يوم الأحد الماضي، شعرت بغضب حقيقي نحو محمد صلاح، غضب تجاوز غضبي من موقفه المخزي مما يحدث في فلسطين. أغضبني محمد صلاح للسبب الحقيقي الذي جاء إلينا من أجله، عندما كاد أن يتسبب في ابتعاد ليفربول عن المنافسة على لقب الدوري، لو كان هُزم أمام مانشستر يونايتد.
أدى صلاح المباراة برعونة لم نعتدها منه، وبأداء باهت وتركيز منعدم، لدرجة أنَّ يورجن كلوب فقد أعصابه على الخط. كان صلاح قبل إحرازه هدف التعادل لليفربول من ضربة جزاء، على وشك الفشل الحقيقي المؤكد؛ كلاعب كرة قدم أسطوري يحتاج فريقه إلى جهوده وإسهاماته في الأوقات الصعبة، من أجل الفوز بالألقاب.
من بين أندية كرة القدم الإنجليزية، أشجع نادي ليفربول منذ مطلع القرن، حبًا ووفاءً لستيفين جيرارد، متوسط الميدان الموهوب الذي تحمَّل عبء قيادة فريقه وهو في سن المراهقة وملامح وجهه لا تزال قيد النحت والتشكل، حمَّال الأسية المحاط بحفنة من الأغبياء ومتوسطي الموهبة، يشاركونه خذلانًا محتومًا.
كان جيرارد عندى معادلًا كرويًا لهكتور وسط أهل طروادة في الإلياذة؛ البطل المضطر إلى البطولة وسط أهل وعشيرة لا يكترثون بتضحياته وحكمته لأنهم غارقون تمامًا في أوحال ضلالاتهم، كان جيرارد بطلًا مقبورًا بنهايات الإخفاق، وأنا لا أتوقع النهايات السعيدة على أيِّ حال.
التورط عاطفيًا مع لاعب ينفجر
عندما التحق صلاح بليفربول في صيف 2017، كنت مسرورًا فقط لأنه سيلعب في صفوف فريقي المفضل، ولم تكن توقعاتي منه أو من زملائه عالية، لكنَّ ما حدث في ذلك الموسم لم يكن في حسبان أحد. انفجر محمد صلاح كرويًا لدرجة كان صعبًا معها عدم التورط معه عاطفيًا، وكذلك مع يورجين وتجربته التدريبية الملهمة.
تبدَّت ذروة هذا التورط في نهاية هذا الموسم، عندما أصيب صلاح في نهائي دوري أبطال أوروبا 2018 أمام ريال مدريد، ليغادر الملعب باكيًا قبل أسابيع قليلة من انطلاق كأس العالم التي تشارك فيه مصر لأول مرة منذ عام 1990. في هذه الأيام تحولت إصابة محمد صلاح إلى مصاب قوميِّ بحق، وأصبح لحاقه بكأس العالم أملًا تدعو من أجله الملايين.
لكنَّ مشاركة مصر في كأس العالم جاءت مخيبة للآمال وهزيلة المستوى والمردود، خاصة في المباراتين اللتين شارك فيهما صلاح. أغضبتني كثيرًا رعونته في مباراة السعودية وعدم اكتراثه وهو يضيّع انفرادًا كان بإمكانه تأكيد فوز تحول إلى خسارة. بعدها بعام، وبينما كنت غارقًا لقمة رأسي في متابعته بشغف وهو يفوز بدوري أبطال أوروبا مع ليفربول، كنت في قمة نقمتي عليه بسبب موقفه المخزي بدعم اللاعب المتحرش عمرو وردة، بدعوى الحفاظ على "وحدة صف المنتخب".
أنا لا أعظ هنا القارئ الغاضب من مواقف محمد صلاح السياسية والحياتية، مثلما لا أفعل المثل مع القارئ الذي يدعمه على طول الخط، دعمًا غير مشروط لأنه فخر مصر والعرب والنجاح والتحقق. جل ما في الأمر أننى هذبت حركة بندول مشاعري نحو النجم الذي أحب، وتذكرت أنه في النهاية لاعب كرة قدم، يصعد على المسرح أسبوعيًا ليقدم فقرة في عرض شديد الاحترافية والتنافسية، وعليه الحفاظ على توهجه وتألقه من لحظة فتح الستار وحتى لحظة إسداله.
