تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
المكانة التي حظي بها مارادونا في نابولي لا تُفهم بعدد أهدافه وبطولاته، بل بتدنيسه للنظام السائد

قديس مدينة البيتزا والبراكين

نابولي التي توهجت عندما جاء مارادونا

منشور الثلاثاء 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

قبل صيف عام 1984، كانت مدينة نابولي في الجنوب الإيطالي تشتهر بالبراكين والبيتزا، وكلتاهما تنطوي على ذكريات مريرة لسكان تلك الجغرافيا المنسية. فالبراكين تضع حياتهم على المحك، وتصهر بحممها آمالهم ومشاريعهم المستقبلية، أما البيتزا، بمكوناتها الشحيحة، فتُذكِّرهم بفقرهم وشظف عيشهم. 

ثم جاء دييجو أرماندو مارادونا. ليُضيف عنصرًا آخر إلى شهرتها، ويصبح أجمل أحلامها، حينما وافق اللاعب الأفضل والأبرز وقتها على الانتقال إلى صفوف نادي المدينة في قرار فاجأ الجميع وعلى رأسهم سكان نابولي أنفسهم. فكل المؤشرات من شهرة اللاعب، وثراء نادي برشلونة الذي جاء منه مقارنة بإمكانات نابولي المتواضعة، كانت تجعل خيار انتقال مارادونا إليهم محض حلم. لذلك، وتأسيسًا على هذه اللحظة، بدأت العلاقة الأبدية بين مارادونا ومدينة نابولي، وصارا قرينين لا يُذكر أحدهما دون الآخر.

منح مارادونا قبلة الحياة لمدينة في جنوب إيطاليا لا يراها أحد، وجعل لصراخ سكانها صدىً يسمعه العالم بأسره. مدينة لم تلعب دور البطولة إلا مع قديسها ذي الشعر المبعثر.

أكثر من 90 دقيقة

ملصق لمارادونا في أحد شوارع نابولي، إيطاليا. صورة ملتقطة في أبريل 2019

لا تُفهم المكانة التي حظي بها مارادونا في نابولي بالأهداف التي أحرزها والبطولات التي حققها رغم أهمية ذلك في تاريخ النادي الجنوبي الذي لم تكن له قبل مارادونا بطولات تُذكر، وبمجيئه حقق لأول مرة في تاريخه بطولة الدوري الإيطالي مرتين وكأس الاتحاد الأوروبي مرة.

لكن كل هدف سجله مارادونا مع نادي نابولي كان تدنيسًا للنظام السائد، وانتهاكًا له، وانقلابًا مضادًا لمسار التاريخ، كما وصفه الكاتب الأوروجوياني إدواردو جاليانو. هناك لاعبون مثل كريستيانو رونالدو وليونيل ميسي أحرزوا أهدافًا أكثر منه، وحققوا بطولات أضعاف ما حقق، إلا أن علاقتهم بمدن الأندية التي لعبوا لها لم تتعدَّ التسعين دقيقة، زمن المباراة، بخلاف مارادونا الذي نظر له سكان نابولي بشيء من القداسة، ووضعوه في رتبة واحدة مع قديسهم وشفيعهم جينارو، بل تطرَّف بعضهم وعدَّه قديسًا قام بمعجزات رأوها وعاينوها.

في فيلمه يد الله، يحكي المخرج الإيطالي باولو سورينتينو عن مراهقته التي شكّل مارادونا ومدينة نابولي اثنين من أضلاعها. يبدأ الفيلم بشاشة سوداء، وعليها عبارة لمارادونا؛ "فعلتُ ما بوسعي. لا أظن أن مستواي كان سيئًا للغاية"، وكأنه من خلال ذلك التمهيد أراد القول إن طلاسم مدينة نابولي لا يفكها إلا عاشقها البار.

تتخلل أخبار انتقال مارادونا لفريق المدينة الأحاديث العائلية، وحينما يتأكد خبر انتقاله، يستيقظ جميع سكان نابولي ليلًا، ويتناقلونه بينهم، مهنئين بعضهم بعضًا بملابس النوم. يجلس سكان المدينة بخشوع وهم يشاهدون مباريات المنتخب الأرجنتيني في كأس العالم 1986. إلا أن تلك التفاصيل ليست وحدها التي تتغلغل في يومهم؛ فكل شخص في نابولي عاصر حقبة مارادونا لديه معها ذكرى تخصه، وتتناسل منها مشاعر وعواطف رسمت حياة من عاشها وانخرط فيها.

ففي إحدى عطلات نهاية الأسبوع، يقرر والدا فابيتو بطل الفيلم الاستجمام في نُزُلهم الجديد في منتجع روكاراسو، الذي يبعد مسافة ليست بالقصيرة عن نابولي، فرفض مرافقتهم، وقرر البقاء في منزلهم لمشاهدة مارادونا. ليموت والداه نتيجةً لتسرب الغاز، وينجو هو من تلك الكارثة. وعندما سأله العم ألفريدو أحد أفراد العائلة عن عدم سفره رغم أنه يحب التزلج، رد قائلًا "نابولي كان يلعب، وكان عليّ مشاهدة مارادونا"، ليطلق العم ألفريدو جملته: لقد كان هو من أنقذك.. لقد كانت يد الله.

https://www.youtube.com/watch?v=i_1VW_0i6vo

مسرح مارادونا الكبير

مارادونا ونابولي، المتمرد الذي نحب فيلم تسجيلي أنتجته الجزيرة الوثائقية، يفتتحه المصور الصحفي سيرجيو سياني بمقدمة مشحونة بالعاطفة والامتنان لمارادونا، مخاطبًا إياه "أنا أدين لك بالفضل. فحضورك كان دائمًا مهمًا في حياتي. كنتُ محظوظًا لأنني أعربتُ لك عن مودتي، وأنك قد لمستها من قرب. ومن يوم مماتك، زاد حضورك وصار أكثر قوة من ذي قبل. ليس فقط بالنسبة لي، بل للمدينة بأكملها. أتمنى من كل قلبي أن يصلك هذا الحب الجارف. سأبذل كل جهدي لإظهار ذلك".

