في شهر نوفمبر/تشرين الثاني قبل عشر سنوات، غادر المستشار محمد سعيد العشماوي دنيانا، تاركًا العديد من الكتب التي تندرج ضمن محاولات تجديد الرؤية الإسلامية ونقد جوانبها المتطرفة، لا سيما ما يتعلق بترتيب المجال العام على أسس معاصرة، والانتصار للحريات الفردية، ونقد مشروع "الإسلام السياسي" في قضاياه الأساسية مثل الخلافة والحاكمية وتطبيق الشريعة.
والعشماوي (1932 ـ 2013) قاضٍ مصري كبير أمعن النظر في فكر الجماعات والتنظيمات المتطرفة، وتابع ما تفعله، وانفعل به، فأصدر 23 كتابًا، بعضها عنها، وأخرى في مجالات متعددة، لكن يبقى كتابه "الإسلام السياسي" أهم ما أنتجه في نقد تلك الجماعات، خاصة وأنه انطوى على انعكاس ما ورد في بقية كتبه، التي انتقدت التطرف الإسلامي بوعي واقتدار.
في الحقيقة، قليلة هي الكتب التي رسمت معالم نقد الجماعات والتنظيمات السياسية التي توظِّف الإسلام في تحصيل السلطة وحيازة الثروة، ومهدت الطريق لكلِّ من جاء بعدها راغبًا في مساءلة عقلية لأفكارها ومسلكها في الحياة، برفع غطاء القداسة المزعوم عن ظاهرة "الإسلام السياسي"، وطرحها أمام مشارط الفحص والدرس، بما يرمي إلى تبصير الناس بأدوارها الحقيقية، والمسافة المتسعة بينها وجوهر الإسلام، الذي يقوم على "التوحيد"، وقيمته المركزية وهي "الرحمة".
يبدأ العشماوي كتابه "الإسلام السياسي" بعبارة دالة تقول "أراد الله للإسلام أن يكون دينًا، وأراد به الناس أن يكون سياسة. والدين عام إنساني شامل. أما السياسة فهي قاصرة محدودة قبلية محلية ومؤقتة. وقصر الدين على السياسة قصر له على نطاق ضيق وإقليم خاص وجماعة معينة ووقت بذاته".
تدعو بعض فصائل الإسلام السياسي إلى عدم الولاء للوطن، وهذه دعوة عدمية فوضوية
أتصوَّر أنَّ هذه العبارة على قصرها، تضع يدنا على بيت الداء في مشروع هذه الجماعات برمته، إذ إنه يحوِّل الإسلام من عقيدة دينية إلى أيديولوجيا، ومن رسالة إلى العالم، كما ورد في النص القرآني، إلى مشروع ضيق يقتصر على دولة، أو حتى إمبراطورية، يسمِّيها الإسلام السياسي "خلافة"، عطفًا على معناها ومسلكها التاريخي، فضلًا عن تعريض الدين لمقتضيات السياسة وقوانينها وشروطها التي تتسم غالبًا بالتلاعب والمخاتلة، وتدور برمتها في فلك النسبي والمتغير والمتقلب والعابر.
مظاهر اختزال الإسلام في حزب
ويرى العشماوي، في تصوره أو مشروعه الفكري، أنَّ اختزال الإسلام في السياسة، واختصار الشريعة في التحزب، قادت إلى نتائج خطيرة، يمكن تلخيصها في عدة نقاط.
1- صار التاريخ الإسلامي تاريخًا للصراع القبلي والطائفي، وبين الفرق الدينية، وبين عرق وآخر. وأخذ ذلك الصراع صبغة دينية تدور حول الشريعة، فاضطرب الفهم الديني والعمل السياسي معًا.
2- ربْط السلطة السياسية بالسماء، جعل خلفاء المسلمين ينظرون إلى أنفسهم وكلاء لله في السلطة، ولذا يجب أن يكونوا معصومين، ما أدى إلى استبداد الحكم وفساده.
3- أثر ربط الدين بالسلطة السياسية سلبيًا في مضمون الفقه الإسلامي وشكله، إذ التف بعض الفقهاء حول الحكام باحثين عن المنفعة الذاتية، ففُتحت لهم الأبواب لتشكيل الدين وفق هوى الحكام، الذين وجدوا أنَّ من مصلحتهم مساعدة هذا الاتجاه من الفقه على حساب الاتجاهات الأخرى.
