كان عمر الصحفية الشابة صافي ناز كاظم لا يتجاوز الثانية والعشرين حين كتبت سلسلة مقالات في "مجلة الجيل" عن رحلتها بين عدة دول أوروبية عن طريق الأوتوستوب في تجربة وصفها رئيس التحرير موسى صبري بأنها "أجرأ مغامرة صحفية لعام 1959". بعدها بعام واحد شرعت صافي ناز في رحلة أخرى، أجرأ وأطول وأبعد، فعبرت المحيط وسافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، واغتربت هناك ست سنوات تدرس النقد المسرحي وتعمل من أجل تسديد نفقات الدراسة. تلك الرحلة الرائدة التي مر عليها أكثر من نصف قرن من الزمن حُفِظت آثارها طازجة في مجموعة من النصوص الأدبية البديعة، ما بين خطابات ويوميات وقصص قصيرة، صدرت لكاتبتها عن دار الهلال عام 1970 بعنوان "رومانتيكيات".
قرأت هذه النصوص خلال العام الماضي، وأسرتني كتابة الطالبة المغتربة بما فيها من ذاتية وحيوية ومرح، وحكمة وعمق أيضًا. ربما لأنني كنت طالبة مغتربة في وقت ما، وتزوجت من طالب مغترب لاحقًا وعشت، ولا زلت، في مدن جامعية في أمريكا تعج بالطلاب المغتربين من مختلف البلاد. وجدت في رومانتيكيات صافي صورة للتدفق في الأفكار والملاحظات والمقارنات التي تثور في عقول طلاب الفن والعلم المغتربين وهم يحاولون استيعاب كل شيء حولهم.
وفي نفس الوقت وجدت في يومياتها وخطاباتها تعبيرا عن جياشة عواطف الشباب، خاصة وهي بعيدة عن مجتمعها الذي تألفه ويألفها، فتتأرجح في حالتها الشعورية والمزاجية ما بين الإعجاب والاشتياق والحماس والغضب والإحباط والانطلاق والوحدة والحب والحزن. تجربة غنية وقاسية عبرت عنها بعد انتهاء غربتها بأنها عادت فائزة بصندوق ثقيل يحتوي على "أمتار من العذاب الفاخر".
دفعني إعجابي بالكتاب إلى ترجمة مقاطع منه إلى الإنجليزية لتنشر بالتنسيق مع مجلة أدبية ربع سنوية اسمها ArabLit Quarterly. لم أواجه مشكلة في اختيار وترجمة المقاطع التي أحب أن أقدمها، لكني ترددت طويلًا أمام طلب رئيسة التحرير الأمريكية بأن أكتب مقدمة تصف المؤلفة. كنت أفضل أن أترك النص اللذيذ يتحدّث عن صاحبته، وأن أجتنب الخوض في الإشكاليات السياسية السخيفة المعتادة التي يقع فيها من يحبون التصنيفات الأيديولوجية أكثر من حبهم لقراءة الأدب والاستمتاع بجمالياته، ووجدتني أردد كلمات راهبة الدير في فيلم صوت الموسيقى "لدي ما أقوله في حقها: (كتابتها) تضحكني". لكن في النهاية استسلمت لفضولي الشخصي وخضت في كل ما استطعت أن أجده لأجيب على سؤال الأغنية بعد تحويره: كيف تصف كاتبة مثل صافي ناز كاظم؟
مجهولة أم مستبعدة؟
تذكرت أول مرة لفت نظري اسم صافي ناز كاظم؛ كنت في بداية مرحلة الإعدادية وكنت أتصفح مجلة أسبوعية نشرت حوارًا معها، واحترت جدًا أمام تصريحها الذي جاء في العنوان عن كونها "تزوجت من أحمد فؤاد نجم لتسديد ديون مصر". كنا في نهاية الثمانينيات وكانت ديون مصر الخارجية في مقدمة الخطاب الرسمي والإعلامي. حاولت الاستفهام ومعرفة المزيد، فكان من السهل التعرف على من هو أحمد فؤاد نجم؛ صوت الفقراء والمضطَهدين الذي سُجِن مرارًا لسخريته من الطغاة بكلماته التي لم تنمحِ من الذاكرة. أما صافي ناز كاظم فلم أعرف عنها المزيد إلا بعد مرور حوالي عشر سنوات، حين شاهدت الفيلم الوثائقي أربع نساء من مصر، الذي أنتج عام 1997.
