قبل نحو عشر سنوات، كان الدولار الأمريكي يساوي 1.94 ليرة تركية (في الأول من يوليو/تموز 2013)، وبحلول يونيو/حزيران الجاري هوت الليرة في مقابل الدولار إلى 23.7، أي أن الدولار ارتفع بمقدار 1221% في مواجهة العملة التركية خلال عقد واحد من الزمان.
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للجنيه المصري، إذ كان الدولار الأمريكي يساوي 7 جنيهات منه في الأول من يوليو 2013، وبات اليوم يساوي 30.9 جنيهًا، أي أن العملة الأمريكية ارتفعت في مواجهة الجنيه بنحو 441% خلال عشر سنوات، وهو تراجع كبير وإن كان يبدو متواضعًا مقارنة بمقدار انخفاض الليرة التركية المفرط.
وكما هو متوقع، واكب الانخفاض الكبير والمطرد في قيمة العملتين الوطنيتين ارتفاعًا في معدل التضخم، خاصة في الفترة الأخيرة، ففي تركيا بلغ التضخم 85.5% في أكتوبر/تشرين الأول 2022 قبل أن ينخفض بقوة إلى 43.6% في أبريل/نيسان الماضي-وهي نسبة لا تزال بالغة الارتفاع- فيما كان التضخم الأساسي في مصر نحو 40% في مايو/أيار الماضي، طبقًا للبنك المركزي المصري.
تتشابه تركيا ومصر إذن في مصير عملتيهما المحلية أمام الدولار خلال السنوات الأخيرة، وهو أمر لافت بالنظر إلى ضخامة حجم الاقتصاد التركي مقارنة بمصر، إذ يبلغ الأول نحو ثلاثة أضعاف الثاني.
وقد استطاعت تركيا خلال العشرين سنة الماضية أن تنضم إلى أكبر الاقتصادات التصديرية في العالم، ولم يقتصر النجاح على رفع قيمة الصادرات الكلية بل امتد إلى تنويع هيكل الصادرات بحيث تشكل المنتجات الصناعية الجزء الأكبر منه.
عانى الاقتصاد التركي بأكمله خلال السنوات العشرين الماضية من عجز مزمن في ميزانه الجاري بسبب الديون
في عام 2000 كانت نسبة الصادرات السلعية والخدمية، بما في ذلك السياحة، للناتج المحلي الإجمالي متقاربة في كلا البلدين، 19.88% في تركيا مقابل 16.20% في مصر. ولكن بحلول 2021 قفزت النسبة في تركيا إلى 35.3% بينما انخفضت في مصر إلى 11.10%.
لماذا إذن تعاني تركيا من مشكلات تشبه تلك التي نعانيها رغم كل الاختلافات بين هيكل الاقتصادين؟
أثر الديون
يمكن أن نعزي تدهور العملة التركية، برغم النجاح الاقتصادي، إلى تفاقم الدين الخارجي للبلاد، الذي ارتفعت نسبته من الناتج المحلي الإجمالي من 38% في 2011 إلى 50% في 2022، في مقابل 36% من الناتج في الحالة المصرية.
يعود تفاقم الديون التركية إلى نمط التطور الرأسمالي الذي سلكته البلاد خلال العقدين الماضيين، المعتمد بقوة على دور القطاع الخاص المنفتح على الاقتصاد العالمي، الذي يميل للاستدانة من الخارج. لذا مثل نصيب القطاع الخاص من الدين الخارجي نحو الثلثين من إجمالي الديون الخارجية خلال العشر سنوات الماضية.
يختلف ذلك عن الحالة المصرية بشكل قطعي، إذ يغلب على الدين الخارجي لدينا الدولة في شكل مديونية حكومية أو مديونية مضمونة من قبل الخزانة العامة، وهو الأمر الذي يعكس بدوره نموذجًا اقتصاديًا لا تزال الدولة تلعب فيه دورًا هامًا سواء في الاستثمار العام أو في السيطرة على أصول الجهاز المصرفي، علاوة على الانفتاح المحدود للقطاع الخاص على أسواق المال العالمية مقارنة بنظيره التركي.
