السجن حرمان حسي، استيلاء شديد الوطأة والثقل على الحواس والإدراك، سيطرة على الجسد وحصار للذاكرة، إغلاق تدريجى لمستقبلات الروح، ملء شبه كامل لمساحات الوعي وتحجيم ممنهج لآفاق الرؤية؛ السجن.. أي سجن، إما قيد أو قضبان.
حركاتك سارية يمكن إدراكها لكنها ناقصة، ناقصة بقدر التفاف القيد وإحاطته وجودك وملاصقته الحادة لجسدك، حركاتك في المكان هى هدفه وغايته الكبرى.
القيد مراوغ بارع مثل المُقيد، دائري، ملتف، محكم، أريب، قصير النفس وحاد الطباع يحمل نزق المراهق ورعونة المتفلت، مجبول على الصخب والتحدي يحد الحركة ولا يلغيها فيؤجج الرغبة ويستفز صاحبه للنزال، حاض على التمرد ومحرض على المقاومة.
القيد متحرك ومبدع، يتحرك ليوقف الحركة تدريجيًا ويخلق السكون والكمون. فالجهد المبذول لصناعة الحركة لا يزيد عن الجهد المبذول لإيقافها. خلق السكون لا يقل عن خلق الحركة، والقيد هو الإجابة النموذجية على السؤال الوجودي: كيف يسكن المتحرِّك وسر الوجود هو الحركة؟
القيد حليف المكان وعميل للجغرافيا. لكل منا قيده الخاص، حتى لو بدت القيود عدوة للخصوصية لكنها شديدة الملائمة لصاحبها، تحور شكلها وتعدل تصميمها فقط لكى تخضعه لإرادتها في تأطير المكان. القيود متحركة، ظاهريًا، متعددة الأشكال والأوجه وإن كان جوهرها السكون.
غياب الحركة واستمرار الوقت يجبر المقيد على أن يلاحظ، أن يرصد الحركة والزمن من حوله وكأنه سقوط حر متسارع من وضع الثبات أو سباحة حرة في الفضاء حيث لا جاذبية.. و لامكان.
القيد مرحلة تمهيدية ما بين الحركة والثبات، أو مرحلة انتقالية ما بين الحرية والسجن.
تصوف القضبان
تشير القضبان إلى كل ناظر، تتوالى في تتابع صارم، تتباعد أولًا وما تلبث أن تتقارب غير أنها لا تتقابل أبدًا، متوازية ومتوالية في آن معًا، تؤكد بتواليها حضورها ولا محدوديتها. لا تتجلى إلا إذا نظرت إليها فتتجسد على حسب رؤيتك. تعلمت ذراتها كيف تهيم في الملكوت وتتماهى مع العدم.. مع المطلق، ولهذا قصة، ثم تتحد في لمح البصر لتتشكل واقفة ثابتة وراسخة وأزلية ربما من قبل الخليقة.
القضبان غير مبالية، بعكس القيود المتحفزة. فهى مكتفية بذاتها متعالية على ما دونها، شديدة البساطة والتجريد. مجرد أسياخ متوازية من الحديد الصُلب، لم يتغير شكلها ولا وظيفتها، ولا تتأثر بمن خلفها ومن تضمهم وتحتويهم وتدهسهم بقوتها مهما كانت قوتهم ورغبتهم في تجاوزها.
ولا مهرب من البقاء، فهي لا تكون إلا إذا منعت وحددت. وجودها ماهيتها: قضبان حديدية تمنع وتحدد، وهبتْ نفسها للبقاء، مرتَّبة في مقابل الفوضى، متراصة بدقة شديدة فهى المنظومة والنظام، يقينية في مواجهة الضياع، زاهدة في كل شيء، مفارقة لكل شيء.
تفقد القدرة على إدراك ذاتك في الزمان والمكان.. في التاريخ والجغرافيا ويختفي الحد الفاصل بين الحقيقة والضلالات، وعندها فقط يستوى الوجود والعدم، فتبتسم القضبان في رضا العارف بالمآلات والمصائر
جاء في الأثر أن قضبان السجن المجردة كانت عصيَّة، رفضت وأبت، قبل أن تحمل الأمانة، ثم أنكرت ثم غضبت وتفتتت ثم تجمعت ثم انهارت ثم قاومت وثبتت. وهنا جاءت العلامات ولاح إشراق المعرفة الكلية، أدركت أخيرًا حقيقتها ودورها، تضرعت للمطلق كما تبدى لها.. للعدم. ناجته وأسر إليها، وهامت في الملكوت حتى حانت لحظة الكشف الكبرى وحل العدم فيها للأبد وصارا روحًا وجسدًا واحدًا.
القضبان هي التجسد المادي والنهائي للعدم. أقسمتْ منذ لحظة الكشف الأولى على أن تفرض العدم/الموت قبل أوانه وأن تملأ به الوجود. وإذا كانت القيود تنقل من الحرية إلى السجن فإن القضبان تنقل من الوجود إلى العدم. وإذا كانت القيود عميلة الجغرافيا/المكان فإن القضبان عميلة التاريخ/الزمان.
خارج القضبان الفراغ المحيط شاسع إلى حد صعوبة تيقنك من حضور كيانك في المكان والزمان. القضبان هي الحماية من ذلك التيه خارجها، فهي تؤطر الزمان وتحده، تروضه بصمت وقوة وتخضعه لإرادتها الفولاذية فلا يملك غير الاستجابة.. تطويه طيًا كالثقوب الدودية في الفضاء.
من دون حاجة إلى عقارب الساعة يمضى الوقت غير محسوب، وما أن يفقد الوقت نقاط تحديده حتى لا يعد خطًا مستمرًا، بل يصبح شيئًا يشبه السائل يتمدد وينكمش كيف يشاء. فلا فارق بين أن تمضي دقيقة أو ساعة أو سنة.
ونتيجة لذلك التشويه القسري للزمن فإن عقلك نفسه يتجلى بكل تكثيف ممكن.. بكل قوة ونفاذ وحضور قوي ومكتمل وكأنه يتمدد ليشغل المساحة كلها فيتبعثر ولا يحتمل هذه الجرعة الكبيرة من الزمن المكثف. تفقد القدرة على إدراك ذاتك في الزمان والمكان.. في التاريخ والجغرافيا ويختفي الحد الفاصل بين الحقيقة والضلالات، وعندها فقط يستوى الوجود والعدم، فتبتسم القضبان في رضا العارف بالمآلات والمصائر.
تحاول أن تتجول بعقلك عبر الأضداد مثل شبح هائم، تلجأ إلى الخيال والذاكرة لعلك تجد إجابات أو حتى ملاذ آمن لتعيد اكتشاف مساحات وأشياء ضائعة. لا تتجاوب معك القضبان فهي خبيرة بخفايا النفوس ونقاط ضعفها كما هي خبيرة بسريان الحوادث؛ تلجأ إلى الذاكرة؟ لا تبالي فهي تعلم أن الذاكرة خداعة ومزاجية وشديدة الانتقائية، كما أنها وحدها تعلم.
قانون الذاكرة الذى يجعلها تستدعي حوادث معينة في أوقات محددة؛ تلجأ إلى الخيال؟ لن تبالي أيضًا، فهي تعلم محدودية الخيال البشري في مواجهتها، وتعلم أن سكونك القسري خلفها يجبرك على أن تنظر فقط إلى الماضي؛ فيم كان؟
ولن يخبرك أبدًا عما سيكون، وبهذا لا ترى ولا تدرك سوى القضبان، وهى المنتهى.