انتهت فعاليات المونديال وفازت اﻷرجنتين بالكأس للمرة الثالثة في تاريخها، في مسابقة تساقط خلالها كبار كرة القدم واحدًا تلو الآخر؛ منذ انطلاقها كانت المفاجآت أو "مخالفة التوقعات" تتحقق على أرض الملعب.
البداية، كانت مفاجأة دور المجموعات. سريعًا في ثاني أيام البطولة تفوز السعودية على الأرجنتين، وتتلقى ألمانيا حامل لقب 2014 هزيمة من اليابان، والمغرب يدك بلجيكا؛ الفريق الذي كان مرشحًا لحصد بطولة ودعها من الدور اﻷول.
تونس تفوز على حامل اللقب فرنسا أما الكاميرون فتودع بفوز شرفي على البرازيل. كرواتيا تواصل مسيرتها في ركلات الترجيح وتُقصي البرازيل بطلة العالم خمس مرات. الإثارة استمرت في دور المجموعات بعدم تحقيق أي منتخب الفوز في مبارياته الثلاثة.
المغرب يتصدر مجموعته ويصطاد إسبانيا والبرتغال تواليًا حتى الوصول لنصف النهائي الدور الذي لم يصله أي منتخب إفريقي من قبل، وينتهي به المطاف في المركز الرابع.
كلها مباريات وأحداث جعلت العنوان الأبرز لمونديال الشرق الأوسط هو "المفاجأة"؛ لكن هل حقًا كل ما سبق كان مفاجآت؟ أم أن التوقعات تُبنى دائمًا على الاسم الأكبر مهما كانت حالته؟
البرازيل في مواجهة الكاميرون وألمانيا أمام اليابان الإجابة والتوقعات ستتجه بنسبة أكبر للبرازيل وألمانيا مهما كانت الظروف لأنهما تتقاسمان تسعة ألقاب مونديالية بينهما. لكن على أرض الملعب بإمكان الكاميرون واليابان تحقيق الفوز وهو ما جرى. كرة القدم بسيطة وأحيانًا لا تحتاج لتعقيدات كثيرة؛ الأفضل يفوز وإن لم يفز الأفضل فالأذكى يحقق ذلك.
جعجعة بلا طحين
ودعت ألمانيا مونديال 2018 في روسيا من الدور الأول؛ خروج أحدث دويًا وقتها فحاملة اللقب خرجت بعد خسارتين من المكسيك وكوريا الجنوبية. وتوقف مشوارها عند الدور الثاني في يورو 2020؛ بين البطولتين فقدَ المنتخب عددًا من عناصره المتوجة بمونديال البرازيل.
لم تفقد العناصر بالاعتزال العادي كبقية المنتخبات؛ مسعود أوزيل اعتزل بضجيج كبير وخطاب طويل تحدث فيه عن التمييز الظالم ضده بعد صورة التقطها مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وعلق "أنا ألماني عندما نفوز ومهاجر حين نخسر".
أوزيل المتوج بكأس العالم ينحدر من أصول تركية لكنه ليس الوحيد فهداف المونديال التاريخي ميروسلاف كلوزه أصوله بولندية وعقب التتويج بلقب 2014 كرمته المستشارة أنجيلا ميركل بجائزة الاندماج في المجتمع الألماني.
وضمّ منتخب 2014 سامي خضيرة صاحب الأصول التونسية وجيروم بواتينج المولود لأب غاني وأم ألمانية.
بعد أزمة أوزيل أعلن مدرب ألمانيا يواخيم لوف أن مات هوميلس وتوماس مولر وجيروم بواتينج خارج حساباته؛ مولر عاد وكان موجودًا في مونديال قطر بالمناسبة، قرارات أثارت جدلًا في ألمانيا بالتأكيد ليست السبب فيما حدث بقطر لكنها ربما تمنحنا فكرة عما كان يحدث في المنتخب الألماني من تخبط في السنوات اﻷخيرة.
ألمانيا بين المونديالين سقطت في يورو 2020 -أقيم صيف 2021 بسبب كورونا- وودعت البطولة من الدور الثاني على يد إنجلترا في آخر تجارب المدرب يواخيم لوف المتوج بكأس العالم مع المانشافات والذي دربهم لمدة 15 سنة.
خروج الألمان من الباب الضيق في قطر مع هانز فليك وما أثاروه من أزمات عن شارة دعم المثليين وتراجعهم بعد رفض الاتحاد الدولي لكرة القدم فيفا، لا يبدو أيضًا السبب كما ألمح أرسين فينجر، رئيس لجنة التطوير بالاتحاد الدولي لكرة القدم.
