تصميم: أحمد بلال- المنصة

وما أدراك ما الصيف في السجن؟

منشور الخميس 18 مايو 2023 - آخر تحديث الخميس 18 مايو 2023

أول أحلامي في السجن شقّيت جدرانه واتشعبطت فْ ديل طيارة

تاني الأحلام أخدت أجازة.. روحت البحر وعملت لي كام ألف زيارة

تالت آمالي فتحت الباب واتمشّيت في الطرقة تريّض..

رابع أمنية مخنوقة وسّعت الفتحة الشرّاعة اللي بيسمّوها نضّارة!

--من رباعيات مزرعة طرة لكاتب المقال، في الشهر السادس والأربعين 17/9/2019--

لم تكن هذه الرباعية خيالًا شعريًا، بل وصف صادق للمراحل التي مررت بها في شهوري الأولى لمدة سنتين، من سنواتي السبع في السجن.

أحلام البدايات

في الأسابيع الأولى، كانت القضبان في سقف الردهة التي تتوسط العنبر أثناء ساعة التريّض تتراصّ حائلًا بين عينيّ وبين رؤية الطائرات في سماء طرة، وهي محلّقة في طريقها من مطار القاهرة أو إليه. كنت أتخيّلني داخلها، أربط الحزام أو أفكه، أتجه إلى الحمام متذكرًا مشهد محمد هنيدي في فيلم فول الصين العظيم، حين التصق بالمرحاض، أتناول شيئًا من فوق الرف، أعود لأضعه ثانية، أشكر المضيفة، أستأذن الراكب جواري في المرور، أشاهد فيلمًا في عروضه الأولى لم يكن قد انتشر بعد، أضع الغمامة على عيني والمخدة حول رقبتي وأغط في نوم ربما يساعدني على تجاوز فرق توقيت الساعة البيولوجية/jet lag عند الهبوط.

ربيع

تكررت قرارات تجديد الحبس، وبدأت درجات الحرارة في الارتفاع مع قدوم الربيع. في الربيع موجات حارة تأتي برياح الخماسين المحملة بالأتربة. وهنا تختلف وجهات نظر السجناء الفيزيائية حول اتجاه الرياح التي تتطلب استمرار الشفاطات في العمل أو توقيفها لحين مرور العاصفة الترابية. تُعقد المشاورات والمباحثات، وتطفأ الشفاطات ويعاد تشغيلها، وكل ما يشغلني أن أتفاوض على إجازة أخرج فيها من السجن وأعود ثانية!

فكرة بلهاء تليق بالعبث الذي يعيشه المحبوس احتياطيًا. ولم لا؟ أخرج من السجن صارفًا تفكيري عن الطائرات، فجواز سفري المصري في نيابة أمن الدولة العليا أعلى من الطائرات. وليس لي جنسية أخرى ولا جواز بديل. ولو كان الجواز في يدي، فهل أضمن الحصول على تأشيرة؟

دعنا من السفر البعيد، ولْيُشبع جسدي رغباته البحرية المتأججة برحلة شاطئية أتطهّر فيها من أدران اليابسة. وليس ما يمنع من بعض الزيارات.. بل كثير من الزيارات واللقاءات. هل هذا كثير يا مصر؟ سأعود إلى حضنك الحديدي. هذا وعد!

صيف

مرّت الأسابيع تلو الأسابيع، وبدأ الحر يزحف على وجه القاهرة ويخنق أنفاسها، صارت حياة السجن الحقيقية تتضح لي. تلك المعيشة التي تبدأ فعليًا بعد وقت التمام، حيث لا يُفتح الباب إلا للضرورة القصوى، وإذا فتح فسرعان ما يغلق. فلا قمامة ستخرج، ولا جراية ستدخل، ولن ينادى على الجلسات ولا الزيارات، ولن يكون ثمة تريض، إلا في يوم العمل التالي.

في هذه المرحلة، ومع دخول الأعياد، تُغلق أبواب الزنازين ويمنع التريض لأنها "عطلة رسمية"! بدأت أفكار السفر تتطاير، وتطلعات الشاطئ تغرق في بحر العرق، ولم يكن ثمة رغبة لديّ سوى أن يفتح باب الزنزانة للتهوية.

