أحاول في هذا المقال تغطية بعض معالم التحوّلات الاقتصادية التي جرت في عهد رجب طيب إردوغان الذي شهدتُ أولى سنوات حكمه خلال فترة دراستي الجامعية في تركيا. وهي تجربة غنية في إظهار مواطن قصور النموذج النيوليبرالي وسلبيات الحكم الفردي.
على الرغم من أنه بدأ حكمه بتبني سياسات نيوليبرالية، فقد خاض صدامًا خلال السنوات الأخيرة مع النظام المالي العالمي، تجلى ذلك بوضوح في تدخله الشخصي في مؤسسات القرار الاقتصادي ورفضه للاستجابة لمطالب السوق فيما يخص سعر الفائدة.
وأجادل في هذا المقال بأنه مع بروز مآزق سياسات الاقتصاد الحر، سعى إردوغان لإحلال النموذج الاقتصادي الذي يقوم على إخضاع الدولة للتحكم الفردي والحسابات السلطوية الضيقة محل الوصفة النيوليبرالية والتبعية للأسواق المالية، وهو ما سيسهم في سياسات غير مستدامة للبلاد في المستقبل.
تركيا على سكة النيوليبرالية
اتبعت تركيا خلال عقدي الستينيات والسبعينيات سياسة (إحلال الواردات) الحمائية مع دور كبير للدولة في الاقتصاد. لكنّ نظام انقلاب كنان إفرين عام 1980 غير كلّ ذلك نحو تبنّي سياسات رأسمالية حرّة والانفتاح على الاقتصاد العالمي وتقلّيص دور الدولة في الاقتصاد.
كان رائد هذه السياسات تورغوت أوزال، الّذي تبنّت حكومته برنامجًا نيو ليبراليًا، وإن كان مغايرًا للتحوَلات النيوليبرالية في أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا، لتوجهه نحو توسيع الطبقة الوسطى. وهذه الخاصية ستسم النيوليبرالية التركية في عهد إردوغان أيضًا.
شهدت تركيا في عهد وزارة أوزال صعود القطاعات التصديرية ونموًا اقتصاديًا ملحوظًا، غير أنّ تحرير القطاع المالي والمصرفي لاحقًا تسبب في أزمتين خلال عامي 1994 و2001 جلبا معهما موجات من الانكماش الاقتصادي والغلاء الفاحش والبطالة.
في حين شهد عقد التسعينيات غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي مع توالي حكومات ائتلافية غلب على معظمها التناحر والاستقطاب السياسي، وسياسات اقتصادية قصيرة النظر، ما زاد من المأزق الاقتصادي المزمن لتركيا.
عهد النيوليبرالية المقيّدة
في سنة 2002، في ظل أزمة اقتصادية خانقة، ألّف حزب العدالة والتنمية بمفرده أول حكومة غير ائتلافية منذ 1991. وشرع بتنفيذ برنامج كمال درويش، اقتصادي البنك الدولي ووزير الشؤون الاقتصادية في حكومة بولنت أجاويد وذو التوجّه الديمقراطي الاجتماعي.
تضمّن مشروع درويش الخصخصة وتشجيع الاستثمار الأجنبي وترشيد إنفاق الحكومة وإصلاح القطاع البنكي وإصلاح هيكلي للمؤسسات الناظمة للسوق وللسياسة النقدية. تميّز برنامج درويش عن برامج الإصلاح المشابهة بأنه يعتبر الحماية الاجتماعية عنصرًا أساسيًا في خطته الاقتصادية ويشتمل على خطط لزيادة أجور العاملين في القطاع العام وتحسين أجور القطاع الخاص.