ثم يبدأ في عرض طبيعة الحياة في نابولي قبل مارادونا، حيث نشأ في الحي الإسباني، أحد أحياء المدينة العتيقة التي عانت من الزلزال العنيف الذي ضربها في بداية الثمانينيات. لم يدمر المباني فحسب، بل هتك النسيج الاجتماعي والسياسي بأكمله. ونتيجةً لذلك، صارت حياة المدينة رهينةً في يد عصابات مافيا كامورا المنظمة، وصارت المدينة مسرحًا لصراع أجنحة تلك العصابات، المقتتلة فيما بينها للظفر بالأموال المخصصة لإعادة الإعمار.

وقتها، كان سياني طفلًا صغيرًا في عائلة تحترف التصوير الصحفي، عايَش ما يحدث في الخارج من تصفيات وقتل ودماء. خلَّفت تلك الأجواء المملوءة بالخوف والترقب وانعدام الأمان آثارًا سلبية انعكست على كل مجريات حياته. وحينما كبر، تمكّن من الحصول على وظيفة مصور صحفي بمساعدة أبيه وأخيه، وبدأ بتغطية جرائم القتل والاغتيالات فأصبح عرضةً لها، وصار الخوف والترقب والتهديد جزءًا من حياته.

إرادة الناس لا السلطة هي التي غيَّرت اسم ملعب نابولي الرئيسي إلى "دييجو أرماندو مارادونا"

وسط تلك الأجواء، كان هناك مكان وحيد جميل ومبهج ينقله لعالم آخر، بعيدًا عن منظر الجثث ورائحة الدماء، وهو ملعب متواضع لكرة القدم اسمه كامبو باراديسو. لم تكن تجربة سيرجيو سياني منفصلة عن تجارب أبناء جيله وأقرانه في نابولي، الذين وجدوا السلام في ذلك الملعب الذي كان يتدرب فيه دييجو.

هكذا ألهم مارادونا جيلًا بأكمله وانتشله من الضياع والجريمة. في ختام الفيلم، يستعير سيرجيو سياني لسان كل من عاصر مارادونا من سكان نابولي، قائلًا "مارادونا كان دومًا في صف شعوب جنوب العالم. أقصد بالجنوب هنا كل الشعوب المستضعفة والمضطهدة. كان صوته دائمًا حاضرًا معهم، متحدثًا عنهم، ومناصرًا لهم. كان يعلم بأن صوته سيصل، ولذلك لم يتقاعس أبدًا في دوره هذا. نحن النابوليتانيين صرنا إخوة لكل هذه الشعوب المغلوبة، ويجمعنا حبنا لمارادونا. صار هو المؤلف لقلوب هؤلاء الإخوة. لكل ذلك، فهو ليس مجرد لاعب كرة، ومع ذلك لا يمكننا نسيان كونه رياضيًا فذًّا. فلم تعرف كرة القدم مثله، ويتأكد ذلك من مهاراته في إحراز الأهداف، التي كنا نعتبرها أهدافنا نحن".

لم تنسَ نابولي حلمها الأجمل، وتفننت في إبداع كل الصور والأشكال التي تجعل من حضوره طاغيًا، وإن توالت الأيام والأحداث.

في الحقبة السوفيتية (1922-1991)، درجت السلطات على تغيير أسماء بعض المدن، وإطلاق أسماء بعض القادة عليها. فغُيّرت سانت بطرسبرج إلى لينينجراد على اسم القائد الشيوعي فلاديمير إيليتش لينين، وغُيّرت فولجوجراد إلى ستالينجراد على اسم خليفته جوزيف ستالين، في محاولة لتأبيد حضورهم. لتعود أسماء تلك المدن إلى أصلها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ويُخرج التاريخ لسانه هازئًا بهشاشة السلطة وتهافتها على الخلود بأي شكل أو ممارسة، حتى وإن عارضت إرادة الناس.

لكن إرادة الناس، لا السلطة، هي التي غيَّرت اسم ملعب نابولي الرئيسي، وثالث أكبر ملعب في إيطاليا، من "سان باولو" إلى "دييجو أرماندو مارادونا". هي نفسها إرادة الناس التي جعلت من المدينة مسرحًا هائلًا ينطق كل ما فيه بإرث دييجو مارادونا. فالجداريات التي تحمل صورته تزين أغلب واجهات المباني، والصغار الذين يلعبون الكرة في الأزقة، أغلبهم سُمِّي "دييجو" تيمنًا بقديسهم، والمطاعم تقدم بيتزا أُطلق عليها اسم "مارادونا". في أحد المقاهي، تجد ركنًا فيه خصلة من شعر مارادونا حصل عليها صاحب المقهى بالصدفة، يأتي الناس ليتبركوا بها.

لم تعد نابولي بعد مارادونا كما كانت قبله، صارت أكثر لمعانًا وسطوعًا، فارقت هامشيتها وأدوارها الثانوية. فمع ابنها البار، عرفت دروب الفوز، ويُحقق ناديها مرة أخرى الدوري الإيطالي للموسم الكروي 2022–2023، لتسترجع الجماهير أهزوجتها الخالدة:

أمي، يا أمي

هل تعرفين لماذا يدق قلبي؟

لقد رأيتُ مارادونا، نعم، رأيتُ مارادونا

يا أمي، أنا أعشقه.