ببساطة من شاهد لقاء ألمانيا الودي مع منتخب عمان قُبيل المونديال بأيام يعرف جيدًا أن طريق الماكينات صعب للغاية؛ لم يكن منتخب ألمانيا يلعب كما تفعل المنتخبات قبل البطولات الكبرى بحذر خوفًا على لاعبيها من الإصابة، فرغم الفوز المتأخر للألمان على السلطنة لكن الماكينات بدت مُعطلة.
دي بروين لم يؤمن بفريقه
كثر الحديث قبل مونديال البرازيل 2014 عن المنتخب القادم بقوة ليزيح كبار القارة العجوز وكرة القدم بفضل تخطيط استمر لسنوات أسفر عن جيل مميز للشياطين الحمر (منتخب بلجيكا)؛ يضم دي بروين وهازارد وكورتوا ولوكاكو وغيرهم من النجوم.
في البرازيل انتهى مشوار بلجيكا أمام الوصيفة الأرجنتين في ربع النهائي وكانت أفضل مشاركة لهم منذ المركز الرابع في مونديال 1986.
استبشر البعض خيرًا برفاق هازارد وما سيقدمونه لاحقًا لكنهم لم يتجاوزوا عتبة ربع النهائي في يورو 2016 ويورو 2020 وكان الاستثناء الوحيد حصولهم على المركز الثالث في مونديال 2018.
قبل انطلاق مونديال قطر كانت بلجيكا من المرشحين لحصد اللقب؛ ترشيح لم يؤمن به حتى نجم الفريق كيفين دي بروين الذي قال إن منتخب بلاده "عجوز" وأن فرصتهم ضاعت في مونديال 2018.
كلام دي بروين كان منطقيًا والأكثر صدقًا فببساطة بدا مستوى لوكاكو وإيدين هازار في عام 2018 قبل انطلاق المونديال مغاير تمامًا لمستواهما قبل المونديال الحالي، إضافة إلى تسريب شجار بين اللاعبين بعد الهزيمة من المغرب؛ نفاها كورتوا وتوعد من سربها.
أمر آخر يؤخذ على بلجيكا وهو عدم اقتناع البعض بمدربهم روبرتو مارتينيز الذي رحل عقب الخروج من الدور الأول بالمونديال. يُقال عن مارتينيز إنه الحلقة الأضعف، ولو تولى آخر تدريب هؤلاء النجوم لوصلوا ﻷبعد من ذلك.
حصان المونديال اﻷسود
الدور الثاني كان نمطيًا كل من كان متوقعًا تأهله صعد إلى ربع النهائي إلا المغرب؛ المنتخب العربي لم يكن أحد يتوقع عبوره إسبانيا.
قدّم أسود اﻷطلس أداءً يليق بهم؛ في سابق البطولات كانت المشكلات دائمًا تلاحق الفريق رغم امتلاكهم الجاهزية؛ بطولة أمم إفريقيا 2019 بمصر خير مثال؛ أسود الأطلس كانوا ضمن المرشحين لكن الفشل كان حليفهم مع مشكلات لا تعد ولا تحصى بين اللاعبين وحرب على السوشيال ميديا.
الكل يتحدث عن إنجاز وليد الركراكي المدرب الذي تولى تدريب المغرب قبل أشهر قليلة من مونديال قطر؛ وليد يستحق كل ما يُقال عنه فهو حالم يعي تمامًا قدرات لاعبيه. وليد أعاد حكيم زياش لمنتخب المغرب ليقدم بطولة ممتازة وهو الذي امتنع عن اللعب للمغرب مع المدرب البوسني وحيد خليلوزويتش.
لعب وليد مباراة إسبانيا وهو يعي قدراته؛ لا يهم ما سيُقال عنه؛ إن فتح خطوطه فسيستقبل أهدافًا وسيودع من أول ربع ساعة بالمباراة. وسيرُ المباراة ربما خدم فريقه؛ ركلات الترجيح كان عنوانها الأول ياسين بونو حارس إشبيلية الذي تصدى لثلاث ركلات ومنح بطاقة العبور الأولى لبلاده والعرب إلى ربع النهائي.
المغرب واصل وهزم البرتغال المُثقلة بالمشكلات والتقاط صور قائدها كريستيانو رونالدو على الدكة، وما أثير عن امتعاضه ورغبته الرحيل عن معسكر المنتخب.