ركز الفيلم الذي أخرجته تهاني راشد على الصداقة الخاصة التي تجمع أربع سيدات رائعات، لكل منهن تاريخ من النضال الوطني والمجتمعي. وخلال المناقشات السياسية التي دارت في الفيلم ظهرت بوضوح الركيزة الإسلامية في فكر صافي ناز كاظم، ولم يظهر لنا سوى قدر ضئيل جدًا من شخصيتها الأدبية. ومع هذا أغراني مزاحها الفكاهي وانطلاقها المفاجئ بالغناء في الفيلم إلى محاولة التعرف عليها. كنت في تلك الفترة قد تخرجت من الجامعة وبدأت العمل في المجلة الثقافية "الكتب وجهات نظر"، ولذا تمكنت أنا ونانيس زميلتي من الاتصال بها ثم زيارتها في منزلها.
اتضح لي على الفور لماذا لا تظهر صافي ناز كاظم على ساحة الإعلام في تيّاره الرئيسي العام؛ فمن ناحية، يهاب الكثيرون امرأة مفوهة وجسورة مثلها، قد تسبب بصراحة لسانها ونقدها اللاذع حرجًا لهم أو تحديًا لسلطتهم. ومن ناحية ثانية، ينفر آخرون ممن يحبون ويشجعون المرأة المثقفة مستقلة الرأي من امرأة ترتدي الحجاب التقليدي وتنتقد العلمانية الغربية والإلحاد. ولن يرضى عنها من ناحية ثالثة اليمين الإسلامي الرجعي لارتباطها بدوائر اليسار والاشتراكية؛ حتى إن السلطات الأمنية حين اعتقلتها ثلاث مرات في أعوام 1973، و1975، و1981 اتهمتها بأنها ماركسية.
ولسوء حظ القراء وناشري الثقافة الذين اهتموا فقط بعلاقة صافي ناز كاظم بالشاعر المشهور، أو ردعتهم اليافطة الأيديولوجية التي لصقت بها، سواء باعتبارها إسلامية أو ماركسية، لم ينتبه سوى القليلين إلى موهبتها الأدبية المنفردة في الكتابة الذاتية والنقد الفني. ولكن رغم تجاهل المجتمع الثقافي ومؤسساته لها، بل وقرار منعها من النشر الذي ظل ساريًا من 1971 وحتى 1983، فإن التعرف على كتابتها متاح من خلال أعمالها التي جُمعت ونُشرت فيما لا يقل عن ستة عشر كتابًا.
نواة الجد وسر الاستقواء
لا ينفي التجاهل المتعمّد لصافي ناز كاظم، ولا جهلنا البرئ بها، أنها لاقت الشهرة المهنية منذ بداياتها الأولى وحفرت لنفسها مكانة صحفية ونقدية متميزة وهي ما زالت في العشرينات من عمرها. ونجد فيما كتبه الصحفي الكبير أحمد بهاء الدين في مقدمته الطويلة لكتابها الأول رومانتيكيات شهادة موثقة عن تلك المكانة، وكذلك صورة عن الصحفية الشابة التي لفت أسلوبها في الكتابة انتباه رئيس التحرير الشهير منذ خطواتها الصحفية الأولى. وصف بهاء الدين أسلوبها بأنه "صوت جديد ونقي"، ووصف انطباعه عن شخصيتها بعد شهور من العمل "هذا المظهر الصاخب، الضاحك، الفوّار، يخفي في باطنه نواة من الجد الصعب والصرامة القاطعة".
أظن أن كل من شاهد أو قابل الأستاذة صافي ناز ، سيجد أن الصورة التي يرسمها الأستاذ بهاء بكلماته لا زالت تصدق عليها. ربما يكون الفارق هو اختلاف قاموس المفردات من جيل لآخر ومن شخص لآخر. فأول ما يتبادر لذهني من كلمات حين أذكر انطباعي عن الأستاذة التي قابلتها وأنا في مقتبل حياتي المهنية هي قوة الشخصية، والثقةبالنفس، والاعتداد بالرأي. في ذلك الوقت، بدأت أتابع مقالاتها التي كانت تكتبها بانتظام في مجلة الهلال الشهرية، ثم سنحت لي فرصة ذات يوم أن أطلب رأيها، على استحياء ، في أول مقال يظهر بتوقيعي في المجلة التي أعمل بها منذ بداية تأسيسها. قرأته ثم سألتني مباغتة "حد كتب لك المقال ده؟" أجبتها مدافعة "لا طبعا أنا اللي كتبته لوحدي" زجرتني قائلة "تبقي كاتبة، وند، اطلعي بقى من جو التلمذة ده".
