في كل رحلة نخوض، ثمة شعور بأن هناك من سيأتي ويقتفي أثرنا، خصوصًا لو كان فيها ما يخلدها. يمكن أن تكون أنت نفسك ذلك الشبح الذي يقتفي أثرك. تترك له علامة في أحد الأماكن كرسالة مباشرة. ربما داخل لحظتك الاستثنائية تخلق ذلك الآخر، سواء كنت من تتبع خطواته، أو هو الذي يقتفي آثرك، هناك دومًا "آخر" مرتبط بالرحلة.
وفي الفيلم الأمريكي الكلمات The Words من إنتاج عام 2012، هذا الأثر وتلك الرحلة.
يعيش أحد الكتاب في نيويورك، حالة من عدم التحقق بعد سنوات من احترافه الكتابة أفقدته ثقته بموهبته، فيلتحق بالعمل كمحرر لدار نشر كي يؤمن مصاريف حياته وزوجته. تبوء محاولاته بالفشل في بيع مؤلفاته لتلك الدار، وبعد مرور عدة أشهر يسافر مع زوجته إلى باريس لقضاء شهر العسل، وهناك تشتري له حقيبة جلدية قديمة، من محل للأنتيكات، التي ستمثل نقطة تحول في حياته المهنية.
في إحدى الليالي، وبينما يجلس أمام شاشة اللابتوب المضيئة يحاول الكتابة، يتذكر الحقيبة، كأنها كانت طوال تلك المدة تعيش في لا وعيه، يخرجها، فيعثر بداخلها على نص روائي لكاتب آخر مجهول.
من شدة إعجابه بذلك النص، وبموهبة صاحبه المجهول، يعيد جمعه مرة أخرى على جهازه، كي يمتص رحيق تلك الموهبة التي تتخلل الكلمات، وهنا تتدخل الصدفة، ففي إحدى الليالي تقوم زوجته، خلال غيابه، بقراءة النص المكتوب على اللابتوب، اعتقادًا منها أنه لزوجها، فتنبهر بأسلوبه، وتصر على أن يذهب به ليقدمه لدار النشر التي يعمل بها. أمام تلك المصادفة، التي لاقت هوى في نفسه، يتعامل الكاتب على أنه صاحب النص الأصلي، ويتتبع خطوات نشره بعد موافقة محرر الدار وإعجابه الشديد به.
تتوالى الأحداث ويفاجأ برواج الكتاب وتحقيقه مبيعات كبيرة. هنا يدخل "الكاتب" في لعبة نفسية، بين كونه لصًا، أو منتحلًا لنص آخر، وبين كونه يستحق ذلك التقدير والاهتمام، فجزء من استيلائه على النص وتبريره أمام ضميره المهني، يرجع إلى أنه يستحق أن يكتب نصًا بهذه القوة، لذا وضع نفسه مكان ذلك الكاتب الشبح.
كأن كل نص أصلي، متعدد، يجب أن يُنتحل كي يعيش، ويدخل في علاقات جديدة تحقق رسالته، فالكتابة وإن بحثت دومًا عن مؤلف، فإنه سيظل مجهولًا، فيما ستبقى الكتابة.
رحلة الغائب
خلال تلك الأحداث، والرواج الذي جرى للرواية، يستقيظ الكاتب الأصلي، فخروج النص للنور يستثيره، فيقابل الكاتب المنتحل في إحدى الحدائق العامة في نيويورك، ويخبره أنه كاتب الرواية الأصلي، ثم يحكي له عن الرحلة التي قطعها نصه حتى وصل إليه، حيث فقدته زوجته الفرنسية في القطار، في الحقيبة نفسها التي وصل إليه فيها.
لم تكن الرواية إلا تجسيدًا لحياة الكاتب وقصة معاناته العائلية، وزواجه من نادلة فرنسية أثناء تجنيده في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، وإنجابه طفلة جميلة، تموت بعد فترة من ولادتها، ما أدى إلى تفكك عائلته وانفصاله عن زوجته.
الغريب أن هذا الكاتب الأصلي لا يطالب المنتحل باسترداد وديعته، أو حتى حقه في الشهرة، بل يرفض المقابل المادي الذي عرضه عليه ليقتسم معه أرباح ذلك النجاح، وكلها تسويات مادية لا مكان لها داخل تلك العلاقة شديدة الخصوصية، التي تسيج علاقة الكاتب الأصلي بنصه. كان صاحب الرواية ينظر للأمور من ناحية أخرى، كأنه بذلك العمل الذي لم يكتب غيره، وفقده، يبعث برسالة إلى المستقبل، لمن يعثر عليه.
لو كان كاتبًا عاديًا، ربما كان كتب نصوصًا أخرى، بعدها، ولكنه نصه الوحيد المفقود، وهو لا يكرر أفكاره، ربما لا يحترف الكتابة، لا يُجوِّد، ولكنه يحمل رسالة للعالم وضعها داخل نصه الوحيد ذاك، وضيَّعته حبيبته.