عامل حاسم للمغرب في البطولة بعيدًا عن الركراكي ولاعبيه هو المدرج؛ المغاربة يتوافدون على قطر بكثافة لحضور المباريات التي تكون وكأنها في مركب محمد الخامس بالدار البيضاء. هتاف الجمهور "سير سير سير" يمكنك سماعه من التلفاز؛ مع دعم عربي كبير من الجماهير الموجودة في قطر سواء داخل الملعب أو خارجه.
اللي تغلب به ألعب به
هناك مثل مصري يقول "اللي تغلب به ألعب به" طبقه بحذافيره المدرب الكرواتي زلاتكو داليتش؛ يعرف قوة بلاده وبراعة لاعبيه في ركلات الترجيح لذا تذهب معظم مبارياتهم لأوقات إضافية. ولعبت كرواتيا في ثماني مباريات وقتًا إضافيًا من آخر تسعة في الأداور الإقصائية بالبطولات الكبرى. وفازت بأربعة منها بركلات ترجيح.
كرواتيا دولة حديثة العهد لعبت أول مونديال في فرنسا 1998 وحصدت المركز الثالث. ولاعبوها يملكون إصرارًا بقيادة لوكا مودريتش لاعب ريال مدريد صاحب الـ 37 سنة، الذي يثار جدل دائم حول مجهوده المبذول في ذلك السن.
هل أسلوب كرواتيا هو الأمثل لمحبي كرة القدم؟ الإجابة لا، البعض يرى تأهلها على حساب البرازيل انتصارًا لكرة القدم القبيحة لكن بنظرة مغايرة، هل تحظر قوانين كرة القدم ذلك النوع من اللعب؟ الإجابة أيضًا لا.
البرازيل هي البرازيل، لاعبوها يملكون مهارات فريدة وحبًا كبيرًا للعبة لكنهما لم يكفيا للفوز. مباراة البرازيل الأولى ضد صربيا خلقت أحلامًا وردية لعشاق كرة السامبا الجميلة حتى الخسارة من الكاميرون لم يتوقف عندها كثيرًا لأن البرازيل عادت وهزمت كوريا الجنوبية برباعية في ثمن النهائي.
كرواتيا كانت الخصم الأبرز الذي واجهته البرازيل وفشلت في اجتيازه؛ هل هي مشكلة كرواتيا؟ الإجابة لا أيضًا، لأن ببساطة الأبرع من يفرض أسلوبه على أرض الملعب.
الموت حبًا في ميسي
"مستعد للموت فداءً لميسي" كلمات قالها الحارس الأرجنتيني إيمليانو مارتينيز، الذي تصدى في آخر المباريات لركلات الترجيح وتوج منتخبه باللقب أمام الديوك الفرنسية. حديث مارتينيز تكرر كثيرًا منه ومن زملائه؛ ربما الروح التي تشتعل في صفوف التانجو غطت على بعض النواقص والعيوب في الفريق.
راقصو التانجو في السنوات القليلة الماضية افتقدوا وجود حارس مميز؛ حتى وجدوا ضالتهم في إيمليانو مارتينيز حارس أستون فيلا الذي كان مساهمًا كبيرًا في التتويج بكوبا أمريكا على أرض البرازيل 2021.
ميسي وديبالا العائد من إصابة والذي لم يعتمد عليه المدرب سكالوني طوال المونديال وادخره لركلات الترجيح اﻷخيرة، والنجم الصاعد جوليان ألفاريز وخبرة دي ماريا ومارتينيز هم أبرز عناصر التانجو الأرجنتيني.
فوز السعودية على الأرجنتين في أولى مبارياتهما بالبطولة ربما يوازي فوز الكاميرون على راقصي التانجو بطلة العالم في مونديال 1990؛ هي مباريات لا تعترف بالأسماء لأن كرة القدم لا تُلعب بالاسم؛ بل بالجهد وكيفية استغلال أخطاء منافسك وهو ما أجادته السعودية وفشلت فيه الأرجنتين في أولى مبارياتها.
ما بعد ذلك وحتى ختام المونديال بمباراة درامية، انتهى وقتها الرسمي والإضافي بالتعادل "3-3"، كانت اﻷمور منطقية، فالنتائج التي وصلنا إليها كانت متسقة مع المقدمات، وليست مفاجآت كما تكتب العناوين الصحفية لجذب القارئ.