ربما يعلم المهتمون بالتاريخ أن الحرب العالمية الأولى، التي راح ضحيتها الملايين من الأرواح والمئات من المدن والقرى، وانهارت بسببها 4 إمبراطوريات، إنما اندلعت شرارتها الأولى حين اغتال شاب بوسني يبلغ من العمر 19 سنة ولي عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية أثناء زيارته لمدينة سراييفو، التي كانت تابعة حينئذ لصربيا.
وربما يعلمون أيضًا أن الحرب العالمية الثانية، التي فاقت سابقتها في الخسائر والدمار والخراب أضعافًا مضاعفة ثم انتهت بقنبلتين نوويتين، إنما اندلعت بسبب اضطرابات شخصية هتلر وانحرافاته، التي كانت كالبنزين الذي أشعله شعور الخزي والهزيمة المُذلّة لألمانيا التي انتهت بها الحرب العظمى (العالمية الأولى).
كانت الدوافع الانتقامية المغذّاة بالشعور الوطني الجارف، الذي كان جريحًا ثم صار جارحًا، هي التي قادت إلى الفعل العنيف، الذي لا يمكن توقع مداه قبل أن يحدث.
وإذا درسنا شخصية مضطربة ومريضة مثل شكري مصطفى، مؤسس جماعة "المسلمين"، التي سمّتها السلطات المصرية بالاسم الإعلامي الشهير "التكفير والهجرة"، فإلى أي شيء يجدر بنا أن نعزو اضطراباته؛ إلى أفكاره السقيمة، أم صحته النفسية والعقلية العليلة؟
وإذا أتيحت معلومات كافية وصادقة عن قيادات إرهابية معاصرة، مثل شادي المنيعي وكمال علام، وطرح الأمر على المتخصصين، فهل ستكون المشكلة في عباءة الأفكار؟ أم في الدوافع السيكولوجية الكامنة وراء هذا الغطاء التبريري؟!
قصة الانتحار المقدس.. الجبان!
حكت لي أستاذة جامعية، كانت تؤدي دورًا أموميًا وتربويًا مع طلابها النظاميين وتلاميذها غير النظاميين، بما يتجاوز ما هو مطلوب منها وظيفيًا، أن أحد "أبنائها" من المتعاطفين مع الإسلاميين جاء إليها في حالة يرثى لها بعد فض اعتصام ميدان رابعة في 2013. كان يعاني من اكتئاب حاد ذي نزعة انتحارية، وصارحها بذلك.
بذلت الأم-تاذة، كما ألقبّها، مع "ابنها" ما جادت به أمومتها. واسَتْه، وطيّبت خاطره، وقالت له ما اجتهدت أن يصرفه عن الهاجس الانتحاري. ذهب صامتًا، ثم عاد إليها بعد أسابيع عدّة. أراد أن يودّعها قبل أن يرحل إلى "الجهاد" في سوريا.
قالت له: اترك الجهاد في حاله! أنت لم تقوَ على الانتحار بيدك هنا في بلدك، فأردت أن تنتحر شهيدًا بيد غيرك!
إنها، إذن، اللعبة النفسية والدوافع السيكولوجية، في المقام الأول، التي تجعل الإنسان يقرر انتهاج العنف، ثم يبحث، لاحقًا عن غطاء تبريري يسوّغ له ما قرره سلفًا مدفوعًا، غالبًا، بالرغبة في الانتقام.
تذكرت هذه الواقعة حين تم نقلي، في ظروف مرتبكة، إلى غرفة السجناء والمحبوسين احتياطيًا من السياسيين الذين جمعهم برنامج للمراجعات الفكرية يقيمه قطاع الأمن الوطني بوزارة الداخلية. كنت قضيت نحو 78 شهرًا مع الجنائيين، ولم أكن أقيس نفسي ومعاناتي على أحد منهم، ولا أقيسهم على نفسي. وعقدت العزم على زيارة طبيب نفسي فور خروجي من السجن، أيًا كان التوقيت. وقررت أني في حاجة، على الأقل، إلى التقييم ليقرر الطبيب ما إذا كنت محتاجًا إلى علاج وتأهيل، أم مجرد دعم ومشورة لا تتطلب زيارات منتظمة لعيادته.
حين انتقلت إلى غرفة برنامج المراجعات، الذي لم يشملني بالطبع، كانت المرة الأولى التي أخالط فيها سجناء سياسيين. قليل منهم اتجه إلى العنف فعلًا، أو كاد أن يفعل، وكثيرون أرادوا بالمشاركة إعلان تبرؤهم من كل التنظيمات الإسلامية، الجهادية والسياسية سواءً بسواء.
