لن أسامح من جعلوا الكرة المصرية "كريهة في العموم"
كنت طفلًا مهووسًا بتشجيع منتخبنا الوطني، الذي كان يُسمَّى وقتها المنتخب القومي، لدرجة أني ضربت رأسي في الحائط فرحًا، حين أحرز طاهر أبو زيد هدفه في مرمى المغرب عام 1986 وأنا لم أتجاوز التاسعة بعد. وحين هزمتنا إنجلترا في كأس العالم 1990 بكيت بكاءً شديدًا وفقدت الشهية لأيام، وكنت على وشك تحطيم أحد المقاهي بعد خسارة مصر أمام السعودية 5-1 في بطولة العالم للقارات عام 1999.
عانيت من اكتئاب حقيقي لعدم تأهل الجيل الذهبي للمنتخب إلى كأس العالم 2010 بعد مباراة أم درمان الشهيرة. وفي لحظة تصويب محمد صلاح ضربة الجزاء التي أهلتنا إلى بطولة 2018، صورتني صديقة بالفيديو وأنا فاقد الرشد والصواب.
تشجيع المنتخب كان المناسبة التي تشعرني باللُحمة مع أكبر قطاع من جمهور الكرة المصرية، فأنا قاهريٌّ ومشجعٌ للنادي الإسماعيلي، والأصل عندي الشعور بالوحدة والغربة بين جماهير الأهلي ثم الزمالك. لذا، شكَّلت بطولة الأمم الإفريقية، ولا تزال حدثًا شخصيًا مهمًا لا تنازعه في الأهمية إلا بطولة كأس العالم. فكأس إفريقيا هي المنافسة الأكثر نديةً التي أشعر بنفسي طرفًا مباشرًا فيها، باعتبار غياب مصر عن كأس العالم هو القاعدة وليس الاستثناء.
ذاكرتي تَسَعُ كلَّ مشاعر الفرح والنشوة والحزن والخذلان التي صاحبتني طوال عمري وأنا أشاهد منتخب مصر ينتصر ويُهزم ويُتوَّج ويُهان. تَسَعُ نسخًا من أمم إفريقيا كانت توقعاتي فيها عالية وأصابني كرب ما بعد الهزيمة، وأخرى شاهدتها بحماس حذر، فكافأني المنتخب بالانتصارات.
المتعة الحلال
كيف يمكن إذن بعد كلِّ هذا، أن أجد نفسي أشاهد المنتخب المصري بلا حماس، وهو يلعب في البطولة المفضلة، وكأني أمارس، وفاءً لذاكرتي، مجرد طقس واظبت عليه؟ أفرح فرحًا خافتًا عند إحراز هدف، ولا تتحرك مشاعري حين نخسر. الأمر يقينًا ليس اكتئابًا، لأنني لا أزال أشاهد مباريات الدوري الإنجليزي بحماس وشغف شديدين.
وفي بلد محافظ بشدة يحتاط الناس فيه من سلوكهم العلني ومن تعبيرهم عن ما تجيش به مشاعرهم، كان حب وتشجيع كرة القدم هو المتعة الحلال المتفق على ممارستها جماعيًا في مصر، وهو اتفاق نادر. اجتمع الناس على حب كرة القدم على اختلاف ميولهم الثقافية ومواقعهم الاجتماعية، لتصبح المساحة الأكثر أمنًا في الجدل والاشتباك والمكايدة، وشكَّلت أساسًا لبناء مشاعر من الألفة والوفاق.
كانت كرة القدم حلوى الفقراء. في التسعينيات، كان بإمكان الواحد منهم أن يشاهد أفضل لاعبي القارة الإفريقية في استاد القاهرة مقابل جنيهين أو ثلاثة، يجاوره مُجنَّدو القوات المسلحة بزيِّ الإجازات الزيتي في المدرَّجات المخصصة لهم، في مباريات تُلعَب بعد موعد خروج الموظَّفين وأطفال المدارس مباشرة، ليبتاعوا مأكولات الملاعب رخيصةَ الثمن ومشروباتها محلية الصنع.
ووقت كانت الكرة للجماهير، كفلت الدولة المصرية شبه مجانية مشاهدة مباريات كرة القدم، وهي سياسة كانت لها أبعادها الاجتماعية، باعتبارها جزءًا من رعاية الدولة اليوليويَّة لمحدودي الدخل، عبر الاستثمار في كرة القدم كمنحة تسلية وترفيه تهديها لجماهير الشعب، وتقدمها كواحدة من المُتَع الرخيصة القليلة المكفولة للمصريين، خصوصًا مع تطوُّر تقنيات البث التلفزيوني.
