عندما طالت حبستي وتعاقبت عليً الفصول أيقنت أن فصل الصيف هو الأسوأ على الإطلاق في تجربة السجن برمتها. لا يمكن لأحد تخيل الحر القائظ والرطوبة المرتفعة داخل زنزانة صغيرة سرائرها من الصاج الساخن وحوائطها من الأسمنت المسلح بصحبة سجين آخر أو سجينين وفتحة صغيرة للتهوية تطل على سور أسمنتي عالٍ تعلوه أبراج مراقبة يسكنها عساكر طوال اليوم، يحاولون مساعدة بعضهم البعض في ساعات الليل الطويل بالصياح "اصحي للتمام"، فيرد عليه عسكري من البرج المجاور "صاحي صاحي.. صاحي ومش هنام".
لم يكن هناك أي مصدر لهواء طلق، وبدا الأمر أشبه بالبحث عن نسمة هواء في علبة صغيرة داخل علبة أكبر. الصيف هو الاختبار الأكثر قسوة على الإطلاق، ولا يوجد أمامنا لمواجهته سوى البقاء عرايا إلا من الجزء السفلي من الملابس الداخلية والتصبب عرقا 23 ساعة في اليوم ممدين في أماكننا على بطاطين تعلوها مرتبة إسفنج، وكلها تمتص الحرارة وتزيد من الشعور بالسخونة.
لم أصمد أمام هذا الاختبار. كان كل جسمي ينفث حرارة، أشعر بسخونة عينيَّ بينما تتساقط من رموشي حبات عرق تحرق جفوني. أقفز لأقف تحت مياه الدش أملًا في ترطيب جسدي، ولكن تنزل المياه ساخنة لا تحتمل. تكرار الاستحمام دون تنشيف الجسد سبب لي حساسية جلدية وانتشر في جسدي ورقبتي "حمو النيل" وكأنني طفل صغير؛ وفقا لتشخيص طبيب الأمراض الجلدية في السجن.
بالإضافة للقدرة على النوم؛ فقدت كذلك الرغبة في الطعام. كان لدي شعور دائم بالغثيان وتدهورت حالتي الصحية وأصبحت معدتي قادرة على إفراغ ما بها من طعام أكثر من قدرتها على الاحتفاظ به. لجأت إلى مستشفى السجن فكتبوا لي أدوية غير متوفرة في صيدلية الليمان. وكان البديل هو طلب تلك الأدوية من أسرتي في الزيارة أو أن يتكرم السيد رئيس المباحث ويكلف شاويشًا أو مخبرًا بشراء الأدوية من صيدلية قريبة من السجن ويتم خصم قيمتها من مبلغ الأمانات المخصص لي.
لا شيء يمكن للسجين القيام به حين تتحول الزنزانة لما يشبه "الفرن البلدي" سوى الدعاء لله أن تنتهي شهور الصيف دون أن يموت عرقًا. نقوم بتشغيل مروحة السقف ومراوح أخرى حصلنا عليها في الزيارة، ولكنها تضخ هواءً ساخنًا يزيد الاختناق. كان أحد الابتكارات في السجن هو أن نملأ بخاخة بالمياه ونرش على أنفسنا كل عدة دقائق ثم نتعرض للهواء الصادر من المروحة، فنشعر ببعض البرودة التي تستمر لثوان معدودة حتى تجف المياه.
كنت أدعو الله في شهور السجن الأولى أن ينجيني من قضاء الصيف في الزنزانة، وذلك لأنني كنت جربت موجة حارة في منتصف شهر أبريل/ نيسان استمرت عدة أيام فقط، وتوقعت ما سيكون عليه الحال في شهور يوليو وأغسطس. لم يستجب الله لدعائي في العام 2020، ولكن تحققت المعجزة في العام التالي بعد أن كررت نفس الدعاء في بداية شهر أبريل 2021، وخرجت فعلا في 12 أبريل. وعندما بدأ فصل صيف هذا العام وأنا في بيتي، لم يكن يؤرق نومي سوى إدراكي لما يمر به زملائي في الزنازين الذين تواصلت محنة سجنهم: حسام مؤنس وهشام فؤاد وزياد العليمي وعلاء عصام رفاق عنبر 1 سياسي ليمان طرة الذين شهدوا ثلاثة مواسم صيف في السجن، 2019 و2020 و2021.