لأسباب متعددة لم يكن من السهل عليّ الأخذ بنصيحة الأستاذة، وربما لم أقدّر قيمتها وفرط عذوبتها إلا بعد سنين. لكن أحد هذه الأسباب يتعلق بخصوصية الظرف التاريخي الذي شب عليه جيل صافي ناز بالمقارنة بجيلي. تقول صافي ناز كاظم في حديث لها مع الكاتب علاء خالد (مجلة أمكنة، العدد العاشر):
"إحنا الجيل اللي كان عنده 15 سنة لما قامت الثورة. احنا كنّا بنمثل فترة الحلم. البلد كلها كانت في حلم. دخلنا الجامعة بنقول دي أرضنا. كنّا مستقويين بالثورة... كانوا كلهم شباب (الضباط الأحرار والوزراء)... دخلنا وأغنية شادية بتقول يلا يا بنت بلدي ريّسنا قال قومي وجاهدي مع الرجال... كانت مجموعة جامحة من النساء (في قسم الصحافة بكلية الآداب)، ما فكرناش نتساوى لأننا كنا متساويين بالفعل. التصور الذاتي عن نفسنا إن ده حقنا وإحنا على الأرض بتاعتنا، فمش مستنيين حد يدينا حاجة... مش بادئين من نقطة دفاعية. بادئين من محاولة التحقق للوطن والذات".
بالإضافة إلى الاستقواء بالثورة والثقة التي استمدتها من تلك الفترة، يظهر في صفحات رومانتيكيات مصدرًا داخليًا لتلك "النواة من الجد الصعب" أو بمعنى آخر، الصلابة النفسية؛ تكتب صافي:
"لا بد أن يكون للإنسان "شعلة داخلية" دائمة الاتقاد ينبع منها كل مرحه وبهجته وسعادته وحزنه العظيم. اكتفاء ذاتي يفي كل حاجاته. أنا لا أشعر بفجيعة انسان يعيش حياته بلا بهجة لأنه فقد منبع البهجة: إنسان آخر. لا شفقة لدي للمعذبين في الحب، إلا إذا كان عذابهم جزءًا من كيان بهجتهم "مثلي"، إن الحب حالة تخيل وإبداع نخترعها في إنسان خارجي يتلاءم مع ذوقنا الفني".
سؤال التغير والاستمرار
يشغلني هذا السؤال طوال الوقت. إلى أي مدى نستطيع أن نتغير؟ وهل نتغير مع مرور الزمن عن وعي وقصد أم أن الظروف التاريخية والصدف هي التي تغيرنا؟ وفيما يتعلق بصافي ناز كاظم، لم أسترح أبدًا للاختزال المنتشر الذي يختصر مشوارها بسهولة بأنها كانت شيئًا (علمانية/اشتراكية/ تقدمية) ثم تحولت فأصبحت إسلامية.
وجدت في المقدمة التي كتبها أحمد بهاء الدين إشارة منه إلى "تدينها الشديد" باعتباره أحد ملامحها الشخصية التي لم تغيرها حياتها في أمريكا، إضافة إلى الضحك وإطلاق النكات الذكية وغناء الموشحات، بينما لاحظ أن ما تغيّر فيها هو تحول اهتمامها من الصحافة إلى الفن. أما النصوص الذاتية المتفرقة التي يجمعها رومانتيكيات والتي كتبتها صافي ناز ما بين 1957 و1970، فتخلو من أي نقاش للدين أو الإسلام، بينما تمتلئ بمناقشة آراء في الفن والشعر والأدب والحب وتذوق الموسيقى. وإذا تطرقت لأفكار سياسية فهي تدور حول قضايا التحرر الوطني، وانطلاقا من الثورة الاشتراكية. وحين تنتقد المجتمع الأمريكي أو المصري، فهي تنتقد الاستهلاكية والرأسمالية والعبودية والزيف والسطحية والتخاذل. ومن حيث الهوية، تعترف صافي ناز في واحدة من خطاباتها إلى صديقها الشاعر العربي المشهور:
"يوم إعلان الوحدة عام 1958، كنت أسير في الشارع أبكي بحسرة على اختفاء اسم "مصر" وتلقيبها "إقليم".. ولم يستطع أحد أن يقنعني بحقيقة عروبتي إلا غربتي وتفتت غروري في الولايات المتحدة، وحادثة سبتمبر 1961 (انفصال مصر وسوريا) والفرحة التي غمرت الوجوه هنا".
