فرضت تجربة السجن نفسها على الأدب العربي منذ قديم الزمان، فجسَّد شعراء العرب في الجاهلية والإسلام أشكال التعذيب في السجون ومراحله وأساليبه في قصائدهم، ورسموا صورًا واضحة المعالم لشخصيات السجانين ومعاناة السجناء وعذابهم، ولحظات ضعفهم وصمودهم، وهواجسهم وأحلامهم وأفكارهم.
وتصدى لتناول تلك التجربة الإنسانية القاسية عدد وافر من الشعراء ودبجوا فيها قصائد تقطر ألمًا، لكنَّ أغلبها فُقد لأسباب عديدة، أهمها الخوف من السلطة. وكان لتجربة السجن، على مساوئها، أثر بعيد متأصل في لغة وصور شعراء العرب، في الجاهلية وبعد الإسلام.
ويرصد الباحث عبد العزيز الحلفي في كتابه أدباء السجون، تجربة عدد من شعراء العرب الذين ألقت بهم السلطة في غياهب السجن، لأسباب متعددة، ونظموا في محابسهم قصائد تتسم بالقوة، وتموج بتفاصيل حياة قاسية مفعمة بالتوق إلى الحرية.
لكنَّ موسوعة العذاب، التي وضعها الباحث العراقي عبود الشالجي، ركزت على زاوية مهمة في هذا المضمار حين أسهبت في شرح كافة أشكال التعذيب الجسدي التي مورست في تاريخ العرب، والتي تعبر عن بشاعة ما كان يحدث للسجناء، والمعارضين للسلطان، منطلقًا من تحديد أنواع السجون لينتقل إلى شرح العديد من أساليب التعذيب في موسوعته ذات المجلدات السبعة.
ومن بين هذه الأساليب، الركل واللطم واللكم واللكز والرجم والوطء بالأقدام والنطح والتعليق من اليدين أو من يد واحدة أو من الساق أو الإبط أو الثدي، والتعليق بالكلاليب، ونتف اللحى وشعر الرأس والبدن، والخصاء وعصر الأعضاء الجنسية، والخوزقة، وقطع الأطراف والسمل وجدع الأنف وسل اللسان وقلع الأسنان وقرض لحم الجسد بالمقاريض، وبقر البطن وقصف الظهر ودق المسامير في اليدين والأذنين، والتعذيب بالنار والماء المغلي أو البارد، والتجويع والتعطيش أو إطعام ما لا يؤكل أو الإجبار على شرب سائل غير مستساغ.. إلخ.
وجاء حراس سلاطين العرب المحدثين، شأنهم في ذلك شأن غيرهم ممن يعتمدون القمع وسيلة لتثبيت حكم ظالم ومستبد، ليتفننوا في إضافة أساليب جديدة للتعذيب، بحيث يمكن إضافة مجلدات أخرى إلى تلك الموسوعة.
ومع تواصل القمع صار السجن السياسي أحد الموضوعات الرئيسية للأدب العربي المعاصر، خاصة الرواية السياسية. ومن هنا نجد أنه لا تكاد تخلو رواية من الروايات العشرين التي تمثل عينة هذه الدراسة، من التطرق بدرجات متفاوتة، لموضوع السجن السياسي، بدءًا من الأسباب التي تلقي بصاحبها إلى هذا المصير المرير، وانتهاءً بما يحدث داخل الأقبية والزنازين المعدة لتعذيب السجناء، مرورًا بالمراحل المرتبطة بدخول السجن، ومنها الترويع والملاحقة والاعتقال والحجز، وهو ما تمَّ تناوله في النقاط السابقة.
ويعود اهتمام الرواية العربية بقضية السجن السياسي إلى عدة عوامل، أولها؛ أن الأدب ينزع بطبيعته إلى الحرية، ولذا فإن السجن السياسي يمثل تحديًا للمبدع لا بد له من أن يجابهه، مسلحًا بالكلمة. وإذا كانت هناك دلالة بديهية للروايات التي جسدت السجن، سواء حين كانت البلدان العربية ترزح تحت نير الاستعمار أم بعد نيلها الاستقلال، فهي بقاء الإنسان العربي دائم الشوق إلى الشعور بالحرية في وطنه، باعتبارها ضرورة لا بد من وجـودها.
