إذا كان طريق النضال من أجل الحقوق والحريات واحدًا، فإن السبل والمناهج مختلفة ومتنوعة. والطريقة أو المنهج أشمل من الأسلوب، وأوسع كثيرًا من الوسائل والأدوات. ومع التحفظ على فكرة الثنائيات وحصر التنوع فيها، فإن أهم طريقتين، برأيي، هما: إثبات المواقف الأخلاقية من أجل راحة الضمير، أو ترتيب الأولويات في معركة التغيير.
الغرض من المعركتين، نظريًا، واحد. لكن المتحقق، عمليًا، مختلف. فمعارك الضمير تسجل مواقف، ترفع رايات، تنبّه المجتمع والسلطة أن هناك انتهاكًا ما يجب وقفه، وأن هناك حقًا يجب ضمانه لأصحابه. هي معارك تُلهم أنصار الحريات والحقوق المتساوية بين البشر، لكنها، ويا للأسف الشديد، لا تصنع التقدم المطلوب وحدها، بل قد لا تحرز أي تقدم أصلًا.
بالتوازي معها، وربما يكون على النقيض منها، هناك معارك تهدف إلى كسب مساحات واقعية للبناء عليها وتوسيعها لاحقًا. ولأنها معارك تراكمية، فإنها بالضرورة تدريجية. وهي تدريجية لأنها واقعية؛ لأنها تعرف أن أحدًا لن يستطيع أن يأكل المائدة كلها وحده في وجبة واحدة. قد تأكلها وحدك في عدة وجبات، أو يشاركك فيها غيرك في الوجبة ذاتها.
هنا، نضطر إلى التضحية. والمثال على ذلك أذكره من عملي السابق في أحد أكبر وأهم المراكز الحقوقية المصرية، حيث كنت مسؤولاً عن وحدة "سيناء".
أعددنا في المركز تقريرًا مفصلًا ومطولًا عن سيناء، وعن الآثار الاجتماعية والإنسانية المترتبة على اندلاع العمليات الأمنية فيها في سنة 2013 ضد ما كان يسمى حينها "أنصار بيت المقدس". لكنَّ التقرير لم يُنشر. كان التقرير مبنيًا على عمل ميداني مرهق امتد لأسابيع طويلة، ثم حُرّر وجُهّزت المواد المصورة والمسجلة المرفقة به، ثم كان الاجتماع بمدير المركز وقتئذ.
خيّرني المدير بين النشر وإثبات موقفنا الأخلاقي، أو التضحية بالتقرير، كمسار واحد من عدة مسارات يعمل فيها المركز، من أجل الحفاظ على بقية المسارات. فماذا كان ردي، وأنا الذي خاطرت بالعمل الميداني في ميدان ملتهب؟! طبعًا اخترت بقاء المركز مفتوحًا.
أُغلقت وحدة سيناء في المركز ليبقى، خصوصًا وحدة الدفاع القانوني التي كانت تتولى الدفاع عن قضايا العمال وبعض المعتقلين، إلى جانب الوحدة البحثية، وغيرهما. ولأني واعٍ ومدرك بأن معركة التغيير هي، حتمًا، معركة في مساحة الممكن، لم أفتح المناحة ولم أعتبر المركز متخاذلًا في نصرة قضايا أهل سيناء.
خسرت وظيفتي، لكن كسبت اتساقي مع مبادئي.
المشهد أكبر من قدرة الفاعلين في المجال الحقوقي على الخوض، فضلًا عن الانتصار، في كل الميادين. الواقع بائس، والخصوم شرسة ومتوحشة، وتفتقر إلى الأخلاق. وهنا ينبغي لنا أن نوزع أدوارنا، وأن نقسم مهامنا.
معركة تأويل النص الديني
لا يخفى على أي مهتم بالشأن العام في مصر أن ركنًا أصيلًا في معاركنا هو استناد السلطة السياسية والاجتماعية إلى ترسانة من التفسيرات الدينية التي توفّر غطاءً تبريريًا لكثير من الانتهاكات، وكثيرًا من الاختلالات في موازين العدالة والمساواة. وخوض هذه المعركة ليس رفاهية، وليس بالأمر الهين.
ولأنها "معركة" مع محتكري سلطة التأويل والمدافعين عن السائد والموروث، فخوضها ينبغي ألا ينفصم عن استصحاب بعض "المفاهيم الاستراتيجية". فهل ندخل معاركنا، مبدئيًا، من أجل الاستشهاد الفدائي أم من أجل الانتصار؟ أو تراكم المكاسب الصغرى لإحراز نصر كبير؟
هنا، تختلف معارك الضمير عن معارك التغيير. فمعركة الضمير يخوضها "أي إنسان" له الحق في مناقشة النص الديني ورفض أي تأويل قائم له، وتقديم آخر بديل. و"أي إنسان" تعني "أي إنسان"، مهما كان موقعه من الدين، داخله أو خارجه، ومهما كان موقفه من الالتزام بتعاليم ذلك الدين أو عدم التقيد بها. لكن، هل يمكن لتأويلات "أي شخص" أن تقدم جديدًا يضيف إلى موقفنا في المعركة؟! الإجابة: أشك.
أما عقلية الحريص على الانتصار، فإنها تبحث دائمًا عن "تحييد الخصوم"، و"كسب الحلفاء". وطبيعة هذه المعركة أنها، للأسف، من معارك صكوك الاعتراف. بمعنى أنَّ متقلّدي السلطة المعرفية لن يقبلوا خوض المعركة إلا مع من يعترفون أنه مؤهل لمناقشتهم وحوارهم ومناظرتهم. وهي لعبة سلطوية قبيحة، لكنها أمر واقع.
فالحصافة تقودنا إلى توزيع أدوارنا، فليذهب من يمتلك أدوات هذه المعركة، من تمكّن في اللغة العربية والاستدلال العقلي والإلمام بالتراث الفقهي، إلى الاشتباك مع السطلة المعرفية الدينية. ولنحرص ألا نتطوع بإبداء ما يسهّل عليهم سحب صك الاعتراف، المرفوض أخلاقيًا، من زملائنا الذين يخوضون هذه المعركة.
أما من لا يمتلك هذه الأدوات من الفاعلين، فهو واحد من اثنين: إما مناضل ضمير، أو مناضل تغيير. فإذا كان مناضل ضمير، فله كامل الحق في إبداء رأيه في أي وقت، وبأية كيفية تخلو من خطاب الكراهية والتحريض على العنف. هذا حقه، الذي لا يجوز، أخلاقيًا، أن نصادره.
وأما إذا كان مناضل تغيير، فسيتقبل نصيحتنا، وإن لم يعمل بمقتضاها، أنه طالما سكت قسرًا عن الكلام في كثير من القضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية، رغم أنها من حقوقه كمواطن وكإنسان، فلا مانع أن يختار بإرادته الصمت عن الخوض في معركة قد تشغله عن معركته التي لا يحل محله فيها أحد.
ربما يكون الأفضل أن يتفرغ آخرون للمعارك التي تحتدم على أرضية مدنية/ دستورية، أو مرجعية الاتفاقيات والعهود الدولية في مجال حقوق الإنسان، على تنوعها. وهم حين يسكتون، طوعًا لا إلزامًا، عن الخوض في هذه المعركة، فإنهم منشغلون في معارك أخرى موازية، لا تقل ضراوة ولا أهمية عن هذه المعركة.
إشكالية القضايا المتداخلة والمرجعيات
أعلم أن تصنيف القضايا ليس بهذه البساطة المخلّة. وأن التخيير بين المرجعية الدينية، كميدان للمعركة، ومرجعية النصوص الحقوقية، لا يخلو من تعسّف، قد يُغري المتطرفين باستسهال التكفير، أو ما هو قريب منه، إذا اخترنا المرجعية المدنية. ذلك طبعًا في سياق التكفير الشعبوي لمصطلح "العلمانية"، الذي يحلو لبعضنا أن يخوض حروبًا حول تعريفه، من دون الاهتمام بمضمونه ومقتضاه.