كان هناك عاملان أساسيان سهّلا لحزب العدالة تنفيذ هذا البرنامج الاقتصادي: الدعم الشعبي الواسع لحزب العدالة والتنمية والذي جاء من الكتلتين المحافظة والوسط، بالإضافة إلى دعم قسم كبير من الإنتلجنسيا والصحافة، وكتلة معتبرة من الرأسمالية التركية الليبرالية التوجّه،كمجموعة دوغان، ورأسمالية الأناضول المحافظة، وإن كان هذا التحالف سيتغير لاحقًا.
ثانيًا، دعم صندوق النقد الدولي، إذ تمّ الاتفاق على الاستمرار في إقراض الحكومة التركية، بالإضافة إلى توجّه رأس المال العالمي للاستثمار في القطاع المالي للدول الصاعدةفي العقد الأول من الألفية. ما وفر تدفقات من النقد الأجنبي لدعم تمويل الاحتياجات الخارجية للنمو الاقتصادي التركي، بما في ذلك نمو الإنفاق الحكومي الاجتماعي وبرامج تخفيض الفقر التي نجحت، وإن دون تغير ملحوظ في توزيع الدخل.
مع تراجع البنك المركزي الأمريكي عن السياسة النقدية التوسعيّة تدريجيًا ابتداءً من سنة 2013، واجهت تركيا أزمات بشأن تدبير النقد الأجنبي الكافي للبلاد، إضافةً إلى توّتر أسواق المال بسبب توجّه إردوغان شرقًا نحو روسيا إيران والصين ولاخقًا الخليج بعيدًا عن الغرب، وهو ما تصاعد بعد محاولة الانقلاب عام 2016.
اعتمد النمو الاقتصادي في الفترة النيوليبرالية على مشاريع التشييد والبناء و شبكات النقل، وهي مع أهميتها وأثرها في نظر الزائر لتركيا، فإنها ليست بالمعوّل عليه لإحداث نقلة هيكلية مرجوة في الاقتصاد. خاصة إذا نافست التوجه نحو الاستثمار في قطاعات أكثر انتاجية كالتصنيع و تكنولوجيا المعلومات.
ساهمت الأزمات الناتجة عن انحسار تدفق الاستثمارات الخارجية في ترسيخ قناعة لدى إردوغان بعدم جدوى النموذج النيوليبرالي السابق، وضرورة تعظيم فائض التجارة لتوفير العملة الصعبة، مع دور أكبر للدولة في الاقتصاد، ما دفع بعض المحلّلين إلى إعطاء هذا التحوّل خصائص التوجه نحو رأسمالية الدولة.
التخبّط في البحث عن بديل للنيوليبرالية
لم يترجم إردوغان حتى الآن قناعاته الجديدة في صورة تغييرات هيكلية في الاقتصاد التركي. ويعود هذا الخلل إلى عجزه عن بناء فريق كفء لقيادة التوجّه الاقتصادي الجديد، على غرار الفريق النيوليبرالي خلال العقد الأول لحكم حزب العدالة.
وهو ما يُعزى إلى تفضيله الولاء على الكفاءة بشكل متزايد في حكومته، مع تصاعد ميله للانفراد بالسلطة والطابع القمعي لحكمه. فمنذ 2018، أقال إردوغان ثلاثة محافظين للبنك المركزي، اثنين خلال خمسة أشهر، ووزير مالية لرفضهم لسياسته النقدية.
وأوكل إردوغان السياسة الاقتصادية إلى صهره بيرات البيرق وعينه وزيرًا للمالية في 2018 مع عدم تمتّعه بمؤهلات كافية، قبل أن يستقيل لاحقًا في 2020.
محاولة يتيمة لتطبيق الشريعة
رغم بعض السياسات المحافظة، لم يقم حزب العدالة مسبقًا بإعلان تمسّكه بتطبيق الشريعة الإسلامية في شؤون الدولة في موائمةٍ لدستور الدولة العلماني. ولكن هذا تغيّر عندما برّر إردوغان سياساته لخفض الفائدة بالتحريم الديني للربا، عندما قال في نهاية 2021 "لا تنتظروا مني شيئًا آخر، كمسلم، سأستمر بفعل ما يقتضيه النص، النص الديني، هذا هو الحكم".