شغفنا الشديد بكرة القدم من ناحية، وإحباطاتنا العامة والخاصة من ناحية أخرى، ينسيان كثيرين منا أننا نحب محمد صلاح لأكثر الأسباب بداهة، وهي كونه لاعب كرة قدم ممتعًا، لو لم يكن صلاح هدافًا ومراوغًا وصانع أهداف وممرًا ثابت المستوى، قادرًا على إمتاعنا أسبوعيًا وبلا توقف لسنوات، لما اهتممنا ببقية شؤونه؛ مواقفه السياسية وحجاب زوجته وما العيد الذي يحتفل به بشغف أكثر.
لو أنَّ صلاح يقدم كرة القدم التي يقدمها محمد مجدى أفشة مثلًا، لما تذكرناه من الأساس إلا عبر الترندات المقحمة المفتعلة مدفوعة الأجر، التي يقوم بها البعض للفت الانتباه من أجل البقاء في دائرة الضوء أطول وقت ممكن.
ربما كانت هي السوشيال ميديا وتصاعد ظاهرة "المؤثرين" و"صناع المحتوى"، كبديل عن المنتجين الفعليين للقيمة الخالصة، فأنت في هذه الأيام تتابع فلان أو علان لأنه نجم أو مشهور، وتنسى في وسط متابعتك لهؤلاء المشاهير، ما الذي جعلهم مشاهير من الأصل، ما هي القيمة التي أضافوها لتجعل منهم شخصيات ذات شعبية واسعة.
ننسى أنَّ عمرو دياب مشهور لأنه في الأصل يغني جيدًا، وأنَّ لورديانا مشهورة لأنها ترقص جيدًا، وأنَّ محمد صلاح مشهور ومهم، لأنه ببساطة لاعب استثنائي.
شريحة "مو" في رأس "محمد"
في الحقيقة، عندما يتوقف محمد صلاح عن إمتاعنا كرويًا، لن نكترث ببقية تفاصيل حياته. يفهم محمد صلاح ذلك جيدًا، لأنه في أكثر من موضع وأكثر من مرحلة، وصف كرة القدم بأنها "أكل عيشه"، قالها وهو لاعب محلي وقالها وهو نجم صاعد في الملاعب الأوروبية وكررها وهو أحد أساطير اللعبة المعاصرين، يقولها بالعامية المصرية التي نفهم دلالات كلّ كلمة فيها.
لا يختلف محمد صلاح عن باقي سكان كوكب الأرض وإن أصبح من بين أغناهم
وصف صلاح كرة القدم بأنها أكل عيشه، ونحن نستخدم هذا اللفظ في اعتراف صريح بالاضطرار إلى العمل فقط من أجل توفير الحاجيات الأساسية للإنسان، وغالبًا ما اقترن أكل العيش بالتنازل عن قيمة ما.
أكل العيش هو الأمر الذي لا هزل فيه ولا اختيار، الأمر الذي يتفق عليه كلُّ المصريين كعلِّة للتنازل عن بعض ما هو معنوي وقيمي من أجل الحاجة. لم يختلف محمد صلاح عن باقي سكان كوكب الأرض، وإن أصبح من بين أغناهم.
وعلى عكس ما يدعي الكثيرون، لم ينسَ محمد صلاح أصله، ولم يتحول إلى Mo كما يسخر منه البعض، بل تم تركيب "مو صالا" ذي المينتاليتي الاحترافية الإنجليزية كشريحة في مخ محمد صلاح المصري ابن نجريج، الذي كان يركب أكثر من مواصلة شاقة في اليوم ويقضي الساعات مسافرًا ليحافظ على "أكل عيشه" مع ناشئي المقاولون العرب في بدايات مشواره الكروي.
يخوض لاعبو كرة القدم في مصر وإفريقيا وكثير من بلدان أمريكا الجنوبية رحلة صعود اجتماعي صاروخي، قادمين من طبقات مهمشة أفقر، ومناطق أبعد، وينتمون إلى أعراق أقل حظًا. في هذه الرحلة، يعض هؤلاء بالنواجذ على ما أنجزوه.
وفي بلد مثل مصر، يتذكر لاعب كرة القدم رحلته جيدًا، يعي ما هي السلطة وما هي الثروة وما هو القهر، ويسعى للتمسك بالمواقع الاجتماعية الجديدة التي تأبطها ما استطاع. ولهذا السبب بالذات، فالاستثناءات نادرة، وإن وُجدِت عبدتها الجماهير.
وفي هذا الصدد، محمد صلاح ليس استثناءً، إنه لاعب كرة القدم الممتع الذي يداوم على تذكيرنا بأنه فرد وأنه ينزعج من أن يتوقع منه الناس أكثر من كونه لاعب كرة قدم محترفًا.
حسنًا يا صلاح، رجاءً لا تُضيِّع الدوري، ساعدنا على الظفر به.