تصميم يوسف أيمن- المنصة
هذه الآلام ستظل تتعاظم إذا لم يتدخل أحد ويصلح الأمور

"كراسات السجن".. بوح الزنازين الذي يؤرخ

منشور السبت 16 ديسمبر 2023

من الملاحظ في السنوات الأخيرة أنَّ ما يحدث داخل السجون جرى تغييبه عنَّا عمدًا، فنحن لا نسمع بشكل جهير ومكثف سوى من طرف واحد، يمثله إعلام السلطة، بالتصريحات والبيانات الرسمية التي ينقلها. وإذا كان السجناء يهمسون بأوجاعهم لذويهم، فإنَّ هؤلاء يبتلعون ما سمعوه، خوفًا من الأذى. وما يزيد الطين بلةً وجود سجناء ممنوعين من الزيارة أصلًا، وبالتالي فأخبارهم مقطوعة تمامًا.

في السابق، كان بعض السجناء يثرثرون مع زائريهم، بل كان هناك من يقدر على أن يكتب داخل السجن طرفًا من تجربته المريرة، ويتمكن من تهريبها إلى الخارج، وهناك من كان يجد فرصة ليكتب التجربة كاملة، لتصدر في كتاب فيما بعد.

يعرف المثقفون كتاب كراسات السجن الذي كتبه المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي وتناول فيه اصطلاح "المثقف العضوي"، أي الذي لا يكتفي بإنتاج الأفكار والآراء إنما يعمل على تطبيقها في الواقع، لكن هناك كراسات أخرى أقل شهرةً وأضعف تأثيرًا، وإن كانت تحمل من التجارب والمشاعر ما لا يمكن نكرانه.

سجن حاضر أبدًا

رأينا كيف كتب بعض السجناء في مصر مقالات من قلب الزنازين، وفوجئت بها السلطة منشورة في صحف مستقلة، كما حدث مع أيمن نور قبل ثورة يناير، ورأيناه مع شادي الغزالي حرب وزياد العليمي وعلاء عبد الفتاح بعد الثورة، بل نشر أحمد دومة أشعارًا، استملحها الناس، وعبرت وقتها عن مكنون نفسه.

تاريخيًا كُتبت في السجون المصرية دواوين شعر وروايات وكتب على ما وجده السجناء من ورق، متسخًا كان أو نظيفًا، معدًا للكتابة أم لأمر غير ذلك. وهناك من كتب على "ورق البفرة" شديد الرقة والهشاشة، الذي يستخدمه من يدخنون "السجائر اللف". وهناك من لم يجد ورقًا ولا بفرة فكتب أو حفر خواطره وأوجاعه على جدران الزنزانة.

لا تكاد تخلو رواية سياسية عربية من حضور السجن بطريقة ما بغض النظر عن المساحة

وجزء من أدب السجون وتجاربه الأليمة خزنها سجناء في ذاكراتهم، فلما خرجوا إلى الحرية سكبوها على الورق سريعًا حتى لا تضيع في زحام تفاصيل حياة أخرى. وجزء منها كُتب طازجًا بين الزنازين. في الحالتين أعطت تلك الكتابات أصحابها موقعًا في التاريخ السياسي أو صوحبت بنظرة اجتماعية تقدر أدوارهم.

بعض هذه الكتابات كانت تجارب توسلت بالسرد مثل كتاب الأقدام العارية للباحث والمفكر طاهر عبد الحكيم الذي سجل فيه تجربته بسجن الواحات، أو كتاب زمن الزنازين لشاعر العامية سمير عبد الباقي. وبعضها جاء في شكل رواية مثل السرداب رقم 2 للعراقي يوسف الصائغ، والآن هنا للروائي عبد الرحمن منيف، ورحلة إلى الله لنجيب الكيلاني. ورأينا قصائد متفرقة مثل التي كتبها أحمد فؤاد نجم، أو قصصًا قصيرة مثل مسحوق الهمس ليوسف إدريس.

وكثير من الأدباء العرب، سواء كانوا روائيين أو كتاب قصة أو شعراء، مسَّتهم تجربة السجن، إما لأنهم مروا بها وكابدوا منها عميقًا، أو لأنهم أدركوا أنَّ آدابهم لا بد لها أن تحمل شيئًا من ذلك اللون، حتى وجدنا نجيب محفوظ نفسه، رغم أنه لم يُسجن، يُنصت إلى تجارب السجن التي سمعها من بعض تلاميذه المتحلِّقين حوله، ليكتب لنا رواية الكرنك.

ولا يقتصر الأمر على المثقفين، بل وجدنا أتباع تنظيمي "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" يسجلون آراء وخواطر، بل ويبدعون أشعارًا وقصصًا، ويخبئونها في أرضية زنزانة أحدهم، باذلين جهدًا كبيرًا لحفظها بعيدًا عن رقابة السجان، حتى جمعها الباحث منير أديب في كتاب كلمات خلف القضبان.