كانوا عينة مخففة من السجناء "السياسيين"، وهو تصنيف أمني عريض يشمل "الإرهابيين" أيضًا، وإن كان لهم تسكين خاص ومعاملة مختلفة. ومعهم أدركت أن احتياجي للتقييم النفسي لا يقارن باحتياجهم الملحّ والضروري والعاجل.
اسألوا الشيخ أسامة الأزهري!
في برامج المراجعات بالسجون، كان المحاضر الرئيسي فيها هو الشيخ أسامة الأزهري، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية. لا أعلم كثيرًا عما تم تنفيذه في السجون الأخرى، لكن ما جرى في سجن مزرعة طرة بين 2021 و2022 أعرفه جيدًا، بعد أن سمعته بنفسي من المشاركين في البرنامج الأخير.
حضر الأزهري، وحاضر أربع مرات. كان في المرة الأولى متحفزًا ومتجهزًا لمجادلة من أخبروه أنهم من أساطين الجهاديين والتكفيريين. في المرة الثانية زال التوتر وشاعت الأريحية، كما أخبرهم هو بنفسه، إذْ لم يجد معارضة ولا مجادلة ولا محاججة، بل تسابق من طلب التحدث من أعضاء البرنامج في إثبات تبرؤه من المغضوب عليهم من الدولة والضالين عن طريق الأزهر المستقيم.
قرأت في أوراق تركها بعض من جرى ترحيلهم فجأة من أعضاء البرنامج، بسبب مشاكل ليست ذات صلة بالبرنامج نفسه، كلامًا إنشائيًا يمجد الدولة المصرية ويهجو الإخوان بأوصاف يستحقونها واتهامات أخرى لا يستحقونها. وكانت هذه الأوراق تحضيرًا لما ألقاه في أحد لقاءات الأزهري. وعايشت من تبقى من أعضاء البرنامج في مزرعة طرة، ثم انتقلت معهم إلى سجن بدر (1)، حيث قضيت الشهرين الأخيرين من فترة سجني.
رأيت أشخاصًا في حاجة إلى التأهيل النفسي المتفاوت في درجة خطورته، وسمعت منهم تهكمًا على توقع الأزهري أن يسمع من أيٍّ منهم كلامًا يخالف ما يريد أن يلقّنه إياهم. كلهم اختيروا من قبل ضباط الأمن الوطني، وتم فرزهم جيدًا، ومتابعتهم عن طريق عيونهم وآذانهم من "المتعاونين"، ولم يوضع اسم واحد في هذه المجموعة إلا بعد اجتيازه مقابلات عدّة.
الأهم من ذلك، أن اللقاءات كانت مسجلة بالصوت والصورة، وأنهم كانوا في حالة من الخضوع التام، حتى لو لم يقتنعوا بكلام الأزهري بحذافيره. فلا يهمهم سوى الخروج الآمن من التدوير، أو الملاحقة. لكنهم على مستوىً آخر، لا يمكن أن يكونوا نماذج ناجحة لسجناء خرجوا من "مراكز الإصلاح والتأهيل"، بل سيخرجون في مسيس الحاجة إلى إعادة التأهيل الكثيف.
ألا يفكر القائمون على أمر السلطة في مصر أن الإصدار السابق من داعش مجرد "بروفا" للمستقبل؟
الكوارث المتوقعة
لم يخلُ تاريخ مصر المعاصر من أعداد غفيرة من المعتقلين أو السجناء السياسيين. لكن الجديد في الوقت الراهن هو العدد غير المسبوق من السجينات الإناث. فإذا كان المجتمع المصري، في عمومه، ذكوريًا، فإن الإسلاميين منه، خصوصًا، أشد ذكورية. واعتقال النساء، في عرفهم، عدوان على الشرف وإهانة لرجولتهم.
ستخرج السجينات حريصات، في مجملهن، على ألا يعُدْن إلى السجن مرة ثانية. لن يشاركن في فعالية، ولن يكتبن على السوشيال ميديا. لكن من يضمن كيف سيربّين أبناءهن؟ أو كيف سيعبّئن إخوتهن الذكور؟
من يضمن الأجيال الناشئة من أهالي السجناء والمحبوسين احتياطيًا الذين طال غيابهم عن ذويهم؟
هؤلاء الأطفال الذين عاشوا كالأيتام وذاقوا مرارة الفراق القسري، من يتنبّأ بسلوكياتهم حين يكبرون؟ ومن يعالج الحشد والتعبئة بخطاب ذكوري يدفعهم إلى الأخذ بثأرهم والذود عن شرفهم بأي وسيلة، ما يشمل الخطاب الديني؟
ألا يفكر القائمون على أمر السلطة في مصر أن الإصدار السابق من داعش مجرد "بروفا" للمستقبل إذا استمرت الحال كما هي عليه الآن؟
إن من ينزع إلى الانتقام لن يتوقف كثيرًا أمام صحة الأفكار التي يحملها أو تهافتها. فلو لم يجد ضالته في الفكر الجهادي المتطرف، سيسوّغ لنفسه الطريق بفكر قومي متعصب، أو بفكر وطني فاشي، أو بأيديولوجيا يسارية راديكالية. لن تختلف الحال كثيرًا، المهم أنه قرر الزحف في طريق الانتقام، وسيتفنّن في تنفيذه.