يتساءل السجناء المستجدّون ببلاهة: ماذا سيحدث لو فتحوا أبواب الزنازين وتركونا في الردهة؟ أليست بوابة العنبر الحديدية مغلقة؟ أليس الحرس موجودين؟!

أعلم أنك يا مصر تضحكين، من سويداء قلبك الفولاذي الذي لا يلين، على هذه التساؤلات العبيطة!

مرّ الصيف الأول، بحرّه وعرقه، بتجديداته وعبثه. ودارت دورة الفصول مرة ثانية. وفي الصيف التالي، ومع زيادة كثافة النزلاء بالغرفة، بدأت أتردد بانتظام على "النظّارة"، وهي الفتحة المستطيلة في باب الزنزانة السميك، التي يتخللها قضبان في بنية الباب نفسه، مع إضافة لوذعية من شبكة حديدية. تلك الفتحة التي تتحول إلى قناع للأكسجين يتناوب نزلاء الزنزانة/الغرفة على الاستنشاق منه.

شتاء

في الشتاء، تكون النظارة أشبه بباب "فريزر" يدخل منه هواء بارد لدرجة الإيذاء. لذا، يتفنن السجناء في إغلاقها بما لا يعد مخالفة لقواعد السجن. فإدارة السجن قد تغلق النظارة من الخارج بغطاء حديدي، بقرار من مزاجها.. عفوًا، من سلطتها التقديرية. لكن إذا كانت مكشوفة، فأفراد الحراسة لا يحبون أن يحرمهم السجناء من هواية التلصص عليهم بإغلاقها من الداخل.

في الصيف، وفي ملابسه التي لا تزيد كثيرًا عن بوكسر وفانلة حمالات، تتحول النظارة إلى قِبلة يؤمها المخنوقون. ودائمًا تعلوها بقعة مختلفة عن لون بقية الباب من الداخل، وهي من أثر الساندين رؤوسهم على الباب كي يتنفسوا منها.

كانت الجدران في سجن مزرعة طرة، حيث قضيت سبع سنوات، إلا شهرين في سجن بدر 1، مبنيةً من أحجار جيرية سميكة، تمتص الحرارة طيلة النهار، ثم يبدأ الجحيم في المساء. ومع اشتداد الحر داخل الغرفة وزيادة الرطوبة بعد التمام، يكون الجو في الخارج بدأ يتحسن. يكون الفرق كبيرًا بين الداخل والخارج. كبيرًا لدرجة أن الوجه الملتصق بالنظارة يكون كالمطل على شاطئ مطروح، في حين أن الكتفين يكونان في زيارة إلى أسوان!

الحارس عبدٌ مأمور

من التحريفات الشائعة في العامية المصرية تحريف "ثور لاهٍ في برسيمه"، وهي صفة منوّنة من اللهو، إلى "ثور الله في برسيمه" بالإضافة إلى لفظ الجلالة. وكذلك تحريف "عبدٌ مأمور"، وهي صفة منوّنة أيضًا، إلى "عبد المأمور" وكأنها إضافة.

الغريب هو أن البلدان تسمّى مدير السجن "الآمر"، إلا أم الدنيا تسميه "المأمور". ومع شيوع التحريف الآنف الذكر، فإن المتحدث عن نفسه كــ"عبد المأمور"، يعترف ضمنًا بتسلسل القيادة الخاضعة في كل حلقاتها لمعايير السمع والطاعة، أو كما يقول "الميري": نفّذ ثم اعترض!

فأي عبث سيصل بالمسجون إلى نتيجة إذا أراد أن يفهّم من بيده المفاتيح أن هناك مرضى وكبار سن، بشرًا من لحم ودم وأعصاب، ينصهرون في حرّ الزنازين؟ فالذي يحمل المفاتيح لا يملك المقاليد، ومن تقلّد الأمر يسمع ويطيع سلبًا لا إيجابًا. بمعنى أنه إذا لم يسمع لا يفعل، بل يبقي الأمور كما هي عليه، خشية المساءلة. أما أن يقترح فهي الهرطقة!