مع تبنّي سياسة الفائدة المنخفضة عانت الليرة التركية من موجات انخفاض. فقد زاد سعر الدولار أمام العملة التركية بأكثر من 300% منذ 2019. و خسر البنك المركزي مليارات من احتياطي النقد الأجنبي في سبيل سياسة عبثية قلّصت نتائجها من سعة الدولة في دعم سياسات إنمائية طويلة المدى.
هيمنة الحسابات الانتخابية
مع التحوّل بعيدًا عن النيوليبرالية، ظلّ الاقتصاد التركي معتمدًا على تدفقات رؤوس الأموال من الخارج. ولكن مع تراجع تدفقات الاستثمار الخارجي، توجه البنك المركزي إلى خطوط المبادلة النقدية مع البنوك المركزية لدول كالصين وقطر والإمارات. وصلت تقديرات هذه الخطوط إلى ما بين 20 إلى 30 مليار دولار.
كما استدان البنك المركزي العملة الصعبة من البنوك المحليّة. و أصدرت الحكومة حوافز وقوانين لدفع البنوك والشركات المصدّرة لضخ العملة الصعبة في السوق ضمن استراتيجية دعم الليرة (الليرلة).
هذه الإجراءات وفّرت للبنك المركزي الخاضع كليًا لحسابات إردوغان الانتخابية، غطاء لضخ العملة الأجنبية ليضمن استقرار الليرة التركية لحوالي سنة واحدة قبل إجراء الانتخابات عام 2023.
بعد الانتخابات، سعى إردوغان لتصدير انطباع بأنه سيتجه للمزيد من "ترشيد" إدارة الملف الاقتصادي، وتجلى ذلك في تعيين محمد شمشيك وزيرا للمالية، لكنه عيَّن أيضًا محافظ البنك المركزي الأسبق شهاب كافجي أوغلو الموالي لسياسته على رأس مؤسسة مراقبة وتنظيم القطاع البنكي. وهو ما يشي بعدم تسليم إردوغان الكامل لتوجّه شيمشك الاقتصادي.
وبدوره، عبر الفريق الجديد عن هجره للسياسات السابقة على الانتخابات من خلال زيادة الفائدة لما يقرب الضعف في يونيو /حزيران الماضي، في محاولة لتجاوز الأزمة الحالية التي جلبت معها زيادة في التضخّم ونسبة الفقر.
حصيلة عقدين
لدى مقارنة أداء عهد إردوغان بالفترة التي سبقته بعد انقلاب 1982، فإننا نجد تقدمًا متواضعًا بالنظر إلى المؤشرات الكلية. فبين (1983-2002) نما الناتج المحلي وحصة الفرد منه بنسبة 210% و150% عالتوالي. بينما في فترة حكم حزب العدالة (2002-2021) كان نموهما حوالي 270%، 212% على التوالي.
مع كل جهود التنمية التي قامت بها حكومات العدالة والتنمية، تبقى تركيا حبيسة فخ الدول متوسطة الدخل مع ضعف التوطين التقني. وهو ما يشي به غياب أي جامعة تركية ضمن أول 200 جامعة وفق أي تصنيف عالمي. وبعيدًا عن المسيّرات العسكرية، فإننا نجد صعوبة في الحصول على أمثلة لنجاح جهود الدولة التركية في استهداف قطاعات صناعية ذات قيمة مضافة عليا بما يشي به مصطلح الدولة الإنمائية (developmental state).
في ظل إعادة تعيين محمد شيمشك، ستكون مصيبة لو اكتفت تركيا بمجرد العودة للنموذج النيوليبرالي للعقد الأول من الألفية. وهو ما سيبقي الاقتصاد التركي دون أفق للخروج من التبعية لحيتان الأسواق المالية.