نصف قرن يفصل بين عام 1942، الذي رُزق فيه الأمريكي الإفريقي الفقير كاسيوس مارسيلوس كلاي بابنه الذي سيصبح اسمه لاحقًا محمد علي؛ و1992، سنة ميلاد محمد، ابن فلاح الدلتا المصري البسيط صلاح حامد محروس غالي.
خمسون سنة تأرجحت بين عهد التمرد والتحرر في الستينيات والسبعينيات، وعهد الحلول الفردية والهجرة في التسعينيات وعشرية القرن الجديد.
عندما مات أيقونة الرياضة والسياسة والتحدي محمد علي كلاي في 2016 عن 74 سنة، أقيمت له جنازة رسمية تحت قبة الكونجرس بعد أن تصالحت الدولة معه، ومع نفسها تجاه مواطنيها السود. وفي غضون أيام، ظهر صلاح في قريته مرتديًا تيشيرت عليه اسم "محمد علي"، فقد كان قدوته.
لكنَّ المقاربة بينهما تتوقف هنا، طالما أنَّ الفكر السياسي المهيمن للقطب الواحد، وشعار الرأسمالية السائد، هو عدم خلط الرياضة بالسياسة؛ أي حظر التعليقات السياسية للرياضيين أثناء مشاركتهم في أحداث رياضية، وهو يشبه حظر قيادة المخمورين أو "عدم خلط البنزين بالكحول" لأنهما "دونت ميكس"؛ don’t mix/لا يختلطان على حد تعبير الرئيس الراحل محمد مرسي في حديثه مع الجالية المصرية في ألمانيا.
التمرد على الاسم والدين
حين كان عمره 19 سنة، قرر الملاكم الصاعد والناشئ كاسيوس كلاي الابن تغيير ما اعتبره "اسم العبودية" إلى "محمد علي"، بعد تركه المسيحية واعتناق الإسلام، متأثرًا بأفكار جماعة "أمة الإسلام" لمؤسسها آليجا محمد، التي ركّزت على قيم المساواة بين البشر باختلاف ألوانهم أمام خالقهم.
لكنَّ الجماعة ذهبت أبعد في سياق الحراك الشعبي الأمريكي ضد "الدولة العميقة" البيضاء العنصرية إلى حد شيطنة الرجل الأبيض، وعززت التوجهات الانعزالية للمسلمين السود، على عكس ما كانت تدعو إليه حركة الحقوق المدنية للسود الأوسع انتشارًا، بقيادة القس البروتستانتي مارتن لوثر كينج.
بعد خمس سنوات من إسلامه في 1961 أصبح خلالها محمد علي بطل العالم في الملاكمة للوزن الثقيل، جاء تحديه الثاني عام 1966 باستدعائه مع من في سنه من الشباب الأمريكي للتجنيد (الإجباري آنذاك) للمشاركة في حرب فيتنام.
رفض كلاي التجنيد لمعارضته قتل الناس في حرب اعتبرها استعمارية لقمع الشعوب، وليست دفاعًا عن حدود بلده. وكان قبلها بسنتين زار عددًا من دول عدم الانحياز التي تعاديها أمريكا، من بينها مصر، والتقى بالرئيس عبد الناصر، كما زار السعودية وأدى مناسك الحج.
أُدين محمد علي بالتهرب من التجنيد، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات، لكنه استأنف الحكم وظلَّ خارج السجن حتى 1971 حين أسقطت المحكمة العليا حكم إدانته؛ استنادًا إلى أن رفضه متعلق بحرية الرأي والعقيدة. وعاد بعدها إلى الملاكمة واستعاد لقبه العالمي.
محمد صلاح والهجرة والتجنيد
احترف محمد صلاح كرة القدم مع فريق المقاولون العرب. وشأنه شأن محمد علي، لم يتجاوز تعليمه المرحلة الثانوية، حيث التحق بالمعهد العالي للدراسات المتطورة في القاهرة قبل الاحتراف في سويسرا بعد إيقاف نشاط كرة القدم في مصر بسبب أحداث بورسعيد. لكنه حين انتقل لاحقًا إلى نادي تشيلسي الإنجليزي واجه عند سن 22 مشكلة استدعائه للخدمة العسكرية، بعد أن رفض المعهد الاستمرار في قيده للدراسة وهو متغيب عنها.
