بعد الاجتماعات التحضيرية التي عقدها مجلس الأمناء، المشكل مناصفة بين الحكومة والمعارضة ممثلة في الحركة المدنية الديمقراطية، تنطلق قريبًا جلسات الحوار السياسي الذي دعا له الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل ثلاثة أشهر، وسط تقديرات متفاوتة لما تحقق منذ ذلك الحين. ومن الطبيعي أن تختلف التقديرات حسب الموقف السياسي للأطراف المعنية من النظام القائم منذ 30 يونيو 2013، وتقييم كل طرف لما هو المطلوب من الحوار.
غلاة أنصار الرئيس، وهم قطاع معتبر ترتكب المعارضة خطأ كبيرًا لو تجاهلت وجوده، لا يرون أي مبرر للحوار من الأساس، ويؤمنون أن الرئيس يسير على الطريق الصحيح بمفرده، يحقق إنجازات ويتبنى مشروعًا طموحًا للنهضة، ويستعيد مكانة مصر الإقليمية والدولية. وبالتالي فهو لا يحتاج للاستماع لأصوات معارضة، احتفلوا قبل سنوات باختفاءها للأبد من رموز "نكسة" 25 يناير، وأدت ثورتهم لتمكين جماعة الإخوان المسلمين من الحكم.
ولم يُخف هؤلاء استياءهم من حضور حمدين صباحي إفطار الأسرة المصرية، واحتفاء الرئيس به والحرص على مصافحته، وهو ما مثَّل بوضوح رد اعتبار لرمز معارض ناله الكثير من الهجوم والطعن على مدى السنوات الماضية. كما انتقدوا عودة وجوه معارضة للظهور على شاشات التليفزيون الواقعة تحت السيطرة الكاملة للدولة.
أما جماعة الإخوان، فأي مبادرة أو اقتراح لا يبدأ بإقرار أن ما جرى في 30 يونيو و3 يوليو 2013 كان انقلابًا عسكريًا ضد رئيس منتخب ديمقراطيًا أمرًا دونه الرقاب. وتبدو المفارقة عجيبة، إذ تصر قيادات الجماعة على نزع الشرعية عن النظام الحالي، وفي نفس الوقت تستنكر استبعادها من الحوار الوطني.
وبناء على موقفهم المسبق من "النظام الانقلابي"، ترى الجماعة أن أي حوار لن يكون جديًا ما لم تتحقق أولًا شروطًا يعرف الجميع أنها مستحيلة، من قبيل الإفراج عن كل قيادات الجماعة، بما في ذلك الصادر بحقهم أحكام نهائية بالإعدام والسجن المؤبد، وخروجهم من السجن مباشرة إلى طاولة التفاوض، ورفع الحظر المفروض على أرصدتهم التي تقدر بمليارات الجنيهات، ولا بأس لو قام مكتب الإرشاد بتعيين رئيس مؤقت لإدارة شؤون البلاد حتى يتم الانتهاء من محاكمة كل من شاركوا في "انقلاب" 3 يوليو.
ولا يدور في خلد قيادات الإرشاد أنه باتت هناك قاعدة صلبة في المجتمع تعارض وجود الجماعة ككيان سياسي من الأساس، حتى لو اعترفوا بشرعية النظام الحالي وتخلوا عن وصفه بالانقلابي.
ثم تأتي أحزاب المعارضة المدنية التي شاركت في 30 يونيو ودعمت 3 يوليو 2013، ممثلة في جبهة الإنقاذ الوطني، التي تداعت بعد اختلاف أطرافها في كيفية التعامل مع مطلب تولي وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي رئاسة البلاد، والترويج رسميًا أنه الوحيد القادر، كرجل عسكري صارم، على مواجهة إرهاب جماعة الإخوان واستعادة هيبة الدولة وإنهاء حالة الفوضى التي تلت ثورة يناير.
لم تمض شهور حتى انتهت كل أشكال الشراكة التي قامت تحت لافتة "تحالف 30 يونيو"، وعدنا إلى النظام الذي عهدناه منذ عقود، والقائم على وضع كل الخيوط في يد الرئيس بمفرده والتركيز على دوره. وتمادت الأجهزة الأمنية في التحذير من مخاطر التسامح مع أي معارضة، إيمانًا بأنه حتى السقف المنخفض للمعارضة الذي سمح به الرئيس الأسبق مبارك هو الذي أدى لـ"فوضى" و"مؤامرة" 25 يناير.
انصاعت أجهزة الحكم لهذا التقدير، وطالت أحزاب المعارضة الشرعية التي تعمل في إطار القانون والدستور حملة اعتقالات موسعة، ولحقتهم أحكامًا بالسجن وفترات مطولة من الحبس الاحتياطي، وتحفظ على الأرصدة المالية، رغم أن معارضتهم اقتصرت على إصدار بيانات أو كتابة تعليقات على السوشيال ميديا.
وكانت الرسالة التي وصلت للحركة المدنية الديمقراطية، والمشكلة من مجموعة الأحزاب المعارضة القليلة المتبقية: الكرامة، التحالف الاشتراكي، الدستور، العيش والحرية، أنه غير مسموح لهم ممارسة أي نشاط، وأنه من الأفضل حل هذا التجمع غير المرحب به. هذا الوضع الصعب دفع الأحزاب إلى التفكير جديًا في تجميد نشاطها والإعلان صراحة أنه لم يعد هناك مجال للعمل السياسي المستقل في مصر.
