لسنوات كثيرة ظل النجم المصري محمد صلاح محور صراع افتراضي على السوشيال ميديا، وعبر العديد من المنصات الإعلامية، لأمور ربما لا تتعلق كلها بكرة القدم، فأرقامه القياسية التي لم يسبقه إليها لاعب عربي آخر، وتجاوزت حتى نجوم قارته السمراء، رفعت سقف توقعات الجماهير تجاه كل فعل يبديه/لا يبديه داخل المستطيل الأخضر وخارجه.
وربما ذلك ما جعل لصلاح مكانًا دائمًا داخل مقارنات عديدة، تستهدف البعد الاجتماعي الذي يشغله حضوره، تجاوزت العرب، الذين يحلوا للمصريين أن يلقبوه بـ"فخرهم"، إلى آخرين من رموز اللعبة المعاصرين مثل ميسي ورونالدو وساديو مانيه ورياض محرز، وآخرين ممن سبقوه أمثال إيتو ودروجبا وغيرهما.
ذلك اللقب، رغم أنه محدود في النهاية بمساحته القومية، هو ما يربط صلاح كمؤثر، وليس مجرد رياضي ناجح، بكل ما يُطرح من قضايا سياسية واجتماعية على الصعيد الإقليمي، وفي وقت تشهد فيه المنطقة العربية توترات أكثر من المعتاد، تفرض على الشعب الفلسطيني حربًا ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفي حين سارع عدد من النجوم لإدانة ذلك الاعتداء الغاشم، أو على الأقل إظهار التعاطف مع أهل غزة بعدما تعرض القطاع لأشكال صعبة من الاعتداء والتدمير، لم يحرك نجم ليفربول ساكنًا، ما جعله عرضة لموجة عالية من الانتقادات.
تعاطفًا مع غزة
ارتباط الرياضيين العرب بدعم القضية الفلسطينية ليس وليد الأزمة الأخيرة، ولا يخفى على أذهان المتابع المصري والعربي صورتي أبو تريكة بقميص غزة في 2008، أو المالي فريدريك كانوتيه لاعب إشبيلية الإسباني الشاب، اللذان تعرضا بسببها لعقوبات إدارية بدعوى "الزج بالسياسة" فيما هو رياضي.
وإن كانت عقوبات الإيقاف أو الغرامة المالية قد تضاعفت مع الزمن، وصولًا إلى تلويح عدة عواصم وحكومات أوروبية بعقوبة السجن لمن يظهر دعمه لفلسطين، فإن ذلك لم يمنع، مثلًا أُنس جابر نجمة التنس التونسية والمصنفة خامسة عالميًا، بجانب محمد النني نجم أرسنال الإنجليزي والصديق المقرب لصلاح من إبداء دعمهما للشعب المكلوم.
صديق آخر مُقرب لصلاح، وهو أحمد حسن "كوكا"، لم يعبأ بإمكانية أن يتعرض لهجوم من داعمي إسرائيل في الملاعب الأوروبية، على دعمه فلسطين بكلمات مؤثرة.
أن تأتي متأخرا...!
مر اليوم الأول من القصف الإسرئيلي على غزة ثم الثاني فالثالث، وصلاح صامت، حتى تحرك، ربما مدفوعًا بانتقادات الجماهير، للتفاعل أخيرًا مع ما يجري على الساحة.
لم يظهر ليتحدث عن فلسطين، أو يضع شارة تضامنية مثلما فعل كثيرون غيره من المشاهير العرب، وإنما تسربت أخبار عبر منصات إعلامية عدة تقول إنه تبرع للهلال الأحمر الذي يُقدم مساعدات لضحايا العدوان الإسرائيلي.
ربما يبدو تصرفًا مثل ذلك كاف، لأنه أكثر فاعلية من الدعم بالرمز أو الكلمة، لكنه لم يوقف سيل الانتقادات ضده بل زاد من حدتها، واتهمه متابعوه، الذين فقدو مليونًا من قوامهم على فيسبوك، بسوء التصرف، ففي رأيهم غزة ليست بحاجة إلى الأموال وإنما إلى الدعم المعنوي.
امتزجت تعليقات الغاضبين عبر السوشيال ميديا بالسخرية أيضًا، خاصة وأن الثقافة العربية المحافظة تثمن من شأن إخفاء التبرعات والأعمال الخيرية، وتعد الإعلان عنها شكلًا من أشكال الفخر الممجوج، خاصة وأن الدعم المعنوي أو الموقف المساند المعلن في الحالة الفلسطينية، من شأنه أن يصحح الإشاعات المغرضة التي تروج لها إسرائيل.
حتى أن عمرو أديب، وهي من المرات النادرة التي يوجه فيها إعلامي انتقادًا صريحًا لمحمد صلاح، طالبه في إحدى فقرات برنامجه الحكاية أن يخرج عن صمته، ويتخذ جانبًا داعمًا للقضية الفلسطينية، وهو التصريح الذي زاد من سخط الجماهير التي كانت تنتظر موقفًا أفضل من نجم ليفربول.
مواقف صلاح السابقة
يعزو كثيرون موقف صمت محمد صلاح عبر حساباته على السوشيال ميديا، إلى أنه جزء من منظومة تدير موهبته، وتخطط له حياته بدءًا من أكله وشربه ونومه حتى ما يدلي به على السوشيال ميديا، خاصة أن الأخيرة تتولى إدارتها شركة خاصة، مؤكدين أنه "ليس هو من يدير تلك الحسابات وبالتالي لا يتحكم في محتواها".
في المقابل يلوح آخرون بأن ذلك لا يمنعه من إبداء أي موقف دعم أو رأي خاص، مثلما سبق وفعل في أزمة اتهام لاعب المنتخب المصري عمرو وردة بالتحرش، والذي دعمه صلاح، رغم القوانين والأدبيات الأوروبية التي تدين التحرش الجنسي بكل درجاته وتجرمه.