أصحاب معارك التغيير الطويلة البطيئة، الذين أدعي انتمائي لطريقتهم ومنهجهم، يحرصون على إحراز التقدم في المساحات الممكنة
يتطلع كثير من المتشددين إلى التقسيم الثنائي، المستظل بظلال مفهوم "الفسطاطين"، أو المعسكرين، فيضع المصحف على رأس فسطاط الإيمان، وأي شيء غيره في فسطاط "الكفر". ويعلم أنصار الحريات والحقوق المتساوية بين البشر أنه يمكن الجمع بين الكتب المقدسة لدى المؤمنين بها من جهة والمرجعية الحقوقية المدنية من جهة أخرى. لكن يظل إشكالان...
الأول هو التفرقة بين نشر الوعي بعدم التعارض هذا، وخوض معارك تفصيلية لا مجال فيها للخوض في شرح التوافق وإمكانية الجمع بينهما، وهي معارك "صكوك الاعتراف" بأهلية الخصم للمجادلة ابتداءً. والإشكال الثاني حين يقع التعارض الذي لا يمكن التوفيق فيه بين المرجعيتين.
على سبيل المثال، وفي حدود القانون، من حقي أن أرتدى الشورت، وأن أسير به في الشارع، حتى لو خالفتُ العرف الاجتماعي المحافظ. ومن حقي أن أشتري الخمر المرخص المباع في المحلات التي تدفع للدولة ضريبة على مبيعاتها. لكني على موعد لمناقشة تأويل بعض النصوص المرتبطة بقضايا الواقع الملحّة مع مجموعة من الشيوخ والفقهاء (الذين أبحث عن تحييد الخصوم منهم وكسب حلفاء من بينهم).
فهل من الحكمة، في معركة التغيير، أن أذهب إليهم بالشورت (وهو حقي)، حاملًا سلعة مرخصة دفعت ثمنها شاملًا ضريبة القيمة المضافة (وهي الخمر)؟ ألا تكون جولة خاسرة قبل أن أنطق بكلمة واحدة؟
وهل ثمة ما يمنعني أن أرتدى ملابس متعارف على لياقتها لمثل ذلك اللقاء، وبعده، في سياق آخر، أذهب إلى نادٍ ليلي يقدم الخمور، سواء كنت أشربها أم لا؟!
فإذا أصررت على ممارسة "حقي" في الملبس و"حقي" في اختيار نمط حياتي في سياق مقابلة الشيوخ، هل أكون مناضل تغيير؟ أليس الأنسب وصفي بأني مناضل إثبات المواقف لراحة الضمير؟ وماذا ستكون الثمرة المرجوة من مثل ذلك اللقاء غير خسارة أرضية الحوار معهم، مع الانتشاء الطفولي بما يصوره لي وهمي أنه انتصار بالصدمة التي أحدثتها لهم؟!
وأما المثال الثاني، فهو على التعارض الذي لا يمكن التوفيق فيه بين المرجعية الحقوقية المدنية، والنص الديني. فليخبرني أحد العقلاء كيف يمكن في مكاننا وزماننا أن نجد توفيقًا بين نصوص القرآن والسنة وزواج المثليين.
في كلا المثاليْن، ينبغي الاختيار بين مرجعية واحدة من المرجعيتين. فإذا كان المقصود هو إثبات موقف، مهما كان صادمًا، ومهما كان غير مثمر، فإعلان المرجعية الحقوقية المدنية واجب. وهذه المعارك، رغم عدم جدواها في التغيير القريب، تلفت النظر وتوجّه الانتباه وترفع السقف، وتُلهم أشد الناس واقعية، أحيانًا، بأن ثمة شيئًا ما قد يضاف على الأجندة الحركية.
أما أصحاب معارك التغيير، الطويلة البطيئة، الذين أدعي انتمائي لطريقتهم ومنهجهم، فإنهم يحرصون على إحراز التقدم في المساحات الممكنة، وهي التي تتوافق فيها المرجعيّتان. فلا تزال في هذه المساحة المتوافقة الممكنة قضايا كثيرة للنضال من أجلها وانتزاع الانتصارات فيها، بالتراكم طبعًا. وهي قضايا تستغرق أعمارنا وأعمار جيل أو جيلين بعدنا.
بناء الثقة بين مناضلي الضمير والتغيير
إذا أقمنا حملة تطوعية للتشجير وجمع المخلفات البلاستيكية، وحضر المشاركون بملابس وأحذية "عملية" تيسّر لهم ما اتفقوا على تنفيذه، ثم شذّ عن ذلك امرأة ترتدي حذاءً بكعب عالٍ وجيب قصيرة، ورجل يرتدي بذلة كاملة وربطة عنق وحذاءً جلديًا برّاقًا، ألا يحق للمشاركين في الحملة التعليق على ملبسهما؟
الملبس حرية شخصية، لكنه هنا يخالف الاتفاق ويخلف بالوعد. فإذا أضاف "البيك" و"الهانم" إلى ملبسهما التقاط الصور مع المشاركين ونشرهما على السوشيال ميديا، فإنهما قد يقعا في محظور أخلاقي آخر؛ سرقة جهد المتطوعين ونسبه إلى نفسيهما، مدّعييْن كذبًا مشاركتهما في الحملة.
هنا، على سبيل المثال، لا ينبغي لهما أن يتترّسا وراء أكذوبة الحقوق الشخصية، فهي راية حق أريد به باطل. بل من حق أي مشارك أو مشاركة في الحملة أن ينتقد ملبسيهما، سواء كان الناقد/ة رجلًا أم امرأة، والمنتقَد/ة رجلاً أم امرأة.
ربما يكون مثالًا بعيدًا، لكنه يقترب حين نضيف متغيّرًا جديدًا متسائلين: هل يحق لغير المشاركين في الحملة أن ينتقدوا ملبس الرجل هنا أو المرأة؟
فإذا ربطنا هذا المثال بالجدل الذي يحتدم هنا أو هناك، بين الحين والآخر، حول قضايا خلافية بين المجتمع الحقوقي الصغير والمجتمع المحافظ السلطوي الكبير، فهل تتضح الآن الصورة والمعنى؟ ألا ينبغي أن نفرق بين حديث المشارك/ة في المعركة، وأحاديث غيره من المشاهدين؟
هل في نصيحة المشارك/ة في معارك التغيير والضمير، لزملائه/ها وزميلاته/ها واقتراحه/ها بتوزيع الأدوار وتقسيم المهام، والتخصص في مسارات متوازية على الدرجة ذاتها من الأهمية، نزعة إلى الوصاية والتسلط؟ هل فيها تعالٍ وتنظير فوقي؟!
أظن أن الإجابة مرهونة بشيئين؛ أولًا: رؤيتنا لموقع هذا/ه الزميل/ة من صفوفنا في المعركة، هل هو خارجها أم داخلها؟ وثانيًا: ثقتنا في اتفاقه/ها معنا في المرجعية الحقوقية المدنية، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا حول مدى تواؤم هذه المرجعية مع المرجعيات الدينية.
يعوق بناء هذه الثقة حالة الهزيمة الكاسحة التي أودت بكثيرين من دوائرنا وأوساطنا في براثن "الشلاحات"، وأخلاق الانكسار، والإحباط، وسيادة التشكك في أنفسنا قبل الآخرين. لكن، رغم الصعوبات، أرى أن بناء الثقة لا يزال ممكنًا بين الأسوياء الناضجين، وإن التبس كلام بعضهم، وأساءوا صياغة أفكارهم، ما داموا منفتحين على الاستماع والتعلم من وجهات النظر الأخرى.