وعندما أطلق الرئيس دعوته للحوار في نهاية أبريل/ نيسان وجدت قيادات هذه الأحزاب المعارضة نفسها في موقف صعب. فالكثير من قادتها ورموزها في السجون، والشباب من الأعضاء لديهم الكثير من الغضب مما عانوه طوال السنوات الماضية. وبالتالي، كان أول مطلب لتلك الأحزاب تصفية ملف المحبوسين احتياطيًا، والصادر بحقهم أحكام من أحزاب المعارضة المدنية، واعتبار ذلك المطلب بادرة حسن نية، وليس شرطًا، لخلق الأجواء المناسبة لنجاح الحوار الوطني.
غلاة المعارضين يجب أن يروا الكوب نصف الممتلئ، دون أي أوهام أن تحولًا كاملًا سيحدث بين ليلة وضحاها في موقف الأجهزة الأمنية التي اعتادت السيطرة الكاملة
كانت الفرضية إنه إذا تحقق الانفراج في ملف السجناء، سيسمح هذا بالمضي قدمًا في فتح المجال العام للعمل السياسي والحريات الإعلامية، والتراجع تدريجيًا عن سياسة السيطرة الكاملة التي ينتهجها النظام.
ودارت عجلة إخلاء سبيل المحبوسين على ذمة قضايا رأي، بالتأكيد ليس بالمعدلات أو الأعداد التي ترضي المعارضين، ولكنها بدأت، وخرج عدة مئات بينهم العشرات من الأسماء المعروفة. ولكن يبقى التحدي الرئيسي الذي يواجه النظام هو أن يشعر الجمهور العام أن مرحلة الخوف من التعبير عن أي آراء معارضة قد انتهت. ويتطلب هذا أن تتوقف بشكل كامل عمليات القبض على المعارضين بسبب التعبير عن آراءهم سلميًا.
وقبل أيام أصدرت سبع منظمات حقوقية ذات مصداقية تقريرًا قالت فيه إن أعداد من قُبض عليهم في قضايا ذات صبغة سياسية فاقت أعداد من أُطلِق سراحهم على مدى الشهور الثلاثة الماضية. غالبية من قُبض عليهم مواطنين عاديين وليسوا من دوائر أحزاب المعارضة المدنية، ولكن استمرار مثل هذه الممارسات يمنح فرصة سانحة للمشككين في إمكانية نجاح أو جدية الدعوة للحوار الوطني.
ولكن غلاة المعارضين يجب أن يروا الكوب نصف الممتلئ، دون أي أوهام أن تحولًا كاملًا سيحدث بين ليلة وضحاها في موقف الأجهزة الأمنية التي اعتادت السيطرة الكاملة. فخروج أسماء بارزة بعفو رئاسي مثل حسام مؤنس ويحيى حسين عبد الهادي وهشام فؤاد وآخرين، يعد مؤشرًا جيدًا يسمح باستمرار الدفع نحو صدور قرارات مماثلة للإفراج عن أحمد دومة وزياد العليمي ومحمد الباقر ومحمد أكسجين.
واستمرار مراجعة النائب العام لمواقف المحبوسين احتياطيًا وخروج أعداد كبيرة منهم أمر أيضًا يدعو للأمل أن الطريق بات مفتوحًا لحلحلة هذا الملف الصعب، وربما التمكن لاحقًا من إصدار تشريع بتعديل قانون الحبس الاحتياطي بحيث لا تتجاوز أقصى مدة للحبس ستة أشهر، وهو ما سيسمح حال تطبيقه بخروج المئات من السجون من كل التيارات. فالأصل هو المحاكمة العاجلة والعادلة، وليس الحبس في انتظار محاكمة لسنوات وسنوات.
كما أن مجرد الدعوة لحوار وطني خلقت حالة من الحراك في الأحزاب السياسية، معارضة وموالاة على حد سواء. وبعد أن علت مقرات الأحزاب التراب، دبت في غرفها الحياة مجددًا، وعاد الأعضاء لعقد اجتماعات غرضها التحضير للحوار ومجموعاته السياسية والاقتصادية. كما عقد حزب الدستور انتخاباته الدورية لاختيار رئيس جديد، وقرر المئات من أعضاءه العودة للنشاط أملًا في الحفاظ على الحزب الذي نشأ في أعقاب ثورة 25 يناير.
ليس من مصلحة المعارضة التسرع في المطالبة بإعلان فشل الحوار الوطني قبل أن يبدأ أساسًا. وطوال الفترة التي سيستغرقها الحوار، يجب أن يكون هناك جهد مماثل للتعامل مع كل الملفات العاجلة التي من شأنها خلق انطباع لدى المصريين أن تحولًا حقيقيًا يحدث بالفعل، بداية بملف التوسع في حبس المعارضين، وإطلاق سراح المحبوسين، والتخلي عن السيطرة على وسائل الاعلام والمواقع الإخبارية، وأن يتخلص المواطن من خوفه التعبير عن رأيه، ليس في الشؤون السياسية فقط، ولكن الأهم في شؤون المعيشة والهموم الاقتصادية اليومية التي تتزايد بما يفوق قدرة الكثيرين على التحمل.