وفي موضع آخر، تكتب صافي إلى صديقها عن كتاب الشاعر الروسي ايفتوشنكو فتقول:
"أمتعني تمامًا. وكعادتي وجدت شبهًا كبيرًا بين ثورة ايفتوشنكو وثورتي الأخلاقية. أعتقد أنني "موراليست" طبعًا مع تحفظاتي الخاصة بتعريفي لما هو أخلاقي وغير أخلاقي.. .هذا الكتاب يعبر عن مأساة المؤمن الحقيقي عندما يجد دينه ألعوبة في يد تجار يستجدون الرزق به. إنه يعبر عن ثورة المؤمن المخلص على المرتزق. أيًا كان دين المؤمن فإن ثورة كل المؤمنين واحدة. لم ينته كلامي في هذا الموضوع، ولكن جسمي يرجف من الغضب إثر مكالمة تليفونية كنت أناقش فيها مأساة إعلامنا العربي هنا".
وإلى جانب تلك النبرة الغاضبة الثائرة التي تتخلل يومياتها وخطاباتها خفيفة الدم، تبدو المسحة الدينية أو النزعة التطهرية عند صافي ناز حين تصف الحزن والوحدة والغربة:
"ليس هناك أي متعة في السفر. ولكنه فرصة للامتحان الروحي. المتعة تأخذنا بعيدًا عن أنفسنا مثلما تأخذنا الغواية بعيدا عن الله والسفر يعيدنا مرة أخرى إلى أنفسنا... التجوال ليس محاولة لاكتشاف العالم ولكنه طريق لاكتشاف المسافر بلده وأن يجد نفسه. وشخصيًا أعتقد أن الغربة منحتني أشياء كثيرة ثمينة أهمها انها أدبتني فأحسنت تأديبي".
وحين أقرأ ما كتبته صافي ناز في المراحل اللاحقة في التسعينيات والألفينيات، أرى استمرارًا، لا انقطاعًا، لنفس النبرة الثورية التحررية الغاضبة، و بروزًا لنفس المسحة الدينية لكن بعد تجسدها في خطاب إسلامي مباشر. وربما لزم التنويه أن قراءتي هذه قد لا تتفق معها الأستاذة صافي ناز كاظم شخصيًا. فقد حاولت أن أستعيض عن كتابة المقدمة بإجراء حوار معها، فتقوم هي بتقديم نفسها للقارئ من خلال إجابة أسئلتي.
والحقيقة أنها تكرمت وأجابت مشكورة وبكل صدق في إجابات مختصرة نهائية تناسبها، وإن لم تشبع كل فضولي؛ فمثلًا حين سألتها عن وصف أحمد بهاء الدين لها بأنها "المسافرة أبدًا على الطبيعة وعلى الورق وأن رحلتها لم تتم ولم تصل بعد إلى المرفأ الذي يهدأ داخله الموج" وما إذا كان لا يزال ينطبق عليها بعد مرور نصف قرن، أجابت "لا. بل أنا في نعيم مرفأ الإسلام مستقرة وسعيدة ومستغنية عن خلق الله أجمعين".
وعلى الرغم من أنني أجد في منشوراتها على فيسبوك ما يوحي لي باستمرار صخب الموج، فإنني لا أرى جدوى كبيرة من الاستطالة في هذا السؤال، وها هي صافي في 1964 تكتب في رومانتيكيات دفاعًا عن روبرت فروست، الذي أحبت شعره وفنه، في مواجهة كتاب تناول خطاباته الشخصية باعتبارها تقدم صورة مغايرة للصورة التي يرسمها عن نفسه في فنه أمام الناس، فتقول:
"لماذا نعتقد أن خطابات فروست تعكس حقيقته كإنسان أكثر مما يعكسه شعره؟ أنا لا أعتقد أن هناك حقيقة واحدة للإنسان على أية حال، وخاصة الفنان. ما معنى حقيقته؟ هل هي حياته اليومية؟ هل هو حديثه على مائدة الغداء ومناقشة أسعار كيلو اللحم؟ أم هي الأبعاد المجردة التي يصورها في لحظة خلقه الفني؟"
الناقدة المحاربة
ذهبت صافي إلى أمريكا لدراسة المسرح والنقد المسرحي على نفقتها ومديونيتها الشخصية. كانت لا تزال تعتبر ذاتها جزء من الحلم الثوري "سأصنع من نفسي ناقدة مسرحية لمصر"، وكان دافعها لدراسة النقد كما تقول في مقدمة كتابها (من ملف المسرح المصري، 2003) أن كل من يكتبون النقد المسرحي في مصر غير متخصصين، يخلطون ما بين الأدب وفن المسرح ويناقشون نص المؤلف، لا العرض الفني الذي يصنعه المخرج. وفور حصولها على الماجستير من جامعة نيويورك، عادت صافي إلى مصر عام 1966 وانتقلت على الفور للعمل تحت رئاسة تحرير أحمد بهاء الدين الذي كتب عن تجربتها قائلًا:
"عادت صافي ناز إلى ساحة النقد المسرحي والأدبي كما ينزل الصاروخ. وأثارت من البروق والرعود على صفحات مجلة المصور في شهور قليلة ما يكفي عشر مجلات… مزَّقت جو المجاملة والتساهل الذي ساد حياة النقد الفني في بلادنا زمنًا طويلًا".
ولخمس سنوات متصلة سعدت صافي ناز بلعب الدور الذي حلمت به: فقد أطلقت على نفسها لقب "الناقدة المحاربة" وواحدة من "جنود الحلم الثوري" في معارك الشكل المسرحي واللغة المسرحية من ناحية، وفي مصارعة ما أسمته "الدودة " التي تنخر الثورة والتي تتمثل لها في الانتهازيين والمزيفين وسارقي الشعارات لصالح منافعهم الشخصية.
وتقول في كتابها السابق ذكره أن انحيازها كان لصالح المستضعفين ضد قوى وأشكال المستكبرين و المفسدين في الأرض. ومع ذلك منيت المحاربة بهزيمة عنيفة عام 1971 على يد فارس الرومانسية يوسف السباعي، حين صدرت قرارات علوية أتت به بديلًا لأحمد بهاء الدين الذي نُقل إلى الأهرام.
"قبل أن يرتشف أول فنجان قهوة بمكتبه.. استدعاني، و بيده مقالي عن العرض المسرحي "ملك الشحاتين" لنجيب سرور وجلال الشرقاوي، قائلا وهو يرشق عينه الزرقاء القاتلة بمنتصف جبيني "يكون في عِلمك إحنا مش عاوزين نشوف اسم صافي ناز كاظم ده منشور أبدًا، وعشان تبطّلي عجرفة مناخيرك ح أجيبها الأرض".
ظل قرار المنع نافذًا لمدة اثني عشرة سنة، قامت خلالها صافي ناز بأداء الحج، وارتداء الحجاب، والزواج من نجم، وإنجاب نوارة، وتدريس المسرح في العراق، والطلاق من نجم، والدخول والخروج من المعتقل. ثم عادت تكتب المقالات في مختلف المؤسسات الصحافية، بما فيها مقالات نقدية عن أعمال فنية عرضت على المسرح أو في السينما والتلفزيون. وهنا ثار عندي تساؤل؛ أصبحت صافي ناز كاظم تؤكد بشكل ظاهر على محورية الإسلام في حياتها؛ صحيح أنها لم تنبذ الفن ولم تقل إنه "حرام"، ولكن إلى أي مدى كانت تسمح لقناعاتها الدينية بالتأثير في حكمها على الأعمال الأدبية والفنية؟
حين سألت الأستاذة صافي هذا السؤال ردت "لا شك أن عقيدتي تسري في دمي ولا ينتظر أن أتبرأ منها، و لا يجوز أن تعتذري للناس عنها"، كما أنها ليست مدينة لأحد بشرح أو تفسير. تذكرت حوارًا كنت أستمع إليه في الراديو قبل أيام بين المخرج مارتن سكورسيزي والإذاعية تيري جروس حين تحدث عن أثر إيمانه وتربيته الكاثوليكية على رؤيته السينمائية. خفت أن أكون متأثرة بالخطاب الاستشراقي الذي يترصد المسلمين دون غيرهم، وقلت لها "عندك حق، فنحن لا نتلقى أعمال سكورسيزي باعتباره مخرجًا كاثوليكيًا، ولا نسأل الناقد الأمريكي إن كان ليهوديته أو مسيحيته دخل في تقييمه ". ثم أضافت لي مثالًا من مقولة تي إس إليوت، الشاعر والمسرحي والناقد الذي أحبته ودرست أعماله، حين حدد نفسه بأنه كاثوليكي وملكي وكلاسيكي.