لماذا يستعمل الآمر، عفوًا المأمور، كامل صلاحياته للتخفيف عن السجناء فيدخل في صراع مع المباحث، أو العكس؟ ولماذا يشغل السادة الضباط أنفسهم بالسجناء وهم في انتظار الحركة السنوية في نهاية يوليو ومطلع أغسطس؟

الكلمات السحرية التي يرددها الضباط والأفراد في قطاع مصلحة السجون، الذي عُدّل اسمه ليكون "قطاع الحماية المجتمعية"، هي "نحن لم نسجنهم.. نحن جهة تنفيذ.. القرار ليس قرارنا.. لو جاءنا قرار بالإفراج سننفذه فورًا".

لا أود التعميم، لا إيجابًا ولا سلبًا، في الحديث عن الضباط والأفراد، لأن أي تعميم سيكون خاطئًا. وقد رأيت في تجربتي الطويلة تنوعًا كبيرًا وتفاوتًا رهيبًا بين مستويات الضباط والأفراد المهنية والأخلاقية. المشترك بينهم جميعًا أن العبارات السابقة كلها، للأسف، صحيحة، فليس في أيديهم الكثير كي يقدموه، ولو رغبوا في ذلك، إلى السجناء. كلهم خاضعون لأوامر وتعليمات. ولا أتحدث عن سجون النزلاء السياسيين، فهؤلاء لم أجتمع بهم إلا أقل من 6 أشهر، بل حديثي عام عن السجون الجنائية.

ورغم ذلك، فإن بعض أفراد الحراسة، مثلًا، وبتقدير من خبرتهم الأمنية والنظامية، كانوا يتركون أبواب بعض الغرف والزنازين مفتوحة ساعات طويلة قبل التمام، بتواطؤ مع السجناء، ومن غير استئذان من الإدارة. فماذا يمكن أن يفعل الضابط المسؤول، سواء كان المأمور أم ضابط المباحث، إذا أراد أن يكون رحيمًا؟!

عقبة التكنولوجيا اللعينة

كل ما سبق ينطبق على السجون التقليدية والقديمة. أما السجون المطورة باسم "مراكز الإصلاح والتأهيل"، فتقوم فلسفتها الأمنية على الاعتماد على التقنية الحديثة، وتقليل دور العنصر البشري، وخفض مستوى التعامل بين السجين والحارس لأقل درجة، مع استمرار تغيير توزيع الخدمات الأمنية والنظامية بحيث لا تنشأ علاقة بين السجناء والحراس.

في السجون الجديدة، يعتمد التواصل على "الإنتركم"، المراقَب من عدة مستويات. وتعتمد المراقبة على الكاميرات داخل الزنازين وخارجها. أما فتح الأبواب، فهو آلي من غرفة التحكم وبإجراءات رقابية أيضًا. كما تم تقليل عدد مرات فتح الباب بإضافة "نظارة" سُفلية أكثر استطالة لدخول الطعام وتسليم العلاج وإخراج القمامة. وكلتا النظارتين تغلقان من الخارج بغطاء حديدي بمزلاج محكم.

بفضل الله، لم تطل تجربتي في سجن بدر عن شهرين، وخرجت في الخريف الذي نُقلت فيه من سجن مزرعة طرة. فلم أجرب الربيع ولا دخول الصيف فيه. وإن كانت منطقة بدر، عمومًا، ألطف في جوها في الصيف من القاهرة، خصوصًا في الرطوبة لا درجة الحرارة، غير أني لا أظن أن المراوح القليلة والشفاطات قد تفعل شيئًا ذا بالٍ لنزلاء الجدران الخرسانية، المطورة.

والعجب العجيب أن تلك الميزانيات الضخمة التي أنفقت على إنشاء مجمعات السجون المطورة لم تشمل تكييفًا مركزيًا يعمل بخلايا الطاقة الشمسية... مثلًا أعني!

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.