لا يكاد يمر وقت إلا ونقرأ مذكرات بعض السجناء، كتبًا كانت أو شهادات متفرقة، ونطالع كذلك روايات أبدعها أدباء عن تجاربهم القاسية خلف الأسوار الصلدة. من هذين الرافدين تراكمت الحكايات والمواقف واستغلظت وحفرت لنفسها ظاهرة قاهرة في حياتنا المعاصرة نطلق عليها "أدب السجون".
ومع كبر عدد السجناء اشتبك غالبية المجتمع في حديث يعلو على ما عداه، بين أهل سجين قائم، وأهل سجين محتمل. لذا يمكننا القول أن المجتمع بأكمله يعاني، ونرى دولة بامتدادها الجغرافي، وتنوع سكانها، منكمشة خلف وأمام أسوار الاستبداد، لتتجلى مظاهرها في الخوف، بل الرعب، والملاحقة والمراقبة المستمرة، التي تعد على الناس أنفاسهم.
لكن حتى في هذه الحالة، هناك من يعيشون سجنًا مضاعفًا، متخبطين فيه بين غيظ وحنق وحذر وأمل ورجاء.. إنهم أهل السجناء.
هؤلاء لم يكتب أيًا منهم تجربته المأساوية كاملة، التي تمتد من كوابيس الليل حتى أبواب السجون، ذهابًا وإيابًا، وتتوزع بين ضيق العيش إن كان السجين هو عائل الأسرة، وبين مكاتب المحامين ومنظمات حقوق الإنسان.
وحين يبحث أهالي السجناء عن واسطة للإفراج عن ذويهم، يقفون على أبواب قلوب قاسية، أصحابها يعرفون جيدًا أن كثيرين ممن سجنوهم ليس لهم من جريرة سوى طلب الحرية والرفعة لوطنهم، أو التعبير عن آرائهم.
بين الهمس والجهر
يهمس أهالي السجناء، وتجهر قلة منهم، عن أوجاعهم حين يتبادلون الأحاديث عبر الهاتف، أو يدونون عبارات قصيرة على السوشيال ميديا. الأغلبية منهم تلوذ بصمت القبور، متجرعة أحزانها الدفينة على مهل، خوفًا من المساءلة، أو أملًا أن يكون السكوت في صالح الذين يقبعون في الزنازين الباردة في الشتاء القارس، والمحمومة في الصيف القادح.
ليس في يد أهالي السجناء سوى الرجاء، وإنشاء مجموعات على فيسبوك تأخذ عناوين على شاكلة "أهالي المعتقلين السياسيين" و"رابطة أسر معتقلي العقرب"، يتلقطون فيها الأخبار الشحيحة، التي تومض أحيانًا في قلب ظلام التعتيم الإعلامي، عن معاناة السجناء في الزنازين المكدسة، والأحكام التي تصدر بحقهم، واللحظات التي يظهرون فيها أمام النيابة لتحقيقات تجري على عجل، يخرجون منها بمد فترات حبسهم، وأقاويل أخرى عن المختفين قسريًا، وعمن تمكنوا من الهرب خارج البلاد، وأحوال الأسر الصعبة في ظل غياب عائليها.
لكن هناك من ترك العالم الافتراضي ونزل إلى الشارع، إنها أسرة علاء عبد الفتاح، أكثر سجين إثارة للجدل في عهد السيسي. سلطت الأسرة ضوءً كثيفًا على ما تلاقيه أسر السجناء من عسف، إذ لم تستجب لأوامر إدارة السجن في منع زيارة أو رفض إدخال "طبلية"، وهو لفظ يطلق على الغذاء والكساء والدواء التي يمد بها الأهالي ذويهم في السجون، أو تبادل الخطابات.
وكان أفرادها، وهن الأم د. ليلى سويف والأختان سناء ومنى، يعتصمن خارج سور السجن، ويفترشن رصيفه، ويطلقن نداءات عبر السوشيال ميديا، يشرحن فيها ما يجري لهن.
وزاوجت إكرام يوسف، وهي كاتبة صحفية ومترجمة، بين العالم الافتراضي والواقع المعيش، فخصصت صفحتها على فيسبوك للدفاع عن السجناء السياسيين، وفي مقدمتهم ابنها المحامي والنائب البرلماني السابق زياد العليمي، الذي قبض عليه قبل ثلاثة سنوات ونصف. تخاطب إكرام نجلها وكأنه أمامها، تستيقظ فتقول له "صباح الخير يا زياد"، وقبل النوم "تصبح على خير يا زياد"، فشدت إليها قلوب المتعاطفين، الذين لم يملكوا سوى رفع أكف الضراعة إلى الله إلى أن خفف ألمها بالإفراج عن نجلها.
دونت إكرام أحداث زياراتها الأسبوعية لتسلم "الطبلية"، ولقائها ابنها مرة كل شهر، وصفت حالته الصحية، وما لاقاه في سجنه. قدمت نصائح لأهالي السجناء، وطمأنت من رأتهم على ذويهم، أو سمعت أخبارهم من نجلها.
وحين نقل السجناء على عجل من سجون طرة، التي تعتزم الدولة تحويل مساحتها الهائلة إلى منطقة سكنية، إلى سجن بدر الكائن في الصحراء الشرقية، ومع أول زيارة لها للسجن الجديد، وصفتْ لي إكرام ما رأته وسمعته حين التقيتها "في سجن بدر يعيش السجناء تحت إضاءة قوية مستمرة ليلًا نهارًا، تحرمهم من أي نوم متواصل وهادئ، وهناك كاميرات مسلطة على رؤوسهم في الزنازين، ما يجعلهم غير قادرين على تغيير ملابسهم الداخلية في أمان. لا توجد أسرة فينامون على مراتب ملقاة على الأرض. نقلوهم قبل تشغيل الكانتين ما تسبب في نقص الطعام، خاصة أنه لا توجد في الزنازين ثلاجات تحفظ الأطعمة التي يمدهم بها أهلهم".
وأخبرتني د. منار الطنطاوي، أستاذة الهندسة الميكانيكية المساعدة بالمعهد التكنولوجي العالي، بأنها تعجز عن وصف ما كانت عليه من حزن وقت اعتقال زوجها الباحث والكاتب الصحفي هشام جعفر، الذي أطلق سراحه بعد نحو ثلاث سنوات قضاها في السجن، وقالت إنها كانت تعود إليها الحياة كلما ملأها الأمل أنه سيفرج عنه وقت عرضه على النيابة للتجديد، لكن ما إن تعرف أن وكيل النائب العام مد بقاءه في السجن حتى تشعر بإعياء، بدني ونفسي، ويجتاحها يأس شديد، وتتمنى الموت.
كانت منار تتذكر زوجها مع كل موقف تتعرض له، لاسيما وقت حفلة تخرج اثنين من أولادهما، إذ غار الفرح تحت ظلال كثيفة من الحزن والقهر، وكانت إن طبخت طعامًا يفضلانه معًا، لا يطيب لها، لأنه لن يأكل منه. وفي البرد القارس، ما إن تسحب الغطاء على جسدها لتجلب الدفء، حتى تدفعه بساقيها بعيدًا، لأنها تتذكر أنه يقاوم الصقيع في زنزانته الباردة. وكانت إكرام تفعل الأمر نفسه، في حر الصيف القائط ترفض تشغيل المكيف، وتكتفي بمروحة تحاول عبثًا أن تلطف الجو المشبع بالرطوبة، عندما كان ابنها زياد يعاني من حر الزنزانة.
في عداء الرحمة
لا يوفر أحد لأهل السجين ما يتعيشون منه. فمن يفعل قد يجد نفسه متهمًا بتمويل الإرهاب. وفي الوقت نفسه تدهور موقف السلطة من حرص على كفالة معيشة أهل السجناء. قال جمال عبد الناصر "الموظف منهم يصرف أهله راتبه، وغير الموظف تتكفل وزارة الأوقاف بتقديم إعانة شهرية لهم". حرص السادات كان أقل، كان يقول "سأجعل أسرهم تربيهم"، قاصدًا بذلك، قطع نصف رواتبهم، ما داموا في الحبس أو السجن، فإن خرجوا لا يتغير الحال طالما أن الإفراج عنهم كان على "ذمة قضايا منظورة أمام القضاء".
أما في عهد عبد الفتاح السيسي، فمصير بعضهم الرفت من العمل، وقطع الرواتب كاملة، أو تجميد أرصدتهم في البنوك، والتلكؤ أو عدم تنفيذ أي أحكام يحصلون عليها بإنهاء ذلك التجميد، وإن رق قلب السلطة للبعض تترك لأسرته نصف راتبه طالما كان محبوسًا أو سجينًا، وإن خرج يستمر ذلك الوضع إن كان الإفراج عنه معلق على ذمة قضية ينظرها القضاء، كما تراقب كل من يمد إليه يد العون.
والحالة الصارخة في ذلك هي للدكتور خالد عزب، وهو باحث في الآثار، وكان يتولى مدير إدارة الإعلام بمكتبة الإسكندرية. بعد الإفراج عنه على ذمة قضيتين عقب نحو سنتين قضاهما في الحبس، لا يزال يصرف نصف راتبه، وحُرم من حقه في العلاج، ومُنع من السفر، ويتلقى وعودًا بعودته إلى عمله، دون جدوى، حتى الآن.
يحدث هذا رغم أن قانون العمل الموحد في مصر، ينص على أنه لا يجوز فصل العامل إلا في حالة الحكم عليه في "قضايا مخلة بالشرف تؤدي إلى فقدان الثقة فيه"، وهو أمر لا ينطبق على السجناء السياسيين. كما أن الدولة لا تطبق قانوني السجون والتضامن الاجتماعي، اللذين ينصان على إلزامها بتوفير مرتب شهري لأسرة المسجون، سواء كان محبوسًا احتياطيًا أو محكومًا عليه بالسجن.
وما زاد الوضع سوءً أن المصادر التي كانت تقدم مساعدة مالية لأسر المعتقلين يتم تجفيفها تباعًا، فالسلطة صادرت أموال جماعة الإخوان المسلمين التي كانت من تقاليدها التكفل بأسر السجين المنتمي إليها، والصناديق التابعة للنقابات المهنية والعمالية لا تقوم بذلك الدور خوفًا من اتهامها بتمويل الإرهاب، وحتى صناديق النذور في المساجد لم تسلم من وضع يد السلطة عليها، بعد أن أدلى سجناء وأهاليهم بإفادات تبين حصولهم على عون من القائمين عليها.
يجري ذلك في إطار سياسة تتعمد السلطة اتباعها في التعامل مع معارضيها في الرأي والموقف، فهم إما يتم القبض عليهم دون تهم حقيقية، أو يتم تجويعهم من خلال تجفيف منابع أرزاقهم إن كانت بيد أهل الحكم، علاوة على الاغتيال المعنوي الذي يقوم به إعلام موجه، من صحف وإذاعة وتليفزيون وذباب إلكتروني، لا يكف عن تسميم المجال العام بالافتراءات.
وهناك حملات تحريض مبطنة ضد أهالي السجناء، تفرق بينهم على أساس الانتماء السياسي، وتصف المختلفين مع السلطة بالخونة، فتلقي الرعب في قلوب الناس، فيحجم أغلبهم عن تقديم المساعدة. والمنظمة الوحيدة التي تهتم بحقوق السجناء وأهاليهم، اضطرت إلى إغلاق بابها إثر ضغوط شديدة من السلطة، والمجلس القومي لحقوق الإنسان مغلولة يده عن فعل أي شيء حقيقي.
زرتُ الأستاذ محمد فايق، رئيس مجلس حقوق الإنسان السابق، مع مجموعة من المثقفين كي يتدخل للإفراج عن كاتب وباحث سجن ظلمًا، فأبلغنا أنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا سوى تحسين بعض شروط سجنه، مثل السماح له بالحصول على الدواء والأغطية. وبخصوص سجين سياسي آخر كان يعاني متاعب صحية جمة، قال لي "يجب أن تمدوني بأوراق ثبوتية تفيد باعتلال صحته، لأقدمها إلى الجهات المختصة وأنتظر، لكن لا أعد بشيء، فالأمر في يد السلطة التنفيذية". وحين تحدثت مع أحد أعضاء المجلس عن المعاناة التي يلقاها أهل المعتقلين قال "المجلس خاطب وزارة الداخلية بشأن التخفيف عنهم، لكنه لم يتلق ردًا".
الابتسام اللي أجمل من السلام
يقبض هذا السياق الأسود على نفوس أهالي السجناء وعقولهم، فلا يستطيعون منه فكاكًا. لكنهم يبقون الأكثر حساسية في مواجهة تلك الظروف العصيبة، لا يخفف منها سوى البوح، وتبادل الأخبار الشحيحة التي يحصلون عليها من الزيارات المتعاقبة للسجناء، والتي يحرصون فيها على تدبير احتياجات سكان الزنازين، وإيداع مال في الأمانات لينفق منه السجين على ما يشتريه من كانتين السجن الذي تزيد أسعاره عن الحد، وإن رقت لهم قلوب الحراس يتركونهم يدخلون بعض الكتب، غير السياسية، لتساعدهم على قتل بعض الوقت، وتربية الأمل.
لا تعلم السلطة، ولا من ليس له سجين في زمننا، ما يعانيه الأهل في سبيل تدبير تلك الاحتياجات، خاصة الفقراء منهم، وهم الأغلبية الكاسحة، التي تضطر إلى الاستدانة والاقتطاع الجارح من الأقوات والعلاج، دون أمل حقيقي في توفر مورد رزق مستقبلًا للسداد.
فهذه اضطرت لبيع أثاث منزلها بعد حُليّها. وتلك ارتضت أن تعمل خادمة في البيوت للإنفاق على أسرتها، وتوفير ما يحتاجه السجين، وتسديد أتعاب المحامين، وثالثة أنفقت كل مدخراتها، ثم باعت شقة سكنية كان السجين اشتراها ليتزوج فيها ابنهما، ورابعة اُضطر أبناؤها إلى الانخراط في أعمال هامشية، أو تحولوا إلى باعة جائلين، حتى يدبروا النفقات.
لكن ذلك قد يهون مع الشقاء الذي يبدأ حين يقوم الأهالي بالزيارةـ
غرف الزيارة مزودة بكل ما يحول دون تواصل جسدي، إن أرادت إدارة السجن ذلك: شبكات من أسلاك حديدية، وحوائط زجاجية، وهواتف أرضية يتبادل عبرها الأهل مع السجين بعض الكلام، لمدد لا تكفي لصنع طمأنينة مؤقتة للطرفين .
لا يمكن لأحد أن ينسى كف غضة لطفل صغير طبعها على الزجاج البارد لتكون قبالة كف أبيه السجين في سجن"العقرب". أطال الولد وضع كفه، ثم سحبها في حسرة، وعين الأب مغرورقة بالدموع، ولا يمكن حتى لصاحب قلب غليظ أن يهمل وجه الزوجة المطبوع على الزجاج نفسه يكاد يتطابق مع وجه زوجها، وكأنهما يتبادلان قبلة طويلة غارقة في الحزن والخجل.
تقول نعمة هاشم زوجة المحامي محمد الباقر، الذي تم اعتقاله وهو في موقف دفاع عن السجناء، في تغريدة لها على تويتر "بعد سنتين ونصف السنة استطعت أن أقابل الباقر بلا حواجز، وأن أحتضنه".
هناك سجناء غير مسموح لأهلهم بزيارتهم، لأنهم مودعون في سجون "شديدة الحراسة". في سجون أخف يمكن للأهالي الزيارة في قاعة بها أماكن لجلوسهم حولها، تتزاحم الأحزان والأفراح العابرة في آن، وتختلط الثرثرة بالبكاء الحبيس، ولا تسمح الجلبة لأي من هؤلاء أن ينصت جيدًا إلى الآخر، وإن أصاخ السمع.
حكى لي المهندس يحيى حسين عبد الهادي، جانبًا مما جرى له خلال الزيارة، وهو الرجل الذي زج به في السجن إثر بوستات نشرها على فيسبوك يعترض فيها على سياسة الرئيس "نصطف حوالي خمسة عشر سجينًا متلاصقين خلف حاجزٍ من الحديد المثقوب لا نرى منه إلا بصعوبة، وبعده بحوالي متر حاجزٌ مماثل يصطف خلفه الزوار متلاصقين أيضًا، ومعظمهم من النساء. مدة الزيارة لا تزيد عن ربع ساعة، بمجرد أن تبدأ يأخذ الجميع فى التصايح فى وقتٍ واحدٍ، فلا يمكن تفسير كلمة مما يقال، ولا تَسَلْ أصلًا عما يمكن أن يقال بين زوج وزوجته أمام ثلاثين فردًا متقابلين.. اتفقت مع زوجتى مبكرًا على أن أهتف بأعلى صوتي حين نفشل فى سماع بعضنا البعض: فؤاد حداد، وهى كلمة السر التى تعنى لكلٍ مـنا بيتًا من قصيدة له يقول "الابتسام اللى أجمل من السلام بالإيد"، فنتوقف عن الصياح ونكمل فترة الزيارة مبتسميْن، وتكون الابتسامة هى آخر ما يراه كلانا من الآخر، فيعيش عليها حتى موعد الزيارة التالية بعد شهر كامل".
وهناك ما يسمى "زيارة مكتب"، وهي مخصصة لبعض السجناء السياسيين، الذين تقدر السلطات خطرهم أو تأثيرهم، فيلتقيهم أهلهم في مكتب ضابط يكون غالبًا تابعًا لجهاز الأمن الوطني، ويكون عليهم أن يتحدثوا مع السجين بصوت مرتفع، فإن انخفض الصوت، حتى دون تعمد منهم، ينهرهم، ويطلب منهم أن يتحدثوا بما يصل كله إلى سمعه. ويؤكد بعض أهالي السجناء أن ذلك اللقاء يكون تحت أعين الكاميرات.
خلال اشتداد جائحة كورونا مُنعت الزيارات لثمانية أشهر كاملة، ولم تقدم إدارات السجون، في كل الأوقات، على تطبيق القانون، الذي يسمح للمحبوس احتياطيًا أن يتصل بأهله هاتفيًا على حسابه. وقتها كان أهالي بعض السجناء يشكون من عدم وجود أي طريقة تطمئنهم على ذويهم، هل قضوا نحبهم بسبب الوباء، أم لا يزالوان على قيد الحياة؟
يوم الزيارة، وخارج السجن، يصطف طابور طويل من الأهالي، بعد أن سجلوا أسماءهم في دفتر الزيارة، وجلسوا ساعات إلى جوار السور في انتظار بدء الدخول. بعد انتهاء الزيارة يكون عليهم أن يصطفوا في طابور جديد كي يحجزوا أخرى قادمة، عسى أن تتم.
المكان الذين يُحشر فيه الزائرون بالداخل في انتظار السجناء غير آدمي، إذ يضيق بهم، وليس به حمام نظيف يقضون فيه حاجتهم، رغم أن بينهم من جاؤوا من بعيد، أو مرضى سكري يحتاجون إلى التردد على المرحاض كثيرًا. تقول إكرام يوسف إنها كانت مضطرة للذهاب بسيارتها إلى مكان قريب لقضاء حاجتها، ويفعل آخرون مثلها، لكن الأغلبية لا تملك سيارات.
لا يخفف من وطأة ذلك الوضع سوى عطف الأهالي على بعضهم البعض، متناسين وقتها الخلفيات الأيديولوجية التي سُجن على أساسها ذويهم، فهم، وعلى النقيض من الدعاية المسلطة على أسماع الناس في الخارج، ينجون من ذلك التمييز، فلا تعرف أهل الإخواني من اليساري أو الليبرالي أو ذلك الذي لا خلفية سياسية له، لكنه وجد نفسه متهمًا في قضية، قد يكون بوست على السوشيال ميديا، أو تصادف وجوده قرب مظاهرة لم يشارك فيها.
بعض الزائرين يعودون بما جلبوه من طعام ودواء وكتب وأغطية، حين يرفضهم السجان، إما لأن عقوبة مضاعفة يراد إنزالها بالسجين، فيحرم من الزيارة أو من "الطبلية"، أو لأن الأهل لم يصلوا إلى واسطة أو طريقة تفتح لهم الدرب، أو أن مزاج السجان تعكر فجأة.
يفرط حرس السجن أحيانًا في تصنيف بعض الأشياء باعتبارها من الرفاه أو الكماليات، مع أنها كانت من السلع الأساسية في بيوت السجناء.
ولك أن تتخيل حجم العنت الذي يلاقيه أهل سجناء من أسرة واحدة، تم توزيعهم على سجون متباعدة، حتى لو كانوا أخوة، فـ"م. و"، يضطر إلى أن يأتي من محافظة بعيدة، ليزور ابنيه المسجونين في سجني المنيا والعقرب، على ما بينها من مسافة بعيدة، فيقضي يومين كاملين من كل شهر معذبًا، ورغم أنه قدم طلبات عدة للم شمل ابنيه في سجن واحد، لم يستجب له، إلى الآن، على عكس ما ينص عليه القانون، وجرت عليه الأعراف في السجون.
ولا يسمح بالزيارة إلا لأقرباء الدرجة الأولى، وليس من بينهم الخطيب للسجينة، والخطيبة للسجين، ولذا اضطرت رفيدة حمدي، خطيبة محمد عادل الناشط البارز في حركة 6 أبريل، إلى الزواج منه وهو في المعتقل، لتتمكن من زيارته دون تعقيدات، بعد أن واجهت الرفض مرارًا حين ذهبت لتراه قبل عقد قرانهما، وهذه حالة متكررة وفق تقارير لمنظمات حقوقية.
يمكنك أن تنصت إلى محامي السجناء، حين يتحدثون عن معاناة الأهالي، جنبًا إلى جنب مع معاناتهم، وأحدهم هو ناصر أمين، رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء، الذي حكى لي عن توسلات الأهالي والمعتقلين، الغارقة في الأسى والحزن، يتخللها البكاء والعويل، وصارت تشكل ضغطًا نفسيًا شديدًا على المحامين، ما حدا بالمحامية هدى عبد الوهاب التي يُطلق عليها "أم السجناء"، إلى الشكوى من انهيار نفسي تقاومه كل يوم بغية الاستمرار في أداء مهتمها القاسية.
أثرياء السجن
لا يقف الأمر عند هذا الحد، فأهل السجناء عرضة للاستغلال الدائم من قبل باعة حول السجون، ولا يعلم أحد مقدار ما يدفعه الأهل من أموال يخطفها من جيوبهم المنتفعون من السجن مع كل زيارة، وهم أشبه بأثرياء الحروب.
حول الأسوار العالية الخشنة المتجهمة ينتشر تجار الألم، ليبيعوا للزائرين كل شيء بأضعاف ثمنه: زجاجة المياه، وكوب الشاي، وشطيرة خبز محشوة بأي شيء، وتصوير بعض الأوراق للمحامين، والاحتفاظ بالموبايلات التي لا يسمح للزائرين باصطحابها إلى الداخل.
بالقرب من سور سجن طرة، قبل إخلائه، لا صوت يعلو فوق صوت أولئك التجار، ومن بينهم شخصية معروفة اسمها "أم م."، كانت تقف خلف نصبة عليها أشياء بسيطة تبيعها، وإلى جانبها أرفف خشبية تضع عليها هواتف الزائرين، كل منها يأخذ رقمًا، تسلمه للزائر مقابل عشرين جنيهًا، وتقوم في الوقت نفسه بتشغيل كل من حولها لجلب احتياجات أهالي السجناء، لقاء ما يدفعونه لها.
يستغل أصحاب البيوت الخفيضة حول السجن حاجة الأهالي، فيحيلون الطوابق الأرضية إلى مقاه في النهار، وفي الليل يمدون فيها أسّرة لمبيت من جاؤوا من محافظات بعيدة، ويحتاجون قسطًا من الراحة، قبل الاستيقاظ المبكر لضمان التسجيل في دفتر الزيارة قبل إنهاء موعده عند العاشرة صباحًا. ويؤجر هؤلاء جزءًا من أي ثلاجة، ليضع فيها ما جاء به من طعام وشراب.
هناك من لا تسمح لهم إمكانياتهم بدفع أثمان مبيتهم، أو يصلون متأخرين فيجدونها حُجزت تمامًا، فيضطرون إلى النوم على دكك خشبية خشنة ضيقة ممدة خارج سور السجن، في انتظار صباح يأتي على مهل، لينذرهم بساعات طويلة من المعاناة.
يتحدث بعض أهل المنطقة عن الثروة الطائلة التي حازتها " أم م." جراء استغلال أهالي السجناء، ويقال إنها تملك عمارتين سكنيتين في مكان آخر.
يكون على أهالي السجناء أن يدفعوا أيضًا قبل تفتيشهم ذاتيًا أو فحص ما حملوه معهم لذويهم السجناء. ورغم أن ضباط السجن يتدخلون لمنع ذلك الابتزاز، فإن المفتشين سرعان ما يعودون إلى سابق عهدهم، وإلا تشددوا في السماح بدخول "الطبلية" أو قيام الزيارة.
وفي بعض الأوقات يدفع السجناء السياسيين ثمن ما يُقدم عليه سجناء جنائيون في محاولاتهم المستمرة لتهريب ممنوعات إلى داخل السجن، إذ تتشدد إدارة السجن في التفتيش، وترد كثيرين بما أتوا به، ولا تنفع معها التوسلات.
وفي أوقات يكون التفتيش الذاتي قاسيًا ومهينًا، فيصيب بعض أهالي السجناء، خصوصًا النساء والفتيات بالخوف والأسى، فيحجمون عن الزيارة. ومن بينهن اللاتي ينظرن إلى السجين على أنه تسبب لهم في هذه الإهانة. بعضهن يلتمسن العذر، لكنهن يرفضن خوض تلك التجربة المقززة مرة أخرى.
طلاق كئيب وزواج مثله
مأساة تلك الأسر لا تقف حد ما يعانوه في تدبير نفقات زيارات السجناء، أو ما يلاقونه من صنوف العذاب قبل تلك الزيارات وبعدها، وإنما يمتد إلى ما هو أبعد كثيرًا. فهم عرضة للاستخدام في ابتزاز السجناء أنفسهم، فغير مرة يقال إن سجناء مضربون عن الطعام، اضطروا إلى كسره، بعد أن أبلغتهم إدارة السجن بأن أهلهم سيلحقون بهم إن لم يفكوا الاضراب.
أما المعارضون السياسيون الذين تمكنوا من الفرار خارج البلاد فتنظر السلطة إلى أهلهم باعتبارهم رهائن، وتم القبض على بعضهم بالفعل لإجبار الفارين على الصمت، لا سيما إن كان الفارون من الوجوه البارزة أو المتفاعلين على السوشيال ميديا.
من جانب آخر، يُمارس ضد أسرة السجين نوعًا من "الاستبعاد الاجتماعي"، إذ ترفض بعض الأسر مصاهرتهم، وتلجأ بعض زوجات سجناء إلى طلب الطلاق لا سيما ممن صدرت بحقهم أحكامًا بالسجن الطويل ما يؤدي إلى تفكك العائلة، ويتسبب ذلك أحيانًا في تسرب أولادهم من التعليم.
وهناك سجناء أقدموا على تلك الخطوة من تلقاء أنفسهم، رأفة بزوجاتهم، اللاتي عليهن الانتظار لسنوات طويلة. الحالة البارزة في ذلك الخصوص هي للسجين أحمد دومة، المحكوم عليه بخمسة عشر سنة سجنًا، حيث طلق زوجته نورهان حفظي، رغم رفضها ذلك، حتى يرحمها أيضًا من التضييق والملاحقة التي كانت تتعرض لها.
وتوجد أسر صارت حياتها مؤجلة إلى حين خروج سجينها، وأخرى فقدت أفراحها البهجة للسبب نفسه. يقول "ع. ت."، "تزوجت أنا وأخي في غياب أخينا الثالث خلف أسوار السجن، بعد أن فشلنا في الحصول على تصريح يسمح له بحضور عرسينا، فتمت المراسم في أجواء كئيبة، لا سيما أن حزن أمي الدفين على أخي أصابها بأمراض مزمنة منها ضغط الدم والسكري".
يُحرم ذوي المعتقلين من منح تعليمية، ومن التعيين في الوظائف الحكومية، أو الالتحاق بالكليات العسكرية وكلية الشرطة وسلك القضاء. وهناك من يتم فصلهم تعسفيًا من أعمالهم، وطلاب تفصلهم مدارس وجامعات، بفعل التقارير الأمنية التي لا ترحم.
هنا تحكي "هـ. م."، التي تخشى ذكر اسمها كاملًا، عن استبعادها من وظيفتها كمسؤولة عن النشاط الطلابي بقسم رعاية الطلاب بإحدى الكليات الجامعية، بسبب اعتقال والدها. وأخرى طالبة هي "م. س."، لا تسمح لها إدارة إحدى كليات الإعلام بالحصول على تصريح تصوير خارجي، ضمن مشروع تخرجها.
وإثر دخول زوجها إلى السجن، وجدت منار الطنطاوي نفسها محالة إلى تأديب بالمعهد الذي تعمل فيه أستاذة في اتهامات جزافية، لم يستطع مجلس التأديب نفسه إثباتها. لكن ذلك الإجراء حال دون حصولها على حقها في الترقية رغم استيفائها الإجراءات القانونية والفنية المؤهلة لها، وتأييد هيئة مفوضي مجلس الدولة ذلك في تقرير لها.
ولم يقف الأمر عند ذلك بل حيل بين الطنطاوي وبين الرجوع لمنصب رئيس قسم، الذي كانت اعتذرت عنه لظروف صحية صعبة داهمتها بعد سجن زوجها. ورغم توجيه مائة شخصية عامة، بينهم أساتذة جامعيون وصحفيون وحقوقيون وكاتب هذا المقال، خطابًا إلى وزير التعليم العالي، لوقف التعسف ضد الطنطاوي، فإنه لم يستجب، لتستمر مشكلتها قائمة حتى بعد الإفراج عن جعفر.
كما أن بعض الشركات والمشروعات الخاصة يجري عليها ما يجري على الهيئات الحكومية، حيث تُمارس ضغوط أمنية على أصحابها لمعاقبة ذوى المعتقلين على ذمة قضايا سياسية، فما إن علمت إدارة المصنع بنبأ الحكم على شقيق "ل. ف." بالسجن خمس سنوات في قضية سياسية، حتى أقصته عن عمله. وهناك "أ. ع." الموظف الكفء بإحدى شركات السياحة الذي وجد نفسه مفصولًا بعد شهر واحد من تكريمه كأفضل موظف، لمجرد علم مدير الشركة أن أخاه حُكم عليه بخمسة عشر سنةً في قضية سياسية.
ومن بين أصحاب المصالح الخاصة، من لا يسمح أصلا لذوي السجناء بالتوظيف، مبررًا ذلك بأنه "يريد تجنب الأذى". فُصلت الطفلة "ن. ط."، من إحدى دور الحضانة، بعد الحكم على والدها المعارض السياسي.
إلى الحرية ولكن دون مستقبل
وحتى لو أُفرج عن السجين السياسي، بعد حين، فإنه يظل عبئًا على الأسرة، أو كما تقول إكرام يوسف "كان الله في عونهم، فحتى بعد خروجهم من السجن لا يستطيعون العودة إلى حالتهم الطبيعية، وكذلك أهلهم .. كل شيء يتغير، وعلى السجين الخارج إلى الناس وأهله أن يبذلوا جهدًا مضنيًا في سبيل محو آثار فترة السجن العصيبة".
تبدأ المحنة فور إفراج النيابة عن المحبوس احتياطيًا، إذ يقضي ليال عصيبة في حجوزات مراكز الشرطة، قبل أن يُطلق سراحه. هناك من يخرج من السجن إلى بيته مباشرة، لكن تلك العملية لا تتم في كل الأحوال. في بعض الأحيان يخرج السجين دون أن يتم إبلاغ أهله ليكونوا في انتظاره بزي مدني يرتديه. وبعضهم يخرج ليلًا من دون أي نقود تعينه على العودة، إذ أن "أمانات السجن" تكون أغلقت بابها. ومن بينهم من يضطر إلى ركوب المواصلات العامة بلباس السجن، فيكون عرضة للغمز واللمز أو التنمر.
حين يعود السجين إلى بيته، تبدأ معاناة أخرى، فبعض هؤلاء فصلوا من جامعاتهم، خاصة الدارسين في كليات عملية كالهندسة والطب والحاسبات والمعلومات. وكثيرون منهم لا يستطيعون الحصول على عمل، إن كانوا عاملين أو موظفين في القطاع الخاص، وقد لا يعود الواحد منهم إلى عمله إن كان في القطاع الحكومي.
يظل بعضهم يصرف نصف راتبه، طالما أنه لا يزال على ذمة قضية منظورة. اضطر "س. ت." إلى فسخ خطوبته، لتعذر حصوله على عمل، وقاطعه جيرانه ومعارفه لتفادي المشكلات، وتجنب آخرون مجرد الحديث معه، وهنا يقول "شعرت أنني منبوذ، وتدمرت حياتي الطبيعية".
وقد شكا شريف الروبي، الناشط في حركة 6 إبريل، من عدم وجود عمل، بعد الإفراج عنه في مايو 2022، فأصحاب الأعمال في محافظة الفيوم، التي ينتمي إليها، ما إن يتعرفوا عليه حتى يرفضوا الحاقه بأي من الأعمال الحرفية التي يريدها. لم يتدخل أي من أصدقائه لإنقاذه، فراح يسجل شكواه المريرة، وكذلك معاناة رفاقه في السجن، على حسابيه في فيسبوك وتويتر، ما أدى إلى إعادة اعتقاله بعد أربعة أشهر فقط من الإفراج عنه.
وهناك من يعاني في سبيل تدبير نفقات أسرته، حال صدور حكم بالتحفظ على أمواله. المثل البارز في ذلك المضمار هو د. حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الذي قضى نحو عام ونصف خلف الأسوار، بتهم واهية. حين تواصلت معه عرفت أنه حصل على حكم قضائي بالإفراج عن أرصدته البنكية، لكن الحكم لم ينفذ كاملًا إلى الآن. ومثله السفير معصوم مرزوق، مساعد وزير الخارجية الأسبق، الذي خرج بعد سنة ونصف قضاها في الحبس خالي الوفاض، ليتكفل أخوه المهاجر في الولايات المتحدة الأمريكية بمد يد المساعدة المالية المنتظمة إليه.
وشكا لي د. رائد سلامة، الباحث الاقتصادي، من ضيق ذات اليد بعد خروجه من حبس دام سنة ونصف أيضًا. ولولا بعض مدخراته التي راكمها في البنك قبل دخوله السجن، لما استطاع الإنفاق على أسرته، التي عانت بدورها في غيابه من تدبير نفقات الزيارات المنتظمة التي كانت تقوم بها إلى السجن.
يظل الخارج من السجن يواجه التضييق الشديد، والتحذير المستمر، من العودة إلى ممارسة أي أنشطة سياسية، حتى لو كانت مجرد التعليق على الأوضاع العامة، والمثل الواضح في هذا هو د. حازم حسني، أستاذ الإحصاء بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. فبعد عدة مقالات كتبها على فيسبوك، بعد الإفراج عنه، يعبر فيها عن رأيه في مجريات الأحداث توقف فجأة، معتذرًا لمتابعيه بما يبين أنه تعرض لتهديد بالعودة مرة أخرى إلى السجن إن واصل الكتابة.
ومثله حسن نافعة، الذي كتب تغريدة على تويتر في الثالث من أغسطس/ آب 2022 يقول فيها "أعتذر لمتابعي هذه الصفحة، وأعبر عن أسفي لاضطراري إلى غلقها لأجل غير مسمى، وذلك لأسباب خارجة عن إرادتي، كما أعبر عن امتناني لكل من تحمل مشقة متابعتي".
حين خرج محمد عادل من السجن، قبل أن يدخله مرة أخرى، لم يجد أي كيان سياسي يستوعب رغبته في ممارسة دوره العام. فحركة 6 أبريل التي كان ضمن قادتها لم يعد بوسعها العمل، والأحزاب السياسية لم ترحب به، ولم يعد قادرًا على ممارسة أي أنشطة اعتاد عليها قبل ثورة يناير وبعدها، في ظل الحصار المفروض على المجال العام.
بعض المؤسسات التي يعمل بها المفرج عنهم تشرع في معاقبتهم، أو تحيلهم إلى التحقيق الداخلي، وتستعمل معهم ما تقوم به النيابة العامة. الحالة الصارخة هنا هي لأستاذ الجيولوجيا بجامعة حلوان، يحيى القزاز، المنتمي للتيار المدني، حيث أحالته كلية العلوم للتحقيق في تهمتي "إهانة رئيس الجمهورية" و"مساعدة جماعة إرهابية على تحقيق أهدافها". واضطر كاتب هذا المقال إلى كتابة مقالين يخاطب فيهما الرئيس عبد الفتاح السيسي كي يتدخل لوقف هذا العسف ضد القزاز، فاضطرت الجامعة إلى التهدئة، لكن مضايقته لا تزال مستمرة.
ويلاقي بعض الخارجين من السجن السياسي صعوبة شديدة في استخراج أوراق رسمية، خصوصًا صحيفة الحالة الجنائية "الفيش والتشبيه"، فـ"أ. هـ." ظل ينتظر سبعة أشهر كاملة للحصول عليها، مع أنها تُستخرج لغيره في ثلاثة أيام فقط.
ويحمل "ك. ط." معه دومًا الأوراق التي تدل على براءته من قضية التظاهر التي سجن بسببها، لأن قوات الأمن توقفه في مختلف الكمائن، وتحتجزه أحيانا لساعات، بعد أن تعرف حالته إثر الكشف عليها في كمبيوترات الشرطية المتنقلة، وهنا يقول "حتى بعدما كنت أُظهر لهم الورقة، كنت أقف بالساعات قبل أن يُسمح لي بالذهاب، كنوع من التكدير".
ومن بين المفرج عنهم، يوجد من يقع فريسة للاكتئاب، ومن بين المكتئبين من أقدم مرات على محاولة الانتحار. وأصيب "ل. ق." بعد خروجه بشرود وذهول مستمرين، وانطوى على نفسه، لا يريد أن يرى الناس، ويشعر بخوف مستمر منهم. أما "أ. ز." فظل وقتًا طويلًا مسكونا بالتوجس حيال كل من يتقرب إليه، خشية أن يكون مخبرًا أو متعاونًا مع أجهزة الأمن، وقد اضطر إلى تغيير محل إقامته مرات، ليكون بين أناس جدد، لا يعرفون حكايته.
إثر ذلك لجأت كثير من الأسر إلى البحث عن "دعم نفسي" لأفرادها وسجنائها، ودفعت أموالًا إضافية لذلك الغرض، بعد إغلاق السلطات مركز النديم الذي كان يقدم دعمًا نفسيًا للسجناء وضحايا التعذيب. هذا الوضع دفع المركز إلى إصدار بيان ذكر فيه أن الدعم النفسي المقدم لتلك الأسر، أصبح "غير منظم وغير احترافي وسيفاقم أزمات السجين السابق نتيجة فقدان ذويه من يقدم لهم برامج إرشاد نفسي تعينهم على التعامل معه".
حوار من دون جدوى
تنفي السلطات المصرية وجود معتقلين أو سجناء سياسيين أو سجناء رأي، وتصف من تم القبض عليهم بأنهم ارتكبوا جرائم وصدرت بحقهم أحكام قضائية. وتصف كذلك تقارير المنظمات الحقوقية بأنها مغرضة، وتنطوي على مبالغات، بهدف تشويه سمعة النظام الحاكم. كما تتهم تلك المنظمات دوما بأنها متواطئة مع تنظيم "الإخوان"، وتتلقى تمويلًا منه، أو من أعداء مصر في الخارج.
مؤخرًا دخل بعض المعارضين في "حوار وطني" مع السلطة السياسية، لا تلوح في الأفق له أي جدوى. وبرر المعارضون قبولهم الحوار بالعمل على الإفراج عن السجناء السياسيين، بعد تشكيل "لجنة عفو رئاسي"، أدت إلى إفراج متعثر ومتقطع وخجول عن عدد قليل جدا منهم، دون أن يضمن المتحاورن ألا يدخل آخرون إلى السجن أضعافًا مضاعفةً.
يتلقى أناس من المتحاورين، بشكل مستمر، مكالمات ورسائل وإيميلات من أهالي السجناء، يؤكدون فيها أن ذويهم الذين يقبعون في الزنازين أبرياء، ويطلقون وعودًا غير مضمونة بأن جهدًا سيبذل في سبيل الإفراج عنهم في وقت قريب. لكن الأوقات تمر، فتتراكم سنوات من عمر المحبوسين احتياطيًا، أو من صدرت بحقهم أحكام بالسجن المؤبد، أو بالإعدام شنقًا، وتزداد مع هذا معاناة أهلهم.
إن من يقف على أوجاع أهالي السجناء ويقدرها حق قدرها، يدرك أن مصر تحولت إلى "مجتمع مقهور"، وهذا وضع من الصعب إنكاره، فالكل بات يعرف الحقيقة، وكما يقول الإنجيل "لا يمكن أن تخفي مدينة موضوعة على جبل".