خلافًا لمحمد علي، الذي حقق بطولاته واسمه في الداخل ورفض الخدمة العسكرية كمبدأ ضد الحرب، لم يلمع اسم محمد صلاح إلا بعد خروجه من بلده، وبسبب هذا الاعتراف الخارجي بقدراته وبطولاته ساندته الدولة لحل مشكلة التجنيد، استجابة لمدرب المنتخب الذي كان يستعد لبطولة الأمم الإفريقية ويحتاج صلاح في خطه الهجومي.
باختصار، محمد صلاح ابن ريف الدلتا المصرية المسالمة التي يتمسك أبناؤها بتراب الميري وتقديره حتى في حال الخروج من الوطن، كحلٍّ فرديٍّ بحثًا عن فرص لتطلعاتهم والاعتراف بقدراتهم وتحقيق أحلامهم.
محمد صلاح والسياسة بكياسة
ليس من الإنصاف القول بأنه في أوج نجوميته بفريق ليفربول الإنجليزي، لم يُعبِّر صلاح عن رأيه السياسي أو الإنساني، في إطار إبداء تعاطفه مع ضحايا حرب أو حريق أو زلزال.
الشهر الماضي، أظهر على إكس تعاطفه مع ضحايا زلزال المغرب، عندما كتب بالعربية لـ18 مليون متابع، على خلفية داكنة أسفل العلم المغربي "اللهمَّ احفظ المغرب وشعبها". قبلها بسنة؛ غرَّد معزيًّا في ضحايا حريق كنيسة أبو سيفين في القاهرة، الذي أودى بحياة 41 مسيحيًا من بينهم 15 طفلًا "خالص العزاء في ضحايا كنيسة أبو سيفين مع أمنياتي بالشفاء العاجل لجميع المصابين".
بل وحتى بالنسبة للحرب الإسرائيلية السابقة على غزة في مايو/أيار 2021، غرَّد صلاح بالإنجليزية ولم يكن عدد ضحايا القصف الإسرائيلي تجاوز وقتها الأربعين قتيلًا، يناشد "كلَّ زعماء العالم بمن فيهم رئيس وزراء البلد الذي أصبح موطني على مدى السنوات الأربع الماضية، بأن يفعلوا كل شيء في وسعهم للتأكد من وقف العنف وقتل الأبرياء فورًا. كفاية يعني كفاية".
رسالة محمد صلاح التي كانت موجهة لحساب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، جاءت متسقة مع موقف الحكومة البريطانية غير المتشدد وقتها في دعم إسرائيل، بل بعد نداء من وزير الخارجية آنذاك، دومينيك راب، حثّ فيه بوضوح على "إنهاء استهداف السكان المدنيين".
موجة أقوى من هدوء صلاح
في هذه المرة التي وصل فيها عدد القتلى المدنيين في غزة 3500، لم يصدر عن محمد صلاح أي موقف أو تصريح. بل إنه غاب عن حسابه على إكس، الذي لم ينقطع عن تحديثه لأكثر من خمسة أيام، منذ ثلاثة أسابيع، عندما نشر صورة له في 26 سبتمبر/أيلول الماضي.
الموجة السياسية التي تواجه محمد صلاح هذه المرة عاتية قد تتجاوز حساباته لو فكر في فتح فمه أو كتابة مناشدة إنسانية، فقد أدانت الحكومة البريطانية الهجوم على إسرائيل باعتباره "عملًا إرهابيًا"، مع تأييد إسرائيل في الرد كما تريد. واستغرق الأمر أكثر من أسبوع قبل أن يناشد وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي القوات الإسرائيلية ضبط النفس.
لكنَّ وزيرة الداخلية البريطانية سويللا برفرمان، زادت على الأمريكيين في التضييق على المتظاهرين المؤيدين لفلسطين، وكتبت برفرمان لقيادات الشرطة البريطانية تطلب منهم التصدي لأي مظاهرة يرون فيها تأييدًا لحماس، وتعتبر أن رفع العلم الفلسطيني قد يكون عملًا "غير قانوني".
وجد ابن مصر البار أن "الفلوس.. الفلوس" أهم من "الهري"
وربما لم يجد أيضًا محمد صلاح في هذه المرة دعمًا من أيِّ لاعب في فريقه. قبل سنتين أظهر زميله في خط هجوم ليفربول، اللاعب السنغالي ساديو ماني، وضوحًا أكثر في دعