منشور
السبت 21 يناير 2023
- آخر تحديث
الأربعاء 25 يناير 2023
تنوعت الكتابات التي تتماس مع عالم رسم ملامحه المناضل الكبير المهندس كمال خليل، في مذكراته التي منحها عنوان "حكايات من زمن فات.. سيرة ذاتية من خلال الأحداث"، ففي تاريخ الحركة الطلابية كتب أحمد عبد الله رزة أطروحة للدكتوراة، وكتبت سهام صبري مذكرات قصيرة، وعن التجربة مع اليسار كتب عبد الخالق فاروق مذكراته، ولم ينشرها بعد، وكتبت أروى صالح كتابها المختلف "المبتسرون".
أما تجربة السجن فحدث ولا حرج؛ لقد ألهمت كثيرًا من الأدباء العرب، فكتب عبد الرحمن منيف طويلًا عنها خاصة "الآن .. وهنا، شرق المتوسط مرة أخرى"، ويوسف إدريس "العسكري الأسود" وصنع الله إبراهيم "يوميات الواحات" ونجيب محفوظ "الكرنك" والعراقي يوسف الصائغ "السرداب رقم 2"، ونجيب الكيلاني "ليل وقضبان" والسوداني علي حمد إبراهيم "عشرون دستة من الرجال" وهناك كتابات مغايرة مثل ما كتبه طاهر عبد الحكيم في "أقدام عارية"، وسمير عبد الباقي في "أيام الزنازين" وحسين عبد القادر "مذكرات معتقل من جوانتانامو".
وهذا موضوع قديم في تاريخ المجتمعات العربية لدرجة أن باحثًا هو واضح الصمد، كتب كتابًا بعنوان "السجون وأثرها في الآداب العربية من العصر الجاهلي حتى نهاية العصر الأموي"، والدراسات حول هذه الظاهرة عديدة وعميقة.
على كل هذه الأوتار يعزف كمال خليل، مؤذن الثورة، في مذكراته الصادرة عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع- طبعة أولى 2012، والتي جاءت على شاكلته؛ عفوية تلقائية متدفقة مبتهجة حزينة، لكنها عميقة وثرية بالمواقف والمعلومات والرؤى، ويختلط فيها ما يضحك بما يبكي، والبكاء ليس عن ضعف إنما نبل وتسام وتعاطف مع الغلابة، والضحك ليس عن هزل إنما سخرية من السجان والسلطان الغاشم.
وكل هذا تمت صياغته على هيئة حكايات متتابعة، يقطعها تحليل ووصف غير ممل، وبلغة بسيطة، تمتزج فيها الفصحى بالعامية، وتتابع في ثناياها شخصيات نابتة من قلب الحياة المفعمة بالأتراح والأفراح.
على الغلاف كتب الروائي الأستاذ إبراهيم عبد المجيد عن هذا العمل المختلف يقول "أماكن وبشر وسجون. شوارع وبيوت. مفكرون وكتاب. طلاب وعمال. حكومات وقمع. مصر عبر أكثر من ربع قرن، مصر التي لم تنم، وكان من أنبل حراسها كمال خليل، الذي لا يزال يحمل الروح نفسها، التي لن تهدأ حتى يتحرر الوطن. أنت هنا في قلب التجربة السياسية للأمة كلها، تجعل مصر العظيمة تتجسد بين يديك. إنها حكايات من زمن فات، لكنها وثيقة الصلة بما يجري حولنا الآن. ثورة عظيمة كانت حلمًا لكمال، ولكل من أحب هذا الوطن".
أما في التمهيد فقال المؤلف "أكتب عن موطني الأصلي، عن حي الدقي القديم (داير الناحية) عن حارة سيدي الأربعين. أكتب عن شلوقة، وأحمد غريب، وبحبح، وشاكر، وسمير، ومحروس بدر وغيرهم. وأتحدث عن الدكتور محمد أنيس أستاذ التاريخ، ذلك القمر الذي غاب عن عالمنا، ذلك الرجل الذي علمنا السياسة بأجمل صورها، وأرقى معانيها. أكتب عن نسيج شعبي متكامل، وتجربة عمل سياسي استمرت بين أعوام 1969 و1980. تجربة بين الحي والجامعة. بين الوعي والممارسة. بين السياسة والتنظيم. تعالوا نشوف ما حدث لأولاد الحارة".
بين هذه التواريخ التي يتخذها كمال خليل محطات أساسية لمذكراته، يبرز عمق التجربة الإنسانية
لكن ما ورد على الغلاف أو في التمهيد لا يقول كل شيء، ولن تقوله أي كتابة عن ذلك العمل البديع، الذي خط كمال خليل سطوره بحبر القلب، بدمه ودموعه، بلحظات الأمل العريض واليأس العابر، وبنفس راضية، لم يسع صاحبها أبدًا إلى ما في يد غيره، ولم يتكالب على شيء، منصب أو جاه أو مال، ولم يقايض على حب وطنه، ولم يأت على ذهنه في أي لحظة أن يخون مبادئه، أو يتنكر لأحلامه الغضة، أو يتخلى عن رفاق الحارة ومقاعد الدرس، وعن العمال المكدودين، والأجراء الكادحين، والطلاب الثائرين، والمثقفين المستنيرين الملتحمين بالناس، وكل من يقبض على الجمر، ماضيا في طريقه شامخا من أجل أن يرى وطنا أعلى وأروع.
يبدأ كمال خليل سيرته الذاتية المضفرة بالأحداث بواقعة موت أبيه في عام 1969، ثم يعود قليلًا إلى الوراء ليسرد لنا مظاهرات 1968 التي كانت تطالب بالحرب والحرية، ونعيش معه أحداث 15 مايو/ آيار 1971، التي سماها السادات "ثورة التصحيح"، ثم تجربة اعتصام طلاب جامعة القاهرة وسجنهم في عام 1972، الذي ولدت فيه أسطورة "الكعكة الحجرية" مع أشعار أمل دنقل وأحمد فؤاد نجم، وواقعة طرد الخبراء السوفيت، واعتصام يناير/ كانون الثاني 1973 الذي واكب انطلاق مظاهرات بالشوارع، أدت إلى إغلاق الجامعة، ثم إضراب كلية الهندسة ومظاهرات فبراير من العام نفسه، وما ترتب عليها من اعتقال بعض الطلاب وسجنهم بسجن القناطر، وبعده سجن القلعة، وبعده انتصار أكتوبر المصحوب بالتفاؤل والأهازيج.
ويعرض خليل حال المنظمات الماركسية في الجامعة، وتجربته في العمل السري بما تنطوي عليه من مغامرات شُجاعة، وتجارب التثقيف السياسي مع منظمة الشباب، والتنظيم الطليعي، وانتفاضة الخبر في يناير 1977، لتنتهي بزيارة السادات للقدس، ومشهده الختامي وهو ملقى تحت أرجل الهاربين بعد إطلاق الرصاص عليه يوم السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1981 في حفل ذكري نصر أكتوبر المجيد.
وبين كل ذلك نعرف كيف كان بسطاء الناس في الشوارع الخلفية يتفاعلون مع الأحداث السياسية الكبرى والصغرى معًا؟ وما الذي كان يجري على ألسنتهم؟ وكيف كانوا يتصرفون في لحظات الانكسار؟ وكيف كانوا يدبرون أحوالهم بينما العسس يمضي بينهم يعد عليهم حركاتهم وسكناتهم؟ وكيف غلبوا القهر حين أخذ أولادهم إلى غياهب السجون؟ وكيف قاوموا بالحيلة تارة والمواجهة تارة أخرى؟
في كل المحطات لم يكن كمال خليل سوى ما أراده لنفسه، لم يبع، ولم ينكسر، ولم يخن
بين هذه التواريخ التي يتخذها كمال خليل محطات أساسية لمذكراته، يبرز عمق التجربة الإنسانية، ويتحرك أناس من لحم ودم في ثنايا السطور، فتتوارى السياسة في الخلفية كثيرًا لحساب المشاعر والحكايا في الحواري والشوارع والزنازين، وتتوالى الاقتباسات من أشعار نجم وزين العابدين فؤاد، وتختلط بالهتافات التي كان كمال، ولا يزال، بارعًا في تأليفها وترديدها بحب، وكأنه قائد أوركسترا متمكن، وكذلك بالشعارات المحفورة بالأظافر والمكتوبة بالدم والبوية والبنجر على حوائط السجون.
ولأن حبوسات كمال خليل توالت على مدار أربعين سنة تقريبًا، فقد كان ما يجري في السجون له نصيب كبير من هذه المذكرات، فنعرف كيف عاش الطلاب في الزنازين لحظات زهو وانكسار، وكيف تحملوا تعذيب الأرواح والأجسام، وكيف تحايلوا على الساعات العصيبة وروضوها كي تمر ورؤوسهم مرفوعة، وظهورهم منتصبة في نبل كالنخيل، وكيف تعاملوا مع السجناء الجنائيين الذي يحملون على أكتافهم أوزار جرائم مختلفة في بشاعتها.
ويحكي لنا خليل لحظة البداية حين كان يجلس وديعًا في قاعة الدرس بكلية الهندسة جامعة القاهرة، واقتحم الهتاف أذنه "يسقط يسقط كل جبان"، فنهض من مكانه، ولم يردعه تحذير أستاذه من الانضمام للمتظاهرين، وجرى إليهم، فكان بينهم ومنهم، ثم لم يلبث أن صار من الذين يُحملون على الأكتاف وسط الحشود الغاضبة، لينطلق لسانه بهتافات قوية الجرس، عميقة المعنى، صارت جزا أصيلا من تاريخ الاحتجاج في زماننا.
في كل المحطات لم يكن كمال خليل سوى ما أراده لنفسه، لم يبع، ولم ينكسر، ولم يخن، ورآه جيلنا أيام حركة كفاية يقف أمامنا على سلالم نقابة الصحفيين أو أمام ضريح سعد زغلول أو حول ميدان التحرير، ينهل من مخزون لا ينضب، ويهتف بكلام موزون، ونحن نردد خلفه "عللي أسوار السجن وعللي .. بكرة الثورة تشيل ما تخلي"، حتى انفجر الناس غاضبين وملأوا ميدان التحرير الذي سبق أن هتف له خليل قبل ثلاثين سنة "الله الله يا جماهير .. وردك فتح في التحرير".
قبل أيام هاتفت كمال خليل أحدثه عما جرى لي وأنا أقرأ مذكراته، وكيف كانت تأخذني من حال إلى حال، وهو يحكي فيوفي الحكاية حقها، ويضحك فنعرف طرفًا من خفة ظلة، ويبكي فتنهمر الدموع منا. طلبت منه أن يكمل مسيرته، فنعرف ما جرى له ولنا من 1981 وحتى الآن. فكمال يحكي بلا رتوش، محاولًا في كل السطور أن يكون صاحب الحق والحقيقة، وتكتشف مع صدقه أنه حكاء بارع، وتؤمن أن حياته لم تكن مجرد مسيرة شخص، إنما هي فصل من تاريخ مصر المديد.