كذلك فإن لصلاح مواقف دعم عديدة، سجلها خلال السنوات الأخيرة، تضامنًا مع ضحايا بعض الأحداث المأساوية العالمية؛ منها الزلازل التي وقعت في سوريا وتركيا وخلفت آلاف الضحايا، في فبراير/شباط من العام الجاري، أو الشعب المغربي إثر حادث مماثل خلف مئات الضحايا.
المعروف أن صلاح يحصل على مقابل مادي ضخم إثر استخدام بعض حساباته على السوشيال ميديا تصل إلى 131 ألف إسترليني عند نشر أي صورة له على إنستجرام مثلًا، الأمر الذي يجعله ينشط بشكل كبير على موقع الصور كبقية نجوم الكرة في العالم، من خلال لقطات من التدريبات والمباريات أو حتى المناسبات الاجتماعية. وإلى جانب نشر المواد الإعلانية ضمن الحملات التي يشارك فيها، فإن النجم المصري عادة ما ينشر بعض البوستات في المناسبات الاجتماعية والدينية.
أمام قبة الصخرة
اللافت في صمت صلاح الحالي، أنه نفسه الذي رفض مصافحة لاعبي مكابي تل أبيب في أغسطس/آب من عام 2013، خلال مباراة جمعت فريقه بازل وقتها والفريق الإسرائيلي في دوري أبطال أوروبا، وهو ما أثار وقتها استياء لاعبي وجماهير المنافس، لكن رده كان قاسيًا بأن سجل وسجد محتفلًا بتفوقه في الملاعب الإسرائيلية.
في تلك الفترة كان اليافع صلاح، ذو الـ20 عامًا، نموذجًا للشاب الناجح الذي يشق طريقه في عالم الاحتراف، لكنه بالطبع لم يكن بالشهرة والمكانة نفسيهما اللذان يشغلهما حاليًا، فقد كان أقصى طموح الجماهير المصرية أن تراه لاعبًا أساسيًا في صفوف بازل، وتزداد الفرحة بتسجيله هدف أو أكثر.
وفي ذلك الوقت الذي واجه فيه الفريق السويسري نظيره الإسرائيلي، كانت مواقف صلاح قوية لصالح القضية الفلسطينية، فـكتب معلقًا "إنني أدعو جميع قادة العالم، بما في ذلك رئيس وزراء البلد الذي كان موطنًا لي طيلة السنوات الأربع الماضية، إلى بذل كل ما في وسعهم للتأكد من توقف العنف وقتـل الأبرياء على الفور. لقد طفح الكيل"، كذلك قام بتغيير صورة حسابه الشخصي إلى صورة مسجد قبة الصخرة تضامنًا مع فلسطين.
لماذا كل هذا الغضب؟
يعتقد الكثير من الجماهير العربية أن قيمة صلاح بالنسبة للملاعب الأوروبية، كلاعب عربي مُسلم ربما تفرض عليه واجبات تجاه الهوية العربية، من بينها نصرة القضايا التي تحتاج لصدى أوسع على الصعيد العالمي، وإظهار الصورة الصحيحة لتلك القضايا، لكن ما زاد الغضب الجماهيري ضد النجم العربي هو أنه سبق أن استغل حساباته على السوشيال ميديا في أمور ربما تبدو أقل أهمية؛ مثل الدعوى للرفق بالحيوان، أو التبرع بقميصه لصالح إحدى جمعيات الرفق بالحيوان في مصر.
آخر ما نشره صلاح بشأن فلسطين هو صورة له أمام مسجد قبة الصخرة في القدس، دون أي تعليق وذلك في مايو/أيار عام 2021، تزامنا مع اقتحام إسرائيلي للمسجد الأقصى، والاعتداء على المصلين.
هل تغير الفرعون؟
يربط البعض بين مواقف صلاح الأخيرة، وتجاهله بعض الأحداث ذات الهوية العربية، ووجود الكولومبي ذو الأصول المصرية رامي عباس، وكيله ومدير أعماله والمتحكم الأساسي في الكثير من قرارات ومنشورات النجم المصري.
عباس كان في الكثير من الأحيان يتحدث بلسان صلاح، وينفي أو يؤكد أنباءً تخص "الفرعون الذهبي"، ما يعني أنه متحكم إلى درجة كبيرة فيما يقوم به اللاعب، واصطحابه له في العديد من المناسبات يعكس قربه منه والثقة الكبيرة بينهما، ما يجعل انخراط صلاح بالتعليق على أي حدث عالمي محسوب، وربما مرهون بحسابات المكسب والخسارة، فقد أكسبه بوست التعزية في وفاة الملكة إليزابيث شعبية أكبر على الصعيد البريطاني، لكنه أفقده بعض التعاطف في مصر والمنطقة العربية، بالنظر إلى التاريخ الاستعماري لبريطانيا في عهد الملكة الراحلة، من بينها مصر نفسها التي خضعت للاحتلال البريطاني لأكثر من 70 عامًا.
في النهاية انتظر الشباب العربي كثيرًا، ولا يزالون ينتظرون ممن يرونه قدوة للكثيرين من بني جيلهم، أن يكون أكثر جرأة خاصة فيما يخص قضايا الهوية والوطن، ما أصاب البعض بالإحباط سواء بالمقارنة مع نجوم آخرين لم ترعبهم فزاعة "معاداة السامية"، أو الخوف من مستقبل مظلم قد ينتظرهم، أو علاقة متوترة مع جماهير أو إدارة، أو حتى بسبب قيمة صلاح نفسه وأهمية مشاركته في هذا الدعم والتضامن.