لا أقلل من أهمية الفكر
ربما لا يعلم أحد أني عاونت أحد الجهاديين السابقين، ممن طال سجنهم منذ 2005 حتى الآن، في تحرير بحثه الذي أعده خلال سنوات طويلة بغرض الرد على الجهاديين والتكفيريين من داخل أدبياتهم، باقتباسات من ابن تيمية وابن القيم، وغيرهما من أئمة التراث. وأخبرته صراحة أني لو لم أجد جهده يستحق عناء التدقيق في التحرير لاكتفيت بقراءة مسودته وإخباره بتعليقاتي شفهيًا.
لكني بذلت معه ما هو أبعد من ذلك. قضيت معه أسابيع في تحرير مسودة كتابه، بل نسختها له بخط يدي، مقترحًا عليه تعديلات و تدقيقات منهجية وأسلوبية، كي يخرج في صيغة بحث علمي رصين، تمهيدًا لتحكيمه ونشره بعلم الجهات الأمنية، سواء وُضع اسمي عليه كمحرر أو مراجع أم لم يحدث.
لم أكن سأعلن هذا الأمر، لولا أن المسودة، للأسف الشديد، ضاعت في النقل من مزرعة طرة إلى بدر. ولم يكن لها نسخة أخرى. وأقول ذلك لأوضّح أني، بالرغم من اختلافي الفكري العميق مع ذلك الصديق، الجهادي سابقًا والسلفي فقط حاليًا، إلا أنني لم أتردد في إعانته على ما أرجو أن يكون فيه الخير العام. وإن أرهقني في مجادلاته التي لم تتحرر من محاولات تصنيفي تصنيفًا تعسفيًا، حتى اطمأن تمامًا أني لا أتناول الإسلاميات بسطحية، وأني لست جاهلًا بالأصول وأمهات المسائل، ومواطن الرجوع فيها إلى مصادرها.
أبوح بذلك لأبيّن أني أبعد ما أكون عن التقليل من أهمية الفكر أو المراجعات الفكرية. لكني أجادل بأن التأهيل النفسي أهم ألف مرة من المعالجات الفكرية.
وأزيد من البوح سطرًا.. أني أعلم عددًا من الأطباء النفسيين المرموقين المستعدين لتقديم يد العون، ولو تطوعًا، لتأهيل الخارجين حديثًا من السجون نفسيًا. بل إن بعضهم على استعداد أن يقيم برامج التأهيل النفسي داخل السجون، إذا توفرت الإرادة السياسية والسيادية!
شرط هؤلاء الخبراء أن تُحترم مواثيق الشرف المهني الطبي، فلا يسألون عن خصوصيات مرضاهم، ولا يُعاملون كمصادر للجهات الأمنية. وهم في الوقت ذاته ملتزمون بما ينص عليه قانون رعاية المريض النفسي في مصر؛ فيجب عليهم الإبلاغ عن حالات العزم على الانتحار أو إيذاء الآخرين، أو الاعتداء الجنسي على القُصّر. أما غير ذلك، فهو حرم مصون بالقانون المحلي والدولي، ومواثيق الشرف الأخلاقية.
فإذا كان الجهاز الأمني يتخوف من تحوّل التأهيل النفسي للسجناء إلى آلية للرصد وتوثيق حالات الانتهاكات، وما يترتب عليها من إجراءات قانونية أو ضغط إعلامي حقوقي وسياسي، فإن مِن أساتذة الطب النفسي وخبرائه في مصر مَن يدركون هذه الحساسية جيدًا، ومستعدون لفصل عملهم الفني/ المهني عن أي سياق آخر، بدافع حب هذا البلد والخوف على مستقبل أولادنا.
إن الجروح النفسية والتشوهات التي أحدثتها تجربة السجن، خصوصًا لدى الذين عانوا في التحقيقات، لَهي بمثابة قنبلة اجتماعية وإنسانية موقوتة تهدد سلامة المجتمع وأمنه، وتعصف بما ينبغي أن يُعاد النظر في تعريفه؛ "الأمن القومي المصري"!