في بيتنا لا يأتي العيد بالملابس الجديدة والعيديات فقط، وإنما يضاف إليهما، للمفارقة، الهم والتفكير. قبل أي عيد بيوم أو اثنين تنخرط ماما في مطبخها، فيما يشبه معسكرًا مغلقًا، لتجهيز زيارة أبي، بينما ندخل نحن أفراد الأسرة جميعًا في جدال طويل عن أي منا الأحق بالزيارة هذه المرة، لأنها غالبًا ما تكون متاحة لفرد واحد فقط.
أُلقي القبض على أبي يوم 26 سبتمبر/أيلول سنة 2016، أي منذ سبع سنوات تقريبًا. حدث الأمر صدفة، بينما كان ذاهبًا رفقة صديق له لزيارة آخر استأصل لتوه الزائدة الدودية. على الطريق استوقفهم كمين شرطة، وبعد أخذ ورد، واستعلام عن البطاقات، اكتشفوا أن صديق أبي عليه قضية سياسية لانتمائه إلى "جماعة محظورة".
رُحلّا معًا، صديق أبي لقضيته، ووالدي للاشتباه فيه. واختفيا لأكثر من واحد وعشرين يومًا، لم تصلنا أي معلومة عنهما، رغم أننا أرسلنا قرابة العشرين فاكسًا لمختلف الجهات المعنية، بدءًا بالنائب العام، وانتهاءً بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، ودار المحامي على كل أقسام الشرطة التي يتوقع أن يكونا قد رُحلّا إليها.
أمضى أبي خمس عشرة عيدًا تقريبًا في سجنه، بين فطر وأضحى
بعد ثلاثة أسابيع ظهر أبي، أخبرنا المحامي بمكانه، وزارته أمي قبل ترحيله إلى السجن، وفي تلك الزيارة انهارت بعد ما رأته من آثار تعذيب الثلاثة أسابيع الفائتة، قالت إنه يشبه الذبيحة المسلوخة. وظلت تبكي، حتى تجاوزت صورة أبي المعذب، بعدما استرد عافيته لاحقًا.
في استئناس الكوابيس
منذ 2016 وحتى اليوم، أمضى أبي خمس عشرة عيدًا تقريبًا في سجنه، بين فطر وأضحى. في البداية كان لدينا أمل أن يخرج في أقرب فرصة، لكن مع الوقت انطفأ. خصوصًا بعد تدويره بالتناوب في قضايا جديدة "ملفقة"، مثل تفجير محطة كهرباء، أو حيازة سلاح ناري واستخدام العنف لإرهاب المواطنين.
الأكثر ألمًا من تلك التهم الهزلية، هو عدم القدرة على التقاضي، فكل الالتماسات التي قدمناها لم يتم تحريكها في المحاكم تقريبًا، ولا يستطيع المحامي الوصول إلى ما يحتاجه من أوراق، أو الترافع بحرية تسمح له بنقض تلك التهم واستخلاص البراءة مثلًا، رغم أن بعض المحاضر بها ثغرات شديدة الوضوح، وكأننا ندور في دوامة لا تنتهي من السجن والإذلال.
مع الوقت، تعودنا على الكابوس الذي بدا أنه لا مفر لنا منه، صرنا ننظم جدولًا للزيارات يسمح لنا بزيارة أبي بالتناوب، ونقتطع من مصاريف البيت لتجهيز الأكل له ولزملاء غرفته. لكن في العيد، نستطيع أن نذهب كلنا أحيانًا في زيارة استثنائية، أو يذهب فرد واحد حسب نظام السجن، أو ربما لا نذهب أبدًا.
تنقل أبي بين ثلاثة سجون حتى الآن، الأبعدية في دمنهور، واستقبال طرة في القاهرة، وبرج العرب في الإسكندرية. في كل سجن منهم قضينا عيدًا مختلفًا، أو بالأدق قضينا الأعياد السابقة بكل الأشكال المختلفة؛ مرة صلينا ثم خرجنا من فورنا في السيارة التي استأجرناها، ومرة أخرى خرجنا قبل الفجر حتى نصل في موعدنا، وثالثة صلينا العيد أمام السجن، وهكذا.
صحن العيد للجميع
تجهيز زيارة العيد هو الأصعب دومًا. بالرغم أن تجهيز الأكل للزيارة بات روتينًا نصف شهري عند ماما، فإن زيارة العيد لها وضع مختلف. تبدأ ماما في التخطيط قبل العيد بأسبوع مثلًا، فتعدد الأصناف التي ستطبخها، والطريقة الأفضل لتخزينها، وكذلك عرضها أثناء التفتيش حتى لا يتعرض الأكل للبهدلة.
في الأيام العادية كانت ماما تجهز أكل يوم واحد لأبي ورفقائه، الذين يتراوح عددهم بين عشرة إلى خمسة عشر فردًا، فالأسر تتبادل الزيارات بالترتيب، حتى يدخل إلى الزنزانة طعامًا طازجًا يوميًا، وهكذا تدور الدورة طوال الأسبوعين. أما العيد فلا يذهب إلى السجن غير الأسر الأقرب له جغرافيًا، ثلاث أو أربع أسر على أكثر تقدير، ثم تتوقف الزيارات لفترة، حسب الإجازات فتصبح زيارة العيد تلك هي زاد أسبوع أو ربما عشرة أيام.
أحيانًا ما كان يتم توقيف إحداهن لفترة أطول من المعتاد، ثم نفهم من الكلام المتناثر أنها في فترة حيضها
تبدأ ماما في طبخ الأكل قبل الزيارة بيومين، حتى يتسنى لها تجهيز جميع الأصناف وتعبئتها ورصها جيدًا. تعد وجبتين أساسيتين من اللحوم، واحدة حمراء وأخرى بيضاء، مع الأرز والمكرونة، وهو ما أصبح أمرًا مرهقًا بعد الغلاء الفاحش لأسعار اللحوم.
كذلك تضيف صنفين أو ثلاثة فاكهة، تحرص أن تكون حبات منفردة، ومن أنواع لا أنوية كبيرة فيها، مثل التفاح والعنب، فالخوخ والمشمش وما شاكلهما لا يدخلان، والبطيخ أيضًا إلا إذا كان مقطعًا على هيئة مكعبات. ثم تضيف الخبز والحلويات وبعض السناكس. طوال اليومين تبذل أمي مجهودًا جبارًا، ثم تهدأ ليلة العيد، وكلها أمل ألا يُفسد التفتيش كل ذلك المجهود.
كشف الفوط الصحية
تفتيش الزيارة هو أسوأ ما في اليوم كله. كنا في فترة ما قبل كورونا نذهب جميعًا لزيارة أبي، أنا وأمي وأخوتي الثلاثة، وبعد الوباء توقفت الزيارات نهائيًا، ثم صارت مقصورةً على فرد واحد فقط. كنا نصل إلى السجن في السادسة صباحًا أو بعدها بقليل، وننتظر حتى السابعة ونصف. نقضي تلك الساعة في نحاول التغاضي عن فكرة أننا نقضي العيد هنا.
تلتقي الأسر مرارًا. نشأت بيننا صداقات بحكم العشرة، والتدوير معًا في المحاكم. بعضنا يرتدي أزياءً جديدة، وبعض الأطفال اشتروا ألعابًا وبلالين يجرون هنا وهناك. يبدأ النداء على أسماء المعتقلين تباعًا، وتدخل أسرة المسجون الذي يُنادى عليه.
هناك محطة تفتيش ذاتي قبل الدخول إلى تفتيش الطعام. تلك أبغض لحظة في اليوم، وربما في الحياة كلها، عندما تقف فارد اليدين والساقين، وأمين شرطة يعبث في جيوبك ثم يعثو في جسدك، بملامح عدائية، وربما رمى إفيه بذيء من آن لآخر. أحيانًا كنت أدفع يده إذا أحسست به يقترب من أعضائي، فينظر بتحد ولا يمدها ثانية. وأحيانًا يعترض بعض الأشخاص على ذلك التعدي بصوت عال، لكنه لا يمل من لعبته تلك.
النساء كن الأكثر تضررًا من التفتيش الذاتي والأكثر اعتراضًا عليه في كل زيارة. كان يتم تفتيشهن في غرفة جانبية من قبل سجانة أو اثنتين، لكن دومًا تحدث المشاجرات بسبب طلبات السجانة الغريبة، مثل أن يخلعن الأحذية والجوارب وغطاءات الرأس وربما فتح صدر العباءة، ثم تمتد يد السجانة داخل الصدريات والمؤخرات.
كانت السجانة تبرر تعديها بأن ذلك عملها، وفي الأعياد توغل في التفتيش وتتحجج بضغط عدد الزوار عن المعتاد. كثيرًا ما رأيت بنات ونساء يخرجن من تلك الغرفة يبكين. وأحيانًا ما كان يتم توقيف إحداهن لفترة أطول من المعتاد، ثم نفهم من الكلام المتناثر أنها في فترة حيضها، وتضع فوط صحية، حيث تشكل تلك الحالة صيدًا ثمينا لسجانة، قد تتسلى بها وعليها طول اليوم، دون مراعاة لأي شيء. كثيرًا ما تكررت جملة: ده تحسيس مش تفتيش. وربما لم تعاود إحداهن الزيارة مطلقًا بسبب العبث المؤذي بجسدها.
صرير مزعج ثم حضن
بعد وصلة التفتيش الذاتي، نتكدس في قاعة كبيرة، سرعان ما تضيق بنا بسبب العدد المتزايد حتى نكاد نختنق من الحر. تتصل تلك القاعة بأخرى أصغر منها حجمًا تتراص فيها طاولات عريضة يتم تفتيش الأكل عليها. تُنادى أسماء السجناء تباعًا مرة أخرى، ويتقدم واحد فقط من ذويه بالأكياس التي تحوي الطعام.
غالبًا ما تتقدم أمي ثم تبدأ في فرد الأكل صنفًا تلو الآخر. ويبدأ أمين الشرطة بالتفعيص فيه وتقليبه بحجة التأكد من خلوه من أي ممنوعات مثل الشفرات والسكاكين والمعادن، والبرشام، والمخدرات، وغيرها. بعدها تبدأ وصلة من المحايلة والتذلل بيننا وبين أمين الشرطة لتمرير صنف معين، غالبًا ما تكون الفواكه أو الحلويات، لكنه يقابل تلك المحايلة بتمنع شديد.
كان الأولاد يدارون على آبائهم بسجادة صلاة، كأنها ستارة صغيرة، لينخرطا في قبلة طويلة
بعضهم كان يتمنع طمعًا في رشوة تبدأ من خمسين جنيهًا، وبعضهم يفعلها من قبيل العكننة علينا، بما أنه ترك بيته في العيد فسيقلب عيدنا كآبة أيضًا. تلك المحايلات كان يفضها أحيانًا الضابط المسؤول عن الزيارة، وهو يمر حول الطاولات، فيشير برأسه بالموافقة على دخول شيء ما. الأدوية بالذات كانت تحتاج موافقة الضابط، لا بد أن يراها ويقرأ اسم الدواء ونوع تغليفه، تقريبًا كان هو الشخص الوحيد الذي يستطيع قراءة الإنجليزية.
بعد التفتيشين نبدأ في وصلة انتظار مملة، حتى يخرج إلينا السجناء. ينفتح باب حديدي ثقيل من آخر القاعة، يصدر صريرًا مزعجًا، ينقبض القلب له، ثم يخرجون من خلفه تباعًا ويتوجه كل واحد ناحية أسرته. في تلك اللحظة التي يندفع فيها السجناء ناحية أهاليهم، يصدح الجمع بالتكبيرات، كأن العيد بدأ توًا. ترتج القاعة كلها لأصوات التكبيرات فيجري أمناء الشرطة كالمسعورين يحاولون إسكاتها عنوة، وربما ادعى أحدهم كذبًا أن رئيس مصلحة السجون هنا وسيقلب حياة السجناء طينًا لو سمعنا.
كان أبي يحرص أن يخرج إلينا متأنقًا كأنه ذاهب إلى مصلى العيد، رغم أنه لا يرتدي سوى زي السجن، الأبيض للحبس الاحتياطي، والأزرق للمحكوم عليهم، لكنه كان يتعطر ويحلق ذقنه ورأسه ويكوي زيه.
تهدأ القاعة، ثم يجلس أبي وسطنا فيندفع الفرح إلى وجوهنا. نتبادل الكلام عن كل شيء، فذلك هو تجمعنا الأسري الوحيد طيلة العام. أحيانًا كنا نشكل حلقة حول أبي وأمي ونعطيهم أظهرنا لنداري عليهما فينخرطا في حضن وكلمتين سريتين. بعض الأسر الأخرى كان الأولاد يدارون على آبائهم بسجادة صلاة، كأنها ستارة صغيرة، لينخرط الأب والأم في قبلة طويلة، هي كل ما يحصلان عليه عنوة من الزمن. في منتصف الزيارة كان أبي يوزع علينا هدايا صنعها من قطع الصابون أو خرزات اشتراها من زملائه الجنائيين، وبعض الشوكولاتة، كما كان يفعل قديمًا.
في صغرنا كان أبي قبل العيد بيوم أو اثنين يشتري كيسًا كبيرًا من الشوكولاتة بأنواع مختلفة. عندما يدخل بذلك الكيس نعرف أن "العيد جه" وندخل في مود الفرحة. كنا نأكل الشوكولاتة لفترة طويلة بعد العيد، نبدأ بالأنواع الأقل حبًا ونؤخر الألذ للنهاية.
انفرط الزمن من أيدينا بسبب سجن أبي، الذي ألقي القبض عليه وأنا في سنتي الجامعية الثانية، وها أنا أقارب عامي الثلاثين، وأختي كذلك تخرجت وتزوجت وأنجبت طفلة صار عمرها سنتين، وأخي الأصغر كان طفلًا لم يجاوز الابتدائية، واليوم يسلك طريقه في كلية الطب البشري. ولم يبق من كيس الشوكولاتة القديم غير ذكرى جميلة وسؤال مرير: متى نعود إلى حياتنا العادية؟