء، ليُعبِّد طريقًا آخر غير تقليدي.
ماذا لو امتزج العقل والنضح بفترة الطفولة وسماحيتها، وبخلوها من العقاب، ثم يتم التدرج من النضج حتى النزق في نهايات العمر.
كنت أتساءل دومًا، ماذا لو بدأنا عمرنا من لحظة الاكتمال، من النهاية، وصولًا للبداية. ماذا لو عكسنا تيار الزمن، كما حدث لبينجامين بوتون (براد بيت) في فيلم The Curious Case of Benjamin Button لديفيد فينشر، والمأخوذ عن قصة للكاتب الأمريكي فرانسيس سكوت فيتزجيرالد، ويحكي عن الطفل بينجامين بوتون الذي ولد بجسدٍ مسن وعقل طفل، في البداية يجلس على كرسيٍّ متحرك، ثم يسير على عكازين، ثم بمرور السنوات يتعلم المشي.
كلما تقدم بينجامين في هذا الزمن العكسي، عاد مرة أخرى إلى الطفولة، بعقل وجسد طفل، كأنها إعادة للبداية الصحيحة والتقليدية، وعند هذه اللحظة يموت.
تريلر فيلم The Curious Case of Benjamin Button
كأن النضج والتجانس بين الجسد والعقل، أو الروح، رحلة عابرة وسريعة وطارئة على حياة الإنسان. هذه الثنائية الخالدة بين النضج الجسدي والعقلي، بين مراحل العمر، التي لا تتساوى في طرفيها إلا في ظروف استثنائية.
كانت هذه المرحلة الطارئة أهم مراحل حياة بينجامين، التي تقع بين البداية والنهاية المعكوستين، حيث النقطة المتعادلة التي يلتقي فيها النقيضان: البداية والنهاية، وهي المرحلة التي أَحَبَّ وأَنْجَب وسافر فيها بينجامين، وصنع فيها الذكريات، حيث الاتساق بين حيوية الجسم وحيوية ونضج العقل.
إذن الحياة، وفقًا للفيلم، تقع هناك، بعيدًا عن البداية والنهاية، عن الطفولة والشيخوخة، تقع ما بينهما حيث الذروة، أو نقطة التصالح، التي يجب أن نفرشها على باقي مراحل حياتنا، طالما امتلكنا الوعي، كلٌّ بطريقته.
الخلود الزائف
الخلود هو سجن المرحلة الواحدة وعدم الخروج منها، كالطفل الأبدي الخالد الذي يقبع داخل كلٍّ منا رافضًا أو متذمرًا أو خائفًا من باقي المراحل العمرية. ضريبة الخلود الثبات وعدم التحول، فالتحول يُحول المطلق إلى نسبي قابل للتغيّر والتحلل، وبالتالي للموت. الموت كامن في التحول، لذا التمسك بمرحلة عمرية معينة يحمل في ثناياه رغبة استبعاد الموت.
الخروج من الجنة، الخروج من الرحم، الخروج من الذات؛ سلسلة من الخروجات والتحولات التي تقربنا من الموت، ولكنها تبعدنا أيضًا عن خلود فاتر كالسجن، كالمكوث في الرحم، أو الجنة، أو الذات، بدون رؤية الجزء الآخر من الحياة. وهذا الخروج/التحول، حدث بخطيئة كجزء من كيمياء الطبيعة، ولكننا عقدنا اتفاقًا مثل فاوست بطل "جوته"، أن نقبل الموت لأن الحياة تقع خلفه، ونرفض الخلود لأن به سجن.
تحت راية الموت التي نرفعها على حياتنا، تأتي من بعيد، أو قريب، روائح هذه الجنة المفقودة، والطفولة المفقودة، تُهون علينا، ولا تمنع رحلة الاستمتاع بالحياة، أو رحلة استنفادنا لها.