قد يعتقد البعض للوهلة الأولى أن غلبة القطاع الخاص على الدين الخارجي التركي، على عكس الحالة المصرية، تجعل أثر الديون الخارجية على الاقتصاد تقتصر على الشركات الخاصة المستدينة فحسب، لكن الواقع أن الاقتصاد التركي بأكمله كان يعاني خلال السنوات العشرين الماضية من عجز مزمن في ميزانه الجاري بسبب هذه الديون.
تركيا تعاني من أزمات هي نتاج للأشواط التي قطعتها خلال العقود الأخيرة في مسار التقدم
ظل الاقتصاد التركي، رغم نجاحه الاقتصادي، بحاجة إلى دولارات أكثر من تلك التي يولدها كل سنة إما لسد فاتورة واردات ظلت تنمو بمعدلات أعلى من الصادرات، أو لخدمة الدين الخارجي. ففي الفترة بين 2000 و2021 كان متوسط العجز في الميزان الجاري التركي سالب 3.5% من الناتج المحلي، مقارنة بسالب 1.29% لمصر في نفس الفترة.
كان التوسع التصديري التركي صناعيًا بامتياز، كما سبقت الإشارة. ولكن يظل القطاع الصناعي التركي محرومًا من العمق الكافي، ولذا فإنه يعتمد، وبكثافة، على استيراد السلع الرأسمالية كالآلات وسلع وسيطة كمدخلات بتروكيماوية مختلفة، والتي مثلت 31% من إجمالي الواردات في 2022، علاوة على كون تركيا مستوردًا كبيرًا للطاقة، والتي تمثل وارداتها 27% من فاتورة الواردات.
تبدو تركيا وكأنها تدفع ضريبة التقدم الصناعي، المحدود نسبيًا، عندما ننظر لقيمة واردتها السلعية بنهاية 2022، والتي بلغت نحو 350 مليار دولار. وهو رقم مخيف إذ يمثل ما يساوي 1.5 من قيمة صادرات البلاد. وفي مصر تبدو الصورة أكثر سوداوية، إذ تمثل الواردات نحو 2.5 مرة الصادرات.
ساهم ضعف العمق الصناعي في جعل العجز التجاري مزمنًا طيلة العقدين الماضيين، وبلغ متوسط العجز التجاري التركي في تلك الفترة (2000-2021) سالب 2.79% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي مصر كان الوضع أسوأ إذ بلغ العجز سالب 8.25% لأن هيكلنا الصناعي والتصديري أسوأ بكثير.
باختصار، يمكن القول أنه رغم التشابهات في وقائع الأزمة المالية الجارية في البلدين، فإن تركيا تعاني من أزمات هي نتاج للأشواط التي قطعتها خلال العقود الأخيرة في مسار التقدم، بينما ساهم التأخر المصري، للمفارقة، في الحيلولة دون الوقوع في أزمات أعمق للجنيه.
خاضت تركيا بحر الاقتراض الخارجي منذ الثمانينيات، واعتمدت بشكل أساسي على الدين الخارجي، للقطاع الخاص وبدرجة أقل العام، من أجل سد عجز مزمن في ميزانها الجاري. وسرعان ما تحولت خدمة الدين الخارجي هذا إلى مصدر أساسي من مصادر العجز في الميزان الجاري. ولهذا فإن دينها الخارجي أكبر حجمًا ونسبةً من مصر التي دخلت أسواق الدين الخارجي بشكل متأخر عن تركيا.
استطاعت تركيا أن تنمي من حجم اقتصادها، لكنها ظلت متأخرة في المنافسة العالمية على صعيد تعميق الصناعة، ما جعلها في احتياج دائم لاستيراد التكنولوجيا من الخارج. بينما في مصر تنبع معاناتنا من العجز عن تنويع الصادرات، بعيدًا عن المواد الأولية كالغاز الطبيعي، بجانب ضعف حجم صادراتنا الكلية بشكل عام.
هل يمكن القول إن كله محصل بعضه؟
ليس بالضرورة، لأن الاقتصاد التركي نمى بمعدلات أعلى كثيرًا من نظيره المصري، وانعكس ذلك إيجابًا على حياة الغالبية الكبيرة من الأتراك في العقدين الماضيين. ولكن النموذج الذي سلكته تركيا، على نجاحاته الأولية، لم يتجاوز بعض المعضلات التي تواجه البلاد متوسطة الدخل، وعلى رأسها تعميق الصناعة وتجنب دوامات الدين الخارجي.
ويترك لنا هذا في مصر دروسًا نتعلمها.