ليس هذا فحسب، بل إن كتاب ميثاق العمل الإسلامي الذي يمثل دستور الجماعة الإسلامية وإطارها الفكري كتبته بعض قياداتها في السجن، وهُرِّب إلى خارجه، وطُبع سرًّا، وكان يوزع على أوسع نطاق بين الشباب.

بل الأدهى من ذلك كله والأكثر مرارةً، أنه لا تكاد تخلو رواية سياسية عربية من حضور السجن بطريقة ما، بغض النظر عن المساحة التي يأخذها في السرد، أو الشخصيات التي تعبر عنه وتمثله، لنعرف من خلال وصفها أو حوارها الكثير عما يدور خلف الجدران الصلدة المصمتة.

وليست هذه الظاهرة بجديدة، إذ نجدها ماثلة في أشعار العرب الأقدمين. وقد أورد الباحث عبد العزيز الحلفي في كتابه أدباء السجون الكثير من أوجاع الشعراء التي سكنت قصائدهم عن تجربة السجن الأليمة، وأفاض عبود الشالجي في تبيان أنواع التعذيب وأشكاله في كتابه موسوعة العذاب المكون من ثمانية مجلدات.

وفضلًا عن الرواية والشعر والسيرة الذاتية، كان بوسع الباحثين في علم اجتماع الجريمة دراسة تجارب السجن بوجه عام، من بينهم الذين كانوا يصلون إلى السجناء السياسيين، ويستعينون على جمع مادتهم بالأخصائيين الاجتماعيين للسجون وأطبائها والمحامين المترافعين عن المتهمين الذين حلَّوا خلف الجدران.

كراسات مؤجلة

لكنَّ تلك المسارات ضاقت الآن، وهي إن أنتجت شيئًا فمحجوب عن الرأي العام، فمن يتحلى بالشجاعة الفائقة ويريد أن يبوح بما رأى، إن أوجعه ضميره، لن يجد لبوحه طريقًا يصل به إلى الناس، فأغلب الصحافة في بلادنا لا تستطيع النشر في ظل الرقابة المفروضة عليها.

أتوقع أن تنهمر على رؤوسنا موجة "كراسات سجن" عندما يأتي الوقت المناسب لكتابتها

في الوقت نفسه، أعتقد أن تشديد الرقابة على السجن السياسي في مصر لن يسمح لساكني الزنازين بالكتابة عن تجاربهم، ولو كان بعضهم تمكن من ذلك لوصل خبره إلى السوشيال ميديا على الأقل، أو سُرِّب لينشر خارج مصر.

ولا أستبعد أن يكون السجناء أنفسهم لا يحبذون كتابة شيء عما يجري لهم، خوفًا من المساءلة، فشيء من ذلك إن نُشر خارج السجن، ووصل إلى الرأي العام، سيضيف على كواهلهم اتهامات جديدة، أي مزيدًا من الحبس والسجن، وربما يصل الأمر إلى تكدير، قد يتمثل في السجن الانفرادي أو التعذيب.

علاوة على ذلك، لم نسمع ممن خرجوا أو نقرأ لهم، حتى الآن، شرحًا مفصلًا لما جرى لهم في غياهب السجن، فبعضهم مجبرون على الصمت، وهناك من يعرف أنه إن تحدث سيدفع ثمن ذلك، وأقله أن يعاد إلى السجن مرة أخرى. وما تم تسريبه بشكل أو بآخر، لا يكاد يرسم الصورة كاملة.

مع هذا لا أعتقدُ أن كلَّ هؤلاء، ومن ينضم إليهم لاحقًا من الخارجين من السجون، ضربوا صفحًا من النسيان على تجاربهم الأليمة. فلا يستطيع أحد تفادي ذلك إلا من فقد ذاكرته. لهذا أتوقع أن تنهمر على رؤوسنا موجة "كراسات سجن" عندما يأتي الوقت المناسب لكتابتها.

بعض هذه الكراسات سيخرج في صورة مقالات وشهادات وكتب، وبعضه قد يصبح روايات وقصصًا وأشعارًا، وهناك منه ما سيتحول إلى أعمال درامية وسينمائية، كما سبق أن حدث حيال ستينيات القرن الماضي في مصر.

ستكون هذه الكراسات من دون شك جزءًا أساسيًا من تاريخ المرحلة التي نمر بها، بل ستصبح البوصلة التي تشير إلى الكثير من الأمور، وتدل على ما يغلب الكثير من الدعايات والحكايات والروايات غير الصادقة التي تتدفق الآن بلا هوادة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.