طوال الشهرين الماضيين تعالت صيحات ك%&# يا مارك في كلِّ مكان، بعد أن سجنت خوارزميات تطبيقات شركته ميتا مستخدميها العرب داخل أُطر تواصل شديدة الضيق والبطء، في قرار بتقطيع أواصر وروابط التواصل بين مستخدمي التطبيق بلغات من بينها العربية، بسبب دعمهم للشعب الفلسطيني والمقاومة.
ولكن لماذا يشتم الناس مارك زوكربيرج بالاسم، كما لو أنَّه، كإنسان فرد، من يتخذ تلك القرارات ويجلس بنفسه خلف كل الحواسيب واضعًا مجموعة الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة التي يطلق عليها اسم الخوارزميات؟
في الواقع، لا يملك زوكربرج إلا 13% فقط من أسهم ميتا. صحيحٌ أنَّه الرئيس التنفيذي للمجموعة، لكنَّ هذا لا يعني ترميزه إلى الحد الذي يجعل منه مسؤولًا حصريًا عن كل قراراتها وسياساتها، فما المنطق وراء استهدافه تحديدًا؟
الإجابة في رأيي أنَّ واضعي تلك السياسات ومصممي ومنفذي الخوارزميات، مجهولون بالنسبة لأغلبنا. نحن لا نعرف إلا مارك في أعلى القمة، ومطرقة خوارزمياته فوق رؤوسنا.
الخوارزميات ليست كينونة بشرية، بل دلالات آلية ومنطقية، علاقات تجريدية وقاسية، كرارة لا ترحم في قراراتها التي لا تتراجع عنها في الأغلب، ولأنها كذلك فهي مرعبة، فأنت لا تستطيع التواصل أو التفاوض معها فيما تنفذ حكمها عليك، عليك أن تستسلم لطبيعة حكمها الآلي، وتتقبله أكثر من أيِّ سلطة بشرية أخرى.
أنت لا ترى الخوارزميات ولا تعرف بوجودها إلا بعد نفاذ حكمها وإدراك أثره عليك، أو ربما عليك أن تخترعها في ذهنك احتياطيًا لتمارس رقابة ذاتية تلقائية، أو تلجأ لاستخدام الرموز والأحجبة والطلاسم، في محاولة لمراوغتها.
الخوارزميات والخوارزميون
سلطة وطغيان الخوارزميات تكمنان في جوهرها اللا إنساني، ولكن رغم ذلك، يظلُّ الخوارزميون أنفسهم أكثر رعبًا وطغيانًا منها. هؤلاء الذين يضعون السياسات والقواعد وأولئك الذين يطبقونها من فنيين وتقنيين؛ أشخاص لا نعرفهم ولكننا نعرف أن لسلطاتهم الكثير والكثير، لأنَّ الشيطان يكمن في التفاصيل.
يختبئون خلف الآلة الذكية لإنفاذ إرادتهم علينا ويرعبوننا بكونهم مُجهَّلين. نحن لا نعرف من بينهم من التقني ومن المسوِّق ومن الفيلسوف والمُنظِّر، فقط نعرف أنَّهم أقوياء جدًا وأذكياء جدًا، وغير خاضعين لمحاسباتنا وهم يمارسون علينا كلَّ هذه السلطة، التي كلما تغولت، زادت أصحابها استهانة بـ"مستخدميهم".
الشعوب تسائل حكامها إذا أصبحوا مرئيين ونحن اليوم في دولة لا نعرف رجالها بل خوارزمياتهم
في آلة الإبادة النازية التي قتلت عشرات ملايين البشر بشكل ممنهج، كان هناك آلاف المنفذين والمديرين والمخططين والوسطاء، وفي محاكمات نورمبرج بعد الحرب العالمية الثانية لم يبدِ أغلبهم ندمًا على ما اقترفوه، وتحججوا بأنَّهم جميعًا موظفون في ماكينة بيروقراطية، يؤدون داخلها مهمات باردة في يوميتها وآليتها.
قالوا أيضًا إنهم جنود ينفذون أوامر، وكم من جرائم جرى تبريرها تحت عنوان "طاعة الأوامر العسكرية". لقد أطلقت حنا أرندت على ذلك كله لفظ تفاهة الشر، وهي تحاول أن تنهل من مخزون الاحتقار الإنساني لبنيةٍ من ذلك النوع، لكنَّ "عبيد المأمور" عبر العصور لن يتلفتوا لها.
يمكن لهتلر وهملر وجوبلز وعدد من قادة الصف الأول في ألمانيا النازية أن يتحملوا "المسؤولية كلها"، فظلُّ الزعامة وارفٌ، يختبئ تحته ملايين الأراذل والأنذال، الذين لم ولن يحاسبوا، بل سيستمرون جيلًا وراء آخر، بمنتهى العادية والبراءة.
الخوارزميون غير منتخبين، وأول درس علمني إياه العضو المنتدب لأول شركة عالمية التحقت بها، أنَّ الشركات ليست ديمقراطية "Corporate is not a Democracy". كان الرجل واضحًا وهو يتحدث إليَّ بودٍ ويقين، وهو يبرر قراره بفصل عدد من الموظفين المعارضين لسياساته الجديدة.
سيتحجج الخوارزميون بذلك القانون الحاكم لجوهر "البيزنس"، ربما يستقيل بعضهم اعتراضًا، أو يشنون حملات إعلامية لإقناع الشركاء الآخرين وحَمَلة الأسهم بوجهة نظرهم، لكنَّ أغلبهم سيستكين ويستمتع بما معه من مكتسبات وسلطات.
لأنه لا يوجد سخمت رع يا صديقتي
منذ عدة أسابيع كنت أتحدث هاتفيًا مع صديقة عزيزة، وجدتها تعرج بالنقاش فجأة نحو الحملات الإلكترونية التي يشنها "الكيميتيون" ضد المهاجرين السوريين في مصر، وكيف أنَّ خطابهم عدواني وفج ومفاجئ وغير مبرر.
طلبت منها أن تتريث قليلًا لأسألها؛ من هم "الكيميتيون" يا عزيزتي؟ هل سبق والتقيتِ نفرًا منهم؟ هل ناقشتِ أحدهم في حيِّز عام، وقال لكِ أنا فلان الفلاني الكيميتي؟ هل حضرتِ فعالية أو ندوة أو لهم؟ هل لديهم رموز ومرجعيات ومؤلفات نسترشد بها ونحاججهم؟
ثم إنه لا يوجد إنسان اسمه سخمت رع أو وبتاج حتب 512، الكيميتيون يا عزيزتي إحدى الخوارزميات المصرية لهذه الأيام؛ يحدثنا من خلالها خوارزميّ مصري برتبةٍ ما، أو ربما خوارزمية إقليمية على نطاق شركاتي.
الخوارزمية المصرية أشدُّ فظاعة من خوارزمية ميتا، لأنها تتحكم في العباد يوميًا، في حياتهم وأقواتهم وأجسادهم وكرامتهم، والخوارزميُّ المصريُّ أيضًا عبد المأمور في تبريره لكلِّ ممارسة يقوم بها، ولكنه في الوقت نفسه سيد على العامة، بسلطة تجهيله وشبحيته.
نحن في بلد لا نعرف له منذ عقد سوى رمز واحد صورته فوق كل عامود إنارة، يلعب دور مارك زوكربيرج في المسرحية المحلية، وهو الدور الذي قبله بجسارة في مقابل توغل أجيال وأجيال من الخوارزميين المجهولين.
ومثلما لشركة ميتا هيئات استشارية يلتحق بها عدد من الشخصيات العامة، لوضع السياسات وحوكمة الدهاليز إلى آخره من لغو، فإن شركة "جمهورية مصر" عامرة بجيوش السكرتارية والمستشارين في كل المواقع التشريعية والتنفيذية. الفارق أنَّ الشركات مثل ميتا في النهاية غير ديمقراطية وتأتي بهؤلاء تفضلًا وتجمّلًا، فيما تأتي بهم الجمهوريات إهانةً وتنكيلًا وعبرةً وعِظةً لشعب يفترض أنَّه مصدر السلطات.
أجد ذاكرتي تلح عليَّ بذكرى صديقي الراحل سامر سليمان، وهو يقول لي منذ 18 عامًا إن الشعوب تتشجع على مساءلة حكامها الحقيقيين إذا ما أصبحوا مرئيين، حين تصبح السلطة الحقيقية معلومة الرجال. واليوم، ونحن في دولة لا نعرف رجالها الحقيقيين، بل نتعامل مع خوارزمياتهم ومستشاريهم وأذلائهم.
نعرف منهم خوارزميات آلية وإنسانية، حسابات سخمت رع وبتاح حتب، ومذيعين يصرخون ومذيعات لا نُميّز ملامحهن من خلف المساحيق، وأشكالًا أخرى مختلفةً من التجليات الثقافية لسلطة المجهول السياسي.
يمكن للخوارزمي في شركة ميتا أن يتسبب في خسارة حملة الأسهم، لكن هذه قواعد لعبة البيزنس، أما الأوطان فقواعد اللعبة فيها تختلف حسبما أعتقد، شعبًا وخوارزميين.