انتهت هذه المحادثة مع الأستاذة، لكن لم ينته فضولي عن معايير نقد العمل الفني، وإلى أي مدى يمكن لأي ناقد الفصل بين الفني والسياسي والشخصي والاخلاقي والديني؟ تصفحت بعض العروض النقدية التي كتبتها صافي ناز كاظم، فوجدت أن الأمور عندها ليست مسطحة وليست أحادية البعد؛ فهي مثلا تزكي وتمدح بشدة مسرحية جوازة طلياني، بينما استنكرت إخراج نضال الأشقر لـ طقوس التحولات والإشارات، رغم أن الأبطال في المسرحيتين احترفوا العهر، وكأن هناك "عهر حميد وعهر عاهر". ثم عثرت على مقال لها من 2002 نشر في موقع إسلام ويب، يحدد معالم موقفها ورؤيتها للمسرح بشكل أوضح.
في هذا المقال انتقدت صافي ناز كاظم الخطاب الذي طرحه نخبة المسرحيين من أكاديميين ومخرجين ونقاد حول التحديات التي تواجه المسرح في مصر، والذي ينطلق من فكرة أن المسرح علماني بطبيعته وأنه من الضروري التحرر من الدين والحياء الاجتماعي الذي يقيد الإبداع ويعوق التعبير عن أشياء مثل المثلية الجنسية. وكان ردها أن طريقة التفكير هذه لا تخدم الفن ولا المسرح بل "تسد بالإسمنت الباب بين المسرح والإسلام"، لأن الجمهور إذا خيروه بين المسرح والإسلام سيقول "إذهبوا بمسرحكم إلى الجحيم".
ثم أشارت إلى الجذور الدينية للدراما المصرية واليونانية القديمة، والمرجعية المسيحية والأخلاقية في مسرح شيكسبير، بل وفي مدرسة جروتوفسكي في "المسرح الفقير"، مؤكدة على أن المسرح يجب أن يكون بمثابة "بيت الأمة" أي بيت الناس العاديين، لا النخبة العلمانية المتطرفة.
أظن أن انحياز صافي ناز كاظم للناس، وحبها للفن، وتشككها في النخب؛ خاصة حين تتشابك النخبة الثقافية بالسلطة الحاكمة والسلطة البيروقراطية هو الذي أكسبها جيلًا جديدًا من القراء الشباب المتابعين لها. فعلى سبيل المثال، حين ظهر فيلم اللمبي عام 2002، هوجم بشدة من النقاد وأولياء الأمور وحراس الثقافة والأخلاق، بينما احتفت به صافي ناز كاظم وكتبت عنه في مجلة الهلال عرضًا يضع شخصية اللمبي في سياق نقدي واحد مع مسرحية الحارس لهارولد بنتر، و"عن الرجال والفئران" لشتاينبك.
سألت الأستاذة صافي ناز عما جذبها لكتابة رسالة الماجستير عن يوجين يونسكو بالتحديد، فقد ظهر تأثرها به وبالباتافيزيكس في رومانتيكيات حين كتبت لصديقها في إحدى الخطابات "يونسكو وبيكيت لا أتعب أبدًا من الحديث عنهما وعن فنهما لأنه بمثابة حديث عن نفسي". أجابت "تجانست مع عالم يونسكو وبيكت وألفريد جاري الباتافيزيكي لطرافته واستخرجت منه معنى "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور".
قد تكون صافي ناز كاظم استبدلت الحلم الإسلامي بالحلم الثوري الذي كانت تعتبر نفسها إحدى جنوده، وقد تكون تحمست مجددًا لثورة جيل ابنتها نوارة، ولكنها في جميع المراحل محاربة مُحِبة، تحب وتتزوج من معاني ومبادئ مجردة، تدافع عنها وتخلص لها. لكن حين تتجسد تلك المعاني في رجال يخطئون ويضعفون ويخونون، لا تتردد في تطليقهم.
أتمنى لمؤلفة رومانتيكيات، وهي على مشارف عامها الثالث والثمانين أن تظل شعلتها الداخلية متقدة، وأن يظل زورقها حرًا كما أرادت "يتبع فقط كل ما يخطر له بلا عبء التفسير والإجابة على أسئلة".
تم تعديل الموضوع بتاريخ 30 يونيو الساعة 11:50 بسبب خطأ تحريري في المراجعة قبل النشر. إذ تم تعديل عام اعتقال صافي ناز كاظم الأول من 1971 إلى 1973، وكذلك تم إضافة الفقرة قبل الأخيرة في الموضوع التي سقطت سهوًا قبل النشر.