ويرتبط العامل الثاني بطبيعة الحياة السياسية في العالم العربي، حيث أصبحت البقعة الجغرافية، التي تمتد من الخليج شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، من أكثر مناطق العالم خرقًا لحقوق الإنسان، وصارت أنظمتها الحاكمة هي الأشد استبدادًا وتعسفًا في معاملة المواطن العربي، إذ بات القمع هو أساس التعامل بين السلطة والجماهير، وتجلت مظاهره في جميع مناحي الحياة، كما أن أساليبه تطرأ عليها تطورات مستمرة، تسعى في اتجاه إغلاق الطريق أمام أي محاولة لإحداث ثغرة في جدار الاستبداد، الذي جعل السجون هي المكان الأول الذي يلتقي فيه من بيدهم السلطة بمن يعارضونهم، إذ يلعب الطرف الأول دور السجان، بينما الطرف الثاني هو السجين.
أما العامل الثالث فيتعلق بخلفية العديد من الأدباء الذين أبدعوا روايات عن السجن، حيث نجد أن السياسة موجودة في صميم حياتهم بأشكال ودرجات متفاوتة، ولذا فإنهم مروا بتجربة السجن أو كانوا قريبي الصلة بمن مر بها، أو مورست ضدهم أشكال مختلفة من القمع والقهر.
وقد عالجت الرواية كافة أشكال القمع التي تمارس ضد السجناء السياسيين، ومن بينها تعمد سلطات السجن إهانتهم نفسيًا، وتعذيبهم جسديًا بقسوة بالغة، تجعل الكثيرين منهم يتمنون الموت، في حين تتم تصفية العنيدين منهم جسديًا، وهم الذين يرفضون الاعتراف بتهم ربما لم يرتكبوها ويأبون الإدلاء بأي معلومات تفيد السلطة في القبض على رفاقهم أو معرفة خطط التنظيم الذي ينتمون إليه.
وفي المقابل رصدت الرواية أساليب المقاومة التي ينتهجها السجناء السياسيون من أجل نيل حقوقهم البسيطة داخل السجن، والتي توفرها لهم القوانين المحلية والدولية، وكيف كانت في بعض الأحيان تثمر أشياء، وإن كانت ضئيلة، وأحيانًا أخرى، لا تفيد أمام سلطات غاشمة، تصل في قمع الإنسان إلى أقصى حد ممكن. وتؤكد الرواية العربية أن وضع مرتكبي الجرائم في السجون أفضل بكثير من وضع السجناء السياسيين، وهذا إن دل على شئ إنما يدل على أن السلطات الحاكمة في عالمنا العربي لا يهمهما تحقيق الأمن الاجتماعي، بقدر ما تهتم بتأمين كراسي الحكم وحماية مناصب ومصالح فئات بعينها.
وتبرهن هذه المعالجة على أن ما يحدث في السجون العربية أمر متشابه، لا يختلف في الجوهر، وكأن سلطات السجون في تلك البقعة الممتدة من الخليج العربي حتى المحيط الأطلنطي، قد اتفقت على أسلوب واحد في التنكيل بالسجناء السياسيين، رغم اختلاف بعض المسميات المرتبطة بجغرافية السجن، كأن يسمى المكان الذي يجمع عددًا كبيرًا من السجناء في مصر "عنبر" وفي بلاد الشام "مهجع" وفي العراق "سرداب"، أو يطلق على الأماكن الضيقة المعدة للحبس الانفرادي في بعض الأقطار العربية "زنزانة" وفي بعضها الآخر "قبو"، وخلافه.
وقد حدا هذا الأمر بعبد الرحمن منيف، الذي تعدُّ تجربة السجن إحدى المحاور الرئيسية لأعماله الروائية، إلى القول "إن الفارق بين مكان وآخر في المنطقة العربية، فارق نسبي، وليس نوعيًا.. فالسجن السياسي مثلًا في أي بقعة عربية لا يختلف عن بقعة أخرى". وهذا التشابه يمتد حتى من مجرد التصميم المعماري للسجون إلى أسلوب معاملة السجناء داخل الأقبية والزنزانات، مرورا بتفاصيل الحياة اليومية لهم، والتي تدور في مجملها حول الخوف والحرمان والألم.