أعطى ذلك حجة للمتطرفين لصناعة فقه مضاد، بدعوى أن كل فقه أُنتج في ركاب السلطة أو حتى بالقرب منها اعتراه فساد شديد. كما جاء رد فعل بعض الفقهاء في اتجاه مضاد فانصرفوا عن كل ما يتعلق بالسلطة، وبذا أعرضوا عن فقه القانون العام. وأسرفوا في شرح توافه الأمور وقشور المباحث مثل موضوعات الحيض والنفاث ونواقض الوضوء ورمي الجمرات وما شابه.
ولهذه الأسباب، يخلو الفقه الإسلامي من "نظرية سياسية إسلامية"، تبين المسافة بين "الدعوة" و"الدولة"، وتضع الأطر العامة أو القيم الأساسية التي تحكم علاقة السلطة بالناس، ونظرة الناس أنفسهم إليها، ومطالبهم منها.
4- أدت مظالم السياسة، التي تم تبريرها بالدين وتسويغها بالشريعة وسوندت بالفتاوى، في كثير من الأحيان، إلى انسحاب المسلمين من العمل العام، وإضعاف تضامنهم مع الآخرين.
تدعي هذه الجماعات أن النهضة المبتغاة لن تُستعاد إلا بتبني مشروع "الإسلام السياسي"
5- تسبب وجود جماعات وتنظيمات سياسية تتخذ من الإسلام أيديولوجية، في إضعاف المسارين الروحي والأخلاقي لهذا الدين، اللذين أعطاهما القرآن الكريم وزنًا أكبر بكثير من مسائل الحكم والإدارة.
6- تستغل الجماعات المتطرفة مسألتين لتبثَّ من خلالهما مشروعها، الأولى هي الحاجة البديهية لأيِّ مجتمع إلى حكومة أو إدارة، فيكون لأتباع هذه الجماعات فرصة للحديث عما يسمونها "الحكومة الإسلامية"، ثم يضيقون في تعريفها وتحديد شروطها لتلازم تصورهم، ثم يقدمونها لعموم الناس على اعتبار أن هذه هي الحكومة التي أقرها الشرع، ويرضى عنها الله تعالى.
أما الثانية فسعي المسلمين إلى النهضة، أو استعادة القوة التي كانوا عليها، وهو أمر مفهوم ومطلوب، بل وحق. وتعزف الجماعات السياسية المتطرفة على وتر هذا النزوع النفسي والعقلي للمسلمين، وتدعي أن تلك النهضة المبتغاة لا يمكن أن تُستعاد وتستمر إلا بتبني مشروع "الإسلام السياسي"، والتسليم به، وترك القيادة له.
7- تدعو بعض فصائل تيار الإسلام السياسي إلى عدم الولاء للوطن، بزعم أن هذا الولاء جاهلية، وأنَّ الولاء السليم هو لـ"جماعة المسلمين". وهذه دعوة عدمية فوضوية لأنها تهدم ولاء أهل كل بلد لبلدهم، فتشيع الفرقة بينهم، فلا يطيعون الحكومة حتى وإن أصلحت وعدلت، ولا يتضامنون مع المواطنين، ولا يسددون الضرائب، ولا يحترمون القانون، ولا يؤدون الخدمة العسكرية أو يمارسون الخدمة العامة.
تفكيك الإسلام السياسي
قام العشماوي على مهل بتفكيك وتفنيد مشروع "الإسلام السياسي"، عبر نقد مفاتيحه الرئيسية مثل: جعل الحاكمية لله، وضرورة تطبيق الشريعة، وإقامة الحكومة الإسلامية، والقيام بالجهاد، وبناء العلاقات مع الدول الأخرى تحت طائلة تقسيم العالم إلى فسطاطين: دار الإسلام ودار الحرب.
وفي الحاكمية يراها مصطلحًا تاريخيًا، حتى وإن كان يُقال بلفظ آخر، إذ إن العالم في تاريخه القديم والوسيط ازدحم بالحكام الذين زعموا أنهم يحكمون باسم السماء، وخُلق في ركاب هذا ما سمي "الحق الإلهي للملوك"، وتبادلت السلطة الزمنية والدينية المنافع، وتعاونتا على إبقاء الناس في قبضة هذا التحالف المستبد.
وامتد الفهم الحرفي للقرآن من قضية "الحاكمية" إلى قضية أخرى مرتبطة بجانب منها وهي "التكفير"، وهنا يرى العشماوي أنَّ لفظ الكفر في القرآن لا يعني دائما الكفر بالله، إنما التغطية والإنكار. لكنَّ الجماعات والتنظيمات المتطرفة أفرطت في استعماله لوصم كلِّ من يختلف معها ويفند أفكارها، لتُسقِط مكانته عند الناس، وتستبيح دمه، والأهم من هذا هو اغتيال أفكاره وتصوراته بتشويهها والتشكيك في صاحبها.
والحاكمية ارتبطت أيضًا بما أسمته الجماعات والتنظيمات المتطرفة بـ"الحكومة الإسلامية"، وهو تعبير يرد عندها بغير توضيح ولا تحديد، واستعمله كلُّ فرد وفق انطباعه وآماله وفهمه الخاص، لكنَّ الجميع يتفقون على أنها الحكومة التي تطبق الشريعة الإسلامية.
ينتهي الكاتب إلى أن "الإسلام السياسي" هو امتداد للخوارج
ومع أنَّ أغلب النظم العربية والإسلامية تجعل من الشريعة أو مبادئها أصلًا من أصول التشريع، بما يجعل كثيرًا من القوانين مستمدة منها، فإن هذه الحكومات في نظر المتطرفين ليست "إسلامية" بما يكفي، بل يتعاملون معها على أنها تعادي الإسلام.
وهنا يتساءل الكاتب: إذا كانت الحكومة الإسلامية هي التي تؤسس على العدل، وتنبني على الأخلاق، وتهدف إلى نشر الإيمان، حسبما يصفها أتباع الإسلام السياسي، فماذا يمكن أن يُقال عن حكومة تقوم على الأسس نفسها، وتتبع البناء ذاته، وترمي إلى الهدف عينه، لكنها لا تتبع أيًا من الجماعات والتنظيمات التي ترفع شعار "الإسلام هو الحل"؟ وماذا عن حكومات شكلها المنضوون تحت هذا الشعار وفسدت وظلمت؟
ويرى أنَّ الإسلام، الذي يحمل في جوهره قيمًا عامة بوسعها أن تواكب كل تطور، لن يجافي أبدًا الشرعية الدستورية والقانونية، بوصفها شكل الحكم العصري، ويقول "الحكومة الإسلامية الحقيقية -بعد حكم النبي (ص)- هي حكومة يختارها الناس بحرية مطلقة، ويستطيعون المشاركة فيها وفقًا لكفاياتهم وقدراتهم، ويراقبون تصرفاتها مراقبة ذات فاعلية، ويستطيعون تغييرها، إن أرادوا، دون أن تسيل دماء أو يتهمون بالكفر والإلحاد".
وفي الجهاد يبين أنه لا يعني التوسع والإغارة والهجوم على الآخرين لضم أرضهم وإخضاعهم لحكم المسلمين، إذ أن القرآن يتحدث عن "جهاد الدفع"، الذي يقر بأنَّ الحرب دفاعية وعادلة، وغير ذلك لا تكون لها علاقة برسالة الإسلام، إنما بأطماع البشر، وتوظيفهم الدين في خدمتها. وفي هذا يبرز في نظره الجهاد الأكبر الذي أقر به الإسلام، وهو جهاد النفس كي تصفو وتسمو، وامتلاء الروح بكل يقين وخير، ورقي السلوك.
ويفند الكاتب الكثير من تصورات المتشددين حول تحويل الإسلام كدين إلى "قومية"، وهي مسألة تتعارض تماما مع كونه رسالة للبشرية جمعاء، وتؤدي إلى جعله مادة للصراع السياسي والمذهبي، وهو ما تم بالفعل من خلال الجماعات المتطرفة عند السنة والشيعة معا.
وينتهي الكاتب إلى أن "الإسلام السياسي" هو امتداد للخوارج، عبر تبنيه لفكرة أن السياسة جزء من الإسلام وأنها فرض على كل مسلم، وزعمه أن جماعته هي "جماعة المسلمين" أو ما تمثل "صحيح الإسلام"، وفرضه آراءه وقراراته واتجاهاته بالقوة والعنف والاغتيال والحرب، بما يسبب ضررًا بالغًا للمشروع الحضاري الإسلامي الذي لا يمكن أن يقوم في عزلة عن العالم، ولا يستمر في ظل رفض للتفاعل الخلاق مع كل تقدم يحققه البشر.