وهذا يكفي لتوصيل رسالته في الحياة، إنه لا يبحث عن الشهرة، ولا يبحث عن المال، اختلطت عنده الكتابة بدماء حياته ومعاناته، التي لا يجب أن تمتهن بالتكرار، فكان ذلك النص الوحيد والفريد، كأنه رسالته للعالم.
وطالما هناك رسالة مجازية من طرف الكاتب الأصلي، فالمنتحل ليس منتحلًا، هو مستقبل لتلك الرسالة، ولولاه ما عاشت وخرجت للنور، وحققت أمل صاحبها الأصلي. كأن كل نص أصلي، متعدد، يجب أن يُنتحل كي يعيش، ويدخل في علاقات جديدة تحقق رسالته، فالكتابة وإن بحثت دومًا عن مؤلف، فإنه سيظل مجهولًا، فيما ستبقى الكتابة.
تريللر فيلم The Words
عودة الأنا
الكتابة تأتي بعد الحياة. وذلك الكاتب الأصلي سُحقت "أناه" بتهدم عائلته، ومن بعدها لم يعد هناك شيء مهم.
كتابة النص المفقود ترتبط تمامًا بتلك الأنا المسحوقة. ربما سحقت "أناه" لكي ينفصل عنها، وكل ما يخرج منه بعد تلك المأساة ما هو إلا الآثار الطافية لذلك الانفصال بينه وبينها (هذا التحطيم القدري "للإيجو"، أو على الأقل غمره عميقًا في الذات)، ولكن عندما وصلت رسالته للعالم، لآخر وقام بنشرها، عادت إليه أناه مرة أخرى، في صورة جديدة، صورة ذلك الكاتب المنتحل، أو في صورة النجاح الذي حققته روايته بأثر رجعي.
كانت الرواية تبحث عن من ينتشلها من البحر، هي زجاجة موجهة لواحد بعينه. هل هو الآخر داخل ذلك الكاتب الأصلي؟ هل هو الضفة الأخرى من وجوده الذي كتب لها الرواية، وكان يحتاج للرحلة كي يصل للثقة في موهبته؟ أو يرمم "أناه" المسحوقة؟ هل هو الشبح الذي يطارد أي كاتب بأن هناك استحالة في فكرة الكتابة بمفهومها المتسع مع حضور الأنا بمفهومها الأناني الضيق، للوصول لذلك النص الأصلي الفريد المفقود، الذي يأخذ رحلته بقوة المكتوب فيه ليصل للعالم كرسالة عذاب إنسانية؟
ربما الكاتب الأصلي لم يُرد أن يعثر أحد على روايته، على الأقل أثناء حياته لتكتمل فكرته عن الفداء، و "سحق الأنا". ولكن جاء الكاتب الآخر وخرب اللعبة.
ربما أمل أي كاتب أن يكون صاحب ذلك النص المجهول، الكاتب الذي انسحقت أناه تمامًا، وصار يطفو فوق أنا جديدة خرجت من تلك القديمة، ليكتب من ذلك المكان الصفري عن الأشياء التي لم تتحقق في حياته، من دون انتظار أي مردود لها، ليكتب عما تمناه في كل لحظات الحرية التي عاشها. ربما أود أن أكون صاحب ذلك النص الواحد المفقود، وبعد فقده ذهبت للعمل في الحياة، وسط تفاصيل أخرى تنسيني ما فقدت.
يذكرني الفيلم بذكرى خاصة. عندما سافرت أنا وسلوى بعد زواجنا لزيارة جزر اليونان. في إحدى الجزر، من فرط النشوة والخفة التي كانت تحوط بنا وتتولد ذاتيًا، بعد أن اشترينا زجاجتي نبيذ محلي من متجر القرية، صعدنا بهما الجبل. تحول الجبل إلى بحر من حولنا وفكرنا في أن نوثق تلك اللحظة الخاصة.
نزعنا ورقة من المفكرة وكتبنا من نحن، ولماذا جئنا هنا إلى اليونان، وما نشعر به في تلك اللحظة، وتاريخ اليوم والسنة وغيرها من المعلومات، ووضعناها في إحدى الزجاجتين الفارغتين، وتركناها على الجبل على أمل أن تصل لآخر.
ربما كانت السعادة والفرح والنشوة، تشكل "النص الأصلي" الذي نريد أن يكون رسالتنا للحياة. وربما هذه الزجاجة لازالت هناك في مكانها على الجبل تنتظر من يفتحها، وربما تنتظر قرونًا ساكنة.
ربما كنا ساعة كتابتنا لتلك الرسالة ننتظر من سيشهد على لحظتنا الاستثنائية المنفلتة من سياق الزمن العادي، وينقذها من النسيان، ليأتي بعد سنين، فيعيد لنا نسختنا، أو نسخته منها بعد أن استعارها طويلًا.