إغلاق السجن ومنع الزيارات بسبب كورونا وحرارة الطقس والمرور بتجربة وفاة شقيقتي، كل ذلك جعل من صيف العام 2020 اسوأ فترات حياتي على الإطلاق. وكان الحدث الأبرز في بداية أغسطس 2020 هو السماح بالعودة مجددًا للزيارات، ولكن بمعدل زيارة واحدة كل شهر مدتها عشرين دقيقة. في أول زيارة بعد انتهاء الإغلاق، أخبرني المسير أن والدي ينتظرني في الخارج بصحبة شقيقي إياد. كانت هذه هي المرة الأولى التي يزورني فيها والدي في السجن بسبب ظروفه الصحية وصعوبة حركته، والثانية التي أراه فيها بعد وفاة شقيقتي في مايو 2020.
قمت بكل الطقوس بأكبر سرعة ممكنة، حلقت ذقني واستحممت، وضعت معطرًا وسرحت شعري مستخدما "چيل" رخيصًا كانت توفره كافيتريا السجن. كان لدي تيشيرت قطني مكتوب عليه "احتياطي" كما تقضي لوائح السجن ورأيت سجناء يرتدونه وقت حضور جلسات التجديد. ولكن عند توجهي للزيارة مرتديا التيشيرت أوقفني ضابط الأمن الوطني ورئيس المباحث وطلبوا مني العودة للزنزانة وارتداء "السترة" ذات الأكمام الطويلة.
كنت أرى والدي جالسًا على بعد أمتار قليلة وترجيت الضباط بلا جدوى أن يتجاوزوا عن تلك الإجراءات الرسمية خاصة وأن الطقس شديد الحرارة. ركضت عائدا لزنزانتي يلاحقني الشاويش بالكلابش وهو يصيح لتقييد يدي. ولكنني لم ألق له بالًا و أسرعت باحضار السترة من داخل الزنزانة الواقعة في عنبري القريب من بوابة السجن. أصبح السجن بيتي أعرف جيدا طرقه ودروبه.
القواعد التي يفرضها ضابط الأمن المعني بالتعامل مع السجناء السياسيين تقضي بمنع أي عناق أو تحية بين السجين وزائريه الا داخل مكتبه خشية أن يقوم السجين بمحاولة تسريب أوراق أو خطابات خلسة إلى الخارج عن طريق أفراد أسرته. وجدت والدي جالسًا على كرسي خارج المكتب الذي ستتم فيه الزيارة. استسلم الشاويش مدركًا أنه لن يستطيع إدخالي مكتب الضابط قبل أن أعانق والدي أولًا وأقبل يديه. انخرطنا سويا في نوبة بكاء حارة قطعها صوت الضابط الآمر ولكن دون حزم ربما تقديرًا لسن والدي "يا جماعة السلام والأحضان جوا المكتب بس".
جلست جواره ممسكًا يده، لم يبك والدي أمامي طوال حياتي سوى في مرات نادرة جدًا، ولكن هذه المرة كانت مختلفة. كانت دموعه متدفقة، حاولت تهدئته مؤكدا أن أوضاعي على ما يرام، وأني متقبل لما أمر به وثابت على مبادئي وأفكاري كما علمني هو. وبدأت في ممازحته "مش إنت السبب في كل ده، وكنت بتجيب أصحابك الناصريين البيت تعارضوا السادات وتحفظوني أغاني الشيخ إمام وأنا عندي عشر سنين وتخلوني اغنيها لكم وتنبسطوا وتسقفوا؟ يبقى نعيط ليه بقا؟" توقف بابا عن البكاء، وبدأ في الضحك.
