يُحكى أن أول الخلفاء الفاطميين في مصر المعز لدين الله، عندما طُلِب منه إثبات نَسَبه لآل البيت، وكان جالسًا على العرش، مدَّ إحدى يديه واغترف بها ذهبًا من صندوق بجانبه، وقال "هذا نَسَبي"، ثم قبض على سيفه باليد الأخرى، ولوَّح به قائلًا "وهذا حَسَبي".
يفتقد هذا المشهد إلى الدقة التاريخية، لكنه انتشر بين الناس لطبيعته المسرحية وظلوا يتداولونه في العصور اللاحقة، حتى بات "سيفُ المعز وذهبُه" مجازًا يستخدم للإشارة إلى الأنظمة السياسية التي تلجأ إلى العصا والجزرة معًا. إذ لا سلطة قادرة على الاستمرار باستخدام البطش وحده، بل هي بحاجة دائمة وحتمية لمنح الخاضعين لها بعض الامتيازات وربط مصالحهم باستمرارها وبقائها، ليكون اللجوءُ لعصا القمع هو الاستثناء وليس القاعدة.
ولكن مع حلول القرن الحادي والعشرين، يبدو أن الولايات المتحدة بدأت تتخلى بشكل تدريجي، لكنه حاسم، عن نمط المعز في إدارتها الشرق الأوسط، إذ تخلَّت شيئًا فشيئًا عن الجزرة، وأصبحت تلوّح بالعصا أكثر.
لا يقتصر هذا التحول على الحضور الأمريكي في الشرق الأوسط وحده، ولكنه خط عام للولايات المتحدة مرتبط بتراجع وزنها في التجارة والاستثمار العالميين، لدرجة أثرت على علاقتها بالعالم كله؛ إفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا.
الشرق الأوسط قاعدةً للتمركز الأمريكي
تتميز حالة الشرق الأوسط عن غيرها بالحضور العسكري الأمريكي شديد الكثافة، الذي لا نراه فحسب في القواعد العسكرية المتناثرة في الخليج والعراق وسوريا وجيبوتي، بل أيضًا في توافد حاملات الطائرات والقاذفات الاستراتيجية، لتلعب دورًا نشطًا بالمشاركة في عمليات قصف لليمن وسوريا والعراق، وتقديم دعم مباشر للعمليات الإسرائيلية الهجومية والدفاعية في غزة ولبنان وسوريا وإيران.
لكنَّ هذا الحضور العسكري المتزايد لم يكن مخططًا استراتيجيًا أعدته الإدارات الأمريكية المتعاقبة وسعت إلى تنفيذه، بل على العكس تمامًا. فبينما منح الفشل الكبير لمغامرة العراق إدارة باراك أوباما (2009-2017) دافعًا للانسحاب من المنطقة، وهو الانسحاب الذي استمر مع دونالد ترامب (2017-2021)، جاءت التطورات التي تلت 2011 لتجذب الحضور الأمريكي إلى الشرق الأوسط مجددًا للدفاع عن مصالحها.
بدأت هذه العودة مع تشكيل التحالف الدولي في مواجهة داعش، وما تبعه من عودة القوات الأمريكية للعراق، وزيادة حضورها في قطر والبحرين، ثم إنشاء قواعد لها في شمال سوريا، حتى جاء طوفان الأقصى وما تلاه من انكشاف كبير لإسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية والجهات المدعومة من إيران؛ ما استدعى تكثيف الحضور والنشاط الأمريكي على نحو غير مسبوق منذ غزو العراق في 2003.
الصين محل أمريكا في الاقتصاد العالمي
على عكس الحضور الأمريكي العسكري المتزايد في العقد الماضي، تراجع دورها الاقتصادي في الشرق الأوسط نسبيًا، سواء كشريك تجاري أو كمصدر للاستثمارات المباشرة أو حتى كجهة مانحة، بالتزامن مع الصعود الكبير للصين.
ففي عام 2022 مثلًا، كانت الصين هي الشريك التجاري الأول للشرق الأوسط فيما يتعلق بالصادرات والواردات. إذ أمست تستورد أكثر من نصف ما يُصدِّره الخليج من بترول، وتورِّد لدول المنطقة نحو 67% مما تستورده. فيما تأتي الولايات المتحدة في مراكز متأخرة كثيرًا بعد الهند وعدد من البلدان الأوروبية، سواء في الصادرات أو الواردات، خصوصًا مع توسعها في إنتاج النفط، أبرز ما يمكن أن يقدمه الشرق الأوسط إلى العالم.
الولايات المتحدة ستستخدم القنابل أكثر وهي تخاطب العالم
لم يقتصر التراجع التجاري الأمريكي على الشرق الأوسط، بل امتد إلى العديد من المناطق حول العالم مع الصعود الصيني خلال العقود الثلاثة الماضية.
ففي أمريكا الجنوبية، الساحة الخلفية التاريخية للولايات المتحدة، وصل نصيب الصين من إجمالي التجارة الخارجية مع القارة إلى نحو 25% في 2021، مقابل 15% للولايات المتحدة. وفي إفريقيا، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول للقارة منذ 2014 بعدما تفوقت على الولايات المتحدة، وعلى قوى الاستعمار القديمة مثل فرنسا وبريطانيا.
وينطبق الأمر نفسه على تجمع دول آسيان في جنوب شرق آسيا، الذي يضم بعض الاقتصادات الأكثر نموًا في العالم مثل تايلاند وفيتنام وإندونيسيا وسنغافورة وماليزيا، إذ كانت الصين هي الشريك التجاري الأول من خارج المجموعة بنحو 20% من إجمالي صادرات آسيان و31% من وارداتها، في مقابل 19% و9% للولايات المتحدة على التوالي.
ينسجم صعود الصين مع صعود جنوب شرق آسيا كأكبر قوة مصدِّرة في العالم بعد الصين، لاستحواذها على 10% من إجمالي الصادرات في 2022 مقابل 9% للولايات المتحدة، وإن احتفظت الولايات المتحدة بالصدارة كونها أكبر مستورد في العالم بواقع 13.2% يليها الصين بنحو 10.6%، ومن هنا يأتي العجز الرهيب والمزمن في موازين التجارة الأمريكية.
أفول زمن المعونة الأمريكية
عودةً للشرق الأوسط، حيث تراجع وزن الولايات المتحدة أيضًا كمصدر للاستثمار المباشر، إذ يقدر الصينيون استثماراتهم التراكمية في المنطقة بنحو 273 مليار دولار في 2022، بينما بلغت الاستثمارات التراكمية الأمريكية 80 مليارًا للولايات المتحدة في 2023.
التراجع نفسه طال دور الولايات المتحدة مانحًا للمعونات الاقتصادية، حيث انخفضت نسبة المساعدات الخارجية من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي بشكل مستمر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عندما كانت 5% في 1945 لتصل إلى 0.18% في 2024.
وينعكس تراجع المساعدات الأمريكية على منطقتنا بطبيعة الحال، فهو يعني تقلص فرص دول منطقتنا، وهي تاريخيًا أكبر متلقٍّ للمساعدات الأمريكية في العالم، في الحصول على قدر أكبر من المنح.
ولكن بينما يوضح تقرير مقدم إلى الكونجرس في 2023 أن دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كانت تاريخيًا أكبر متلقٍ للمساعدات الخارجية الأمريكية، بعد أن حصلت بين عامي 1946 و2020 من واشنطن على ما إجماليه 372.6 مليار دولار، لا تفوتنا الإشارة إلى أن جانبًا كبيرًا من هذه المنح كان موجهًا لدعم الجيش الإسرائيلي، ما يضعه في تصنيف العصا لا الجزرة.
واليوم، تُعدُّ أوكرانيا وإسرائيل أكثر بلدين تتلقيان دعمًا خارجيًا أمريكيًا في 2023-2024، بالنظر لطبيعة دورهما العسكري في كل منطقة.
لا تعني التحولات التي طالت وزن ودور الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، وضمنه الشرق الأوسط، أن الإمبراطورية الأمريكية آخذة في الأفول، إذ إنها لا تزال تحتفظ بالصدارة في مسألتين أساسيتين: المال، مع مركزية الدولار كعملة دولية تعتمد عليها الصين ذات نفسها بكثافة في تجارتها واستثماراتها، وإنتاج التكنولوجيا المتطورة، بما فيها ذات الاستخدام العسكري، وهو ما يُرجح استمرارها في لعب دور محوري في الاقتصاد العالمي خلال السنوات المقبلة.
لكن في الوقت نفسه، إذا ما عدنا إلى المجاز الذي بدأنا به المقال، فإن العصا الأمريكية أصبحت أطول بينما الجزرة آخذة في الانكماش، والتطورات في الشرق الأوسط كاشفة عن تحولات تؤشر على أن الولايات المتحدة ستستخدم الأساطيل والقاذفات والقنابل أكثر وهي تخاطب العالم.