تصميم: يوسف أيمن- المنصة

تحرُّر عربي من الاحتلال العربي

منشور الخميس 31 أكتوبر 2024

تربينا في حِجر حسني مبارك، الذي آمن بأنَّ كلَّ حماسةٍ سياسيةٍ وكلَّ خطٍّ فكريٍّ منضبطٍ خطابةٌ وعنتريات. كان مبارك عدميًا وإن بدا هادئًا متأنيًا، نشأتْ في عالمه الذي امتد ثلاثين عامًا أجيالٌ وأجيالٌ من رجال دولةٍ مصريةٍ، علَّةُ وجودها تمجيد الثبات وعبادة الاستقرار لحماية مصالح السلطة وطبقاتها. الاستقرار من أجل الاستمرار أو العكس، لا فرق، وبصرف النظر عن الشروط أو النتائج، ولو بلغ الاستقرار المرجو درجة هدوء المقابر، ولكن حتى المقابر نفسها لم تنجُ منهم!

وفي هدوء المقابر هذا، شبَّه رئيس الدولة قبل أيام الظروف التي تعيشها مصر والمنطقة بما كنا نعيشه بعد يونيو 1967! ولولا صمت القبور الذي نعيشه لما خرج هذا التصريح العدميُّ إلى النور؛ فالموتى فقط هم من يشاهدون أجسادهم من خارجها، نحن في ظروف تشبه ما كان سائدًا بعد الهزيمة ولكن بدون حرب، بدون تنحٍّ، بدون مساءلة، بدون إرادة شعبية تحدد مسار المستقبل بعد الهزيمة ولو بشكل عاطفي، نحن مجرد شهود على جثاميننا تتحلل!

التحديات كبيرة لا شك، تتطلَّب شجاعةً وتضحياتٍ وحكمةً، لكنها مشروطة بأن تستردَّ الجثامين طيفًا من أرواحها أولًا، مثلما أبقى السنوار روحه حيةً حتى لحظة مصرعه. وليصبح ذلك ممكنًا، علينا أن نحرر خيالنا السياسي الذي أضحى أسيرًا لمخاوفنا، ولثمراتٍ أنبتتها هزائم كانت بذورُها منطلقاتٍ سياسيةً ونظريةً خاطئةً، أفضت إلى رهاناتٍ سياسيةٍ أكثر كارثية.

نحن بحاجةٍ الآن إلى الأخذ برهانات جديدة من أجل التخلص من ارتهاننا. ونحن لن نتخلص من ارتهاننا قبل أن نعترف أولًا بحقيقة كوننا رهائن، وألَّا نتعالى على هذا الاعتراف بضلال الكبرياء العربيِّ الأصم أو المكر الريفيِّ السخيف.

عروبة الثورة المضادة

وزراء خارجية مصر والإمارات والبحرين والمغرب والولايات المتحدة وإسرائيل في قمة النقب نهاية مارس 2022

قبل أسابيع، تحدثت بشكل مفصَّل عن جبهات إسناد إسرائيل في الحرب الحالية، التي تصبح الدولة الصهيونية بدونها شديدة الضعف، وكيف أن هذه الجبهات تقدم إسنادها إما بالتحالف المعلن عسكريًا وأمنيًا وإعلاميًا، أو بالتخاذل والضعف أو عدم امتلاك تصور جدي للمواجهة، وشرحت هذه المواقع المختلفة أكثرَ في فيديو نشرته المنصة.

نحن إزاء حرب خبيثة وشريرة تشنُّها الولايات المتحدة على المنطقة بكلِّ مكوناتها. ساحتها المركزية المشرق العربي، حيث يستخدم المُركَّب العسكري الأمريكي ولايته إسرائيل برعونة وتهور سيُلحقان بها حتمًا أضرارًا وجوديةً جسيمةً، مهما بدا للبعض حاليًا أنها مُنتصرة طالما نجحت في إخضاع الآخرين. 

ربما لأول مرة لا تكترث الإمبراطورية الأمريكية المتخبطة بمصير حلفائها وهي تخوض بهم حربًا. ستتضرر إيران بلا شك وقد تفقد بعض مناطق نفوذها في المنطقة، وهي مناطق اكتسبتها بسبب الفشل الأمريكي في إدارة العراق بعد احتلاله ليس أكثر، لكن الغرور الخليجي أيضًا سيتضرر وبشدَّة، مهما ظنَّ أن بإمكانه استخدام إسرائيل والولايات المتحدة في إزاحة إيران من مناطق نفوذها، دون أن يتورط في مواجهة مباشرة ستكشف ارتعاده وهشاشته الشديدة واعتماديته الكاملة عليهما.

أما الخاسر الأكبر  في النهاية فهُم الشعوب العربية في المشرق العربي. تتكثف مأساتهم في غزة ثم لبنان ثم باقي مناطق الصراع المحتملة. وأيًا كان المنتصر فوق الخرائب، فإنه سيعلِن انتصاره ويرفع رايته فوق جثث وكرامة وإنسانية السواد الأعظم من الفقراء العرب. أما نحن في مصر، فنعيش كما أخبَرَنا السيسي نتائجَ هزيمة 1967 من دون أن نخوض غمار معاركها، في مسيرة تنتهي كما قلت سابقًا باستعمارٍ بلا احتلال وإذلالٍ بلا إبادة، أو ربما إبادةٍ بلا قنابل.

تُدمِّر الماكينة الرأسمالية الأمريكية ووكيلها الإماراتي تحديدًا ربوع منطقتنا لتعيد "إعمارها" على قواعد جديدة، لكن من خرابها سيولد عالم جديد وأمل جديد ومصائر جديدة، تلك هي سُنَنُ التاريخ. ومثلما ستتغير خرائط النفوذ والمصالح ومعها خرائط القوى المسلحة، ستتغير أيضًا خرائط القوى السياسية وتصوراتها وأولوياتها، لتدرك من داخلها وحدة المصير المشترك لعامة الشعوب العربية، مهما تعالى البعض على هذا الشعار، تَوجُّسًا أو تنطُّعًا.

كان الربيع المهزوم عربيًا، ومثله كانت الثورة المضادة، بل إن الثورة المضادة كانت في عروبتها أكثرَ فطنةً ووحدةً وتمترسًا. تسامحت الأنظمة العربية مع بعضها البعض في سيادتها، وأصبح التنسيق الأمني فيما بينها عنونًا لوحدتها. تعاضدت رؤوس الأموال ومنصات الإعلام، أضحى العرب عربًا بالمال الخليجي العابر لكلِّ حدود، وبنماذج الطغيان التي تُسابِق بعضها بعضًا في الشراسة واستباحة العامة.

تأسس في العقد الماضي تحالف عربي حاكم يتدرَّع بمنطق الصهيونية وروحها لا بسرديتها، تأكلُ طبقاته الحاكمة في صحنٍ واحدٍ لحوم شعوبنا نيئةً، لتؤسس على هياكلنا العظمية نمطًا من الاستعمار الاستيطاني المحلي الذي يبني بهمةٍ جسديةٍ وبلادةٍ روحيةٍ منتجعات وخلجانًا حصريةً على شواطئنا وبحارنا.

تتوحد رؤوس الأموال العربية وتنصهر وتتصاهر في كل مجال، تسبي الدوحة وأبوظبي والرياض مسيرة ومصير الثقافة العربية وإنتاجها المعرفي والوجداني، وفي الأثناء يحاول ذبابهم المزعج إقناع فئات من متعلمينا أنهم فراعنة وفينيقيون وكوشيون، أو يتامى السلطان عبد الحميد العثماني.

هذا التحالف العربي الذي يتحدث أبناؤه الإنجليزية فيما بينهم، وفي القلب منه هؤلاء الإيچپشيانز الذين هم بالتعريف ضد عروبة مصر، ستجدهم شديدي العروبة في دبي وأبوظبي والرياض ومواخير الترفيه، فلكلٍّ منا عروبته.

إقرار اضطراري بالعروبة

أخيرًا أصبح هناك أساس ماديٌّ معاصر للعروبة. لم تعد مجرد دعوى عاطفيةً ولا رابطةً وجدانيةً يبشر بها مجموعة من مثقفي المشرق العربي في عالم أفول السلطنة العثمانية، بل واقع مؤلم تصنعه هيمنة رأس المال الخليجي استثماريًا وإعلاميًا وخطابيًا.

عروبتنا الآن ارتهان متبادل وجدلية لا يمكن الفكاك من صراعها، لأن التحالف العربي الحاكم يخلق نقيضه العربي أيضًا، الذي يحمل بدوره أساسًا ماديًا مضادًا، باعتباره إقرارًا اضطراريًا بمصيرٍ مشتركٍ وحاليٍّ يجمع عامة العرب وأكثريتهم. 

العمل في مبتدئه أن نُحرر خيالنا السياسي بالقفز فوق خرائط الطغيان

هذا المصير ابنٌ للحظته المعاصرة وليس ناتجَ هوياتٍ سابقةٍ محمولةٍ، يستجيب لمشكلاتٍ وتحدياتٍ مُعاشةٍ هنا والآن، نشأت عن عالم يهيمن فيه اقتصاد الريع بأطيافه، بما يُمكِّن أنماطًا من الطغيان والاستبداد السياسي المحمولة على تقاليد سلطانية إسلامية، سواء في شكل ملكيات أو جمهوريات مزعومة. وهو بنية لا تكتمل إلا باستمرار إسرائيل كعنوان للقوة والردع عند البعض، وللخصومة عند البعض الآخر.

العرب هنا هم الشعوب والسكان والعوام، من لا يملكون نصيرًا مسلحًا ولا دولةً راعيةً ولا مشروعًا للتقدم والسعادة. مَن صار بقاؤهم أحياء مهددًا، بعدما أثبت العام الماضي ومن بعد السابع من أكتوبر أنَّ نزع الصفة الإنسانية عنهم بالابادة سلوك ومنهج يومي.

والعروبة هنا هي هذه الصلة الذي لا يمكن إنكارها، وهذا التأثير الذي يجعلنا نفهم معنى ودلالات كلمات مثل "الكرم" و"الثأر" و"النكبة" و"الانتفاضة" و"الشبع من بعد جوع" دون الحاجة إلى شرح. أمور كافية لجعل المستويات المادية للصراع تنصهر فيما هو رمزي ومألوف ومصاغ.

يطرح البعض سؤالَ "ما العمل؟" بروحٍ كيديةٍ وعدميةٍ. والعمل في مبتدئه هو تحرير خيالنا السياسي بالقفز فوق خرائط الطغيان، والبدء بتحطيم إرث أنظمة القرن العشرين القومية العربية في مصر، وسوريا والعراق ببعثَيهما، بعد أن جعلت من كلِّ ميلٍ عروبيٍّ مرادفًا للهزيمة والنفور.

يبدأ الأمر بأن نعلن أنَّ المصير العربى المشترك عنوانه المادي هو الجمهورية والمساواة والديمقراطية، أما التفاصيل ففي مقالاتٍ مقبلة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.