قلت لضابط الأمن "أيوه، احنا معارضين من زمان". رد الضابط أنه منحني استثناءً كبيرًا لسماحه بدخول إياد بصحبة أبي لكي يتكئ عليه في ضوء ظروفه الصحية، فقواعد الزيارة في ظل الوباء كانت تقضي بدخول فرد واحد فقط لكل سجين.
كان أشقائي يقولون لي دائما إن والدي يود زيارتي، ولكني كنت أصر على رفض ذلك لمعرفتي حجم المعاناة التي تمر بها أسر المساجين من ساعات انتظار طويلة وإجراءات تفتيش معقدة دائمًا ومهينة أحيانًا، وكل ذلك من أجل رؤية أحباءهم لمدة لا تتجاوز نصف ساعة.
كنت أرى المخبرين يفتشون أطفالًا لا تتجاوز أعمارهم العامين أو الثلاثة، وكانوا يقولون إنهم معذورون لأنه سبق ضبط محاولات إدخال ممنوعات للسجن، منها مخدرات وموبايلات وشرائح موبايل في بامبرز الأطفال أو في ملابسهم.
أخبرتني شقيقتي قبل وفاتها أنهم ينتظرون على مقاهٍ مقابلة لبوابة السجن لعدة ساعات بعد تسجيل أسمائهم في كشف الزيارة. تفصل تلك المقاهي عن البوابة كتل اسمنتية يضطرون للعبور فوقها قفزًا أو المرور عبر فتحة ضيقة، وهو أمر مستحيل في حالة والدي. وكان البديل أن يستقل والدي توك توك يقوم بعمل دورة كاملة حول الفاصل الاسمنتي، ثم ينزل أمام بوابة السجن بشكل استثنائي بسبب تقدم عمره والصعوبة التي يواجهها في المشي. لم أتخيل أبدا رؤية أبي مستقلًا توك توك، ولكن الشيخ البالغ من العمر 84 عامًا ركب التوك توك لكي يزورني مرة وحيدة طوال الـ19 شهرًا الذين قضيتهم في السجن.
كنا مدركين أن معاناة أسرنا في الزيارة ربما تفوق ما نتعرض له. ورغم أن الأهل يتجنبون الكلام ويكتفون بالتأكيد أن كل أوضاعهم في الخارج على ما يرام، كنا نعرف أن معاناتهم لا تبدأ يوم الزيارة، ولكن قبلها بيومين في شراء وتجهيز وجبات الطعام وما يحتاجه السجين من ملابس وأدوية. ويجب التفكير في التفاصيل بحرص ومعرفة وتخمين ما قد يمر وما قد يمنع، وما هي العلب البلاستيكية الممكن نقل الطعام فيها دون أن يتلف من التفتيش أو يفسد من الحرارة.
يزداد الأمر صعوبة للأسر القادمة من الأقاليم لزيارة أحبابهم المسجونين في القاهرة، أولئك تبدأ رحلتهم في الثالثة فجرًا وتتكلف مبالغ أكبر في الذهاب والعودة خصوصا بالأحمال. لا تتمكن كل الأسر من تغطية تكاليف الزيارات، وفي كثير من الأحيان يكون السجين هو العائل الوحيد. عواقب السجن ظلمًا كارثية على الآلاف من الأسر التي تتدهور حياتهم بسبب السجن لسنوات طويلة دون محاكمة، بل ودون معرفة تفاصيل الاتهامات الموجهة إليهم.
تزامن مع فتح باب الزيارات، استئناف جلسات التجديد في معهد أمناء الشرطة بعد عودة المحاكم للعمل. وللمرة الأولى منذ خمسة شهور رأيت أصدقائي المحامين مرة أخرى بعد أن كان يتم تجديد حبسنا إداريًا على الورق. وعرفت للمرة الأولى تأثير انتشار فيروس كورونا على حياة الناس. رأيت الجميع يرتدي الكمامة، ويمسك في يده عبوات صغيرة عرفت أنها كحول شديد التركيز يتم استخدامه لتطهير اليدين والأماكن المكشوفة كالمقاعد والطاولات. كنت سمعت عن ذلك في الراديو ولكن كانت أول مرة أشاهد ما حدث في حياة الناس في الخارج من تحول بسبب كورونا. وبدلا من أن يصافح الناس بعضهم بعضا ويتبادلون القبل والأحضان كما اعتدنا طوال حياتنا، كان السلام بهز الرؤوس ثم تمتد الأيادي لا للمصافحة، ولكن لتلقي زخات من زجاجات الكحول.
غالبا شقيقي إياد أبلغ المحامي خالد علي ضيقي الشديد من جلسة التجديد الوحيدة التي حضرتها قبل إغلاق السجون في مارس 2020، وكيف أنه لم يتم استدعائي للمثول أمام القاضي لسماع الاتهامات وتقديم دفاعي. أخبرني خالد علي عن طريق الإشارة، وكتبت لي صديقتي المحامية داليا زخاري على ورقة أني سأمثل هذه المرة أمام أحد القضاة المعروفين في دوائر الإرهاب.
كان القاضي قد سمح في نفس الجلسة للمحامية ماهينور المصري ولعبد الناصر إسماعيل نائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي بالمثول أمامه لتقديم دفاعهما والمطالبة بإطلاق سراحهما لانتفاء أسباب الحبس الاحتياطي بعد مرور نحو عام على سجنهما. لم أسمع شيئا مما قالاه بسبب الزجاج المصمت الذي يفصل القفص عن القاعة، ولكني رأيتهما يتحدثان بانفعال مقابل هدوء وابتسامات من قبل القاضي.
جاء دوري. بادرني القاضي بسؤال عن صحتي. أخذتني المفاجأة وقلت إني على ما يرام. ثم سألني عن سبب السواد المحيط بعيني، وكان ردي "السجن تجربة شديدة الإرهاق يا سيادة القاضي". ثم كررت الأسطوانة المشروخة التي حفظتها عن ظهر قلب من فرط تكرارها أمام وكلاء النيابة "أنا صحفي منذ أكثر من 30 عام، شاركت في ثورة 25 يناير لأنها كانت تدعو للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ولأنني كنت أحلم بصحافة حرة، ورئيس للجمهورية يخضع للمساءلة والمحاسبة ولا يبقى في منصبه مدى الحياة أو يورث الحكم لابنه. وكنت رئيسًا لحزب معارض، وأستاذًا جامعيًا يدرّس الصحافة، ومارست حقي في المعارضة وفقًا للقانون والدستور، وأنا الآن مسجون بشكل يخالف القانون والدستور لأني مارست حقي في التعبير عن الرأي". رد القاضي "عاوز تقول حاجة تاني؟". "لا يافندم". "طيب اتفضل. القرار آخر جلسة".
قبل عودتي للقفص، سقطت سريعًا كل محاذير كورونا، وتبادلت العناق مع خالد علي ومحامين آخرين. أخبروني سريعًا أن هناك تكهنات أن سجننا قد ينتهي "بعد الانتخابات". عن أي انتخابات يتحدثون؟ عرفت أن هناك خطة لعقد انتخابات لمجلس الشيوخ، تليها انتخابات لمجلس النواب، وأننا قد نخرج بعدها. لم يكن هناك وقت لتوجيه أي أسئلة. ولكن لماذا يتم ربط سجننا بالانتخابات؟ ولماذا لا يتم السماح لنا أصلا بخوض الانتخابات طالما أننا أعضاء في أحزاب شرعية حتى لو كانت معارضة؟
عدت للسجن بموعد جديد اتطلع له قد يأتي بعده الفرج ونهاية المحنة.