لكن في بطولة الأمم الأفريقية التي نظمتها مصر عام 2006 تأفف كثير من مشجعي الكرة التقليديين من الغزو البرجوازي لمدرجات الاستاد، ومن ارتفاع أسعار التذاكر وتوزيع حصص منها على موظفي وموظفات الشركات المالتيناشونال الراعية للبطولة. بدا وقتها المشهد وكأنَّ هناك قرارًا بتغيير تركيبة الجماهير التي تشكل صورة مصر أمام العالم؛ زاد عدد النساء الجميلات في المدرجات وقلّت الشتائم البذيئة والاندفاع العصبي.
ومع بداية تغير هذه المعادلة في منتصف العقد الأول من الألفية، ظهرت روابط الألتراس التي أسس أولها شباب منتمون إلى طبقات وسطى مدينية على اتصال بالعالم الخارجي عام 2007 بعد ثورة الاتصالات والمعلومات، حملوا معهم ثقافة تشجيع مغايرة للأنماط التقليدية، يختلط فيها الحماس والعصبية الزائدة وتقديس الجماهير، واعتبار التعصب علامة حب وانتماء حميدة، مع بعض الممارسات الطقوسية التي حاولت محاكاة ما تقوم به روابط التشجيع الأوروبية والمغاربية.
أصبحت كرة القدم في مصر متخمةً بالمال والتنابل تتخلف عن العالم من حولها
لكنَّ التحول الجذري حدث مع اندلاع ثورة يناير في مثل هذه الأيام من عام 2011، وكانت روابط الألتراس في مقدمة المشاركين فيها تنظيميًا، مما حوّل جماهير كرة القدم إلى رقم مختلف في نظر الدولة وأجهزتها الأمنية. بعدها، أصبحت كرة القدم عبئًا أمنيًا، وخطرًا في ذاته، بشكلٍ صاغ معه معادلة جديدة وهي أنَّ الكورة ليست للجماهير بل لأعدائها، واتخذ قرار بتفخيخ وتدمير الحالة الجماهيرية الشعبية التي طالما صاحبت نشاط كرة القدم في مصر.
أصبحت كرة القدم شيئًا كريهًا في نظر من يحكمون مصر، ومن هذا المنطلق اتخذوا قرارًا بجعلها شيئًا كريهًا بالفعل وفي العموم، منزوعة الجماهير والمتعة، ووسيلة للإلهاء العصبي ومسرحًا للأراجوزات ومغسلة للأموال، والأهم أنهم جعلوها عنوانًا لمذلة من أحبوها، حتى اعتادوا مشاهدتها قبيحة ومملة.
بيزنس كرة القدم في مصر الآن أضحى مثل أي بيزنس آخر فيها، يشوبه الفساد والغموض ورائحة الأموال المغسولة، تتدفق إليه الأموال بالرغم من عدم الجدوى الاقتصادية للنشاط ككل. والحيز الإعلامي المساند لهذا البيزنس مشبوه ووضيع، والحالة تدَّعي في مجملها التنافسية الرأسمالية والاحترافية، وهي أبعد ما يمكن عن ذلك.
مَن لا ذائقة لهم
في هذه السوق التي يفترض أنها مفتوحة، تحضر الدولة وأذرعها ومؤسساتها كطرف في كلِّ ما يتعلق باللعبة. أصبحت كرة القدم في مصر متخمة بالمال والتنابل، تتخلف فنيًا وتقنيًا وإداريًا عن العالم كله من حولها، بما في ذلك دول إفريقية أكثر فقرًا، حتى باتت مشاهدة المباريات بصدى صوت المذيعين من داخل ملاعب خاوية أمرًا يبعث على الملل.
تموت الأندية الجماهيرية واحدًا تلو الآخر وتنفض عنها جماهيرها في يأس، تجف منابع المواهب الكروية تحت وطأة فساد قطاعات الناشئين وسياسات التوريث لأبناء العاملين وللبرجوازيين الذين يريدون لأبنائهم الاستيلاء على كل شيء، حتى وجدنا أحفاد الطغاة مقيدين في قوائم الأندية الكبرى.
وباستثناء موهبة كروية تظهر بين فينة والأخرى، كتأكيد لشذوذ القاعدة شديدة الفساد، أصبحت الكرة المصرية تشبه أحمد غانم سلطان ومحمود حمادة وعمر كمال ومهند لاشين والناشئ الأبدي محمد هاني، حيث اللاشيء تقريبًا.
يحكمنا من لا يحب كرة القدم ولا يطيقها، مع آخرين لا ذائقة لهم. عديمو الشغف ممن يكرهون الجماهير، ويستخدمون جيفة رياضة كرة القدم في أسوأ مسرحيات الابتذال السياسي الرخيص.
لن أسامح هؤلاء لعشرات الأسباب السياسية والوطنية، ولكن ربما لن أسامحهم قبل ذلك على نجاحهم في سلبي القدرة على حب كرة القدم المصرية المحلية وتجليها في المنتخب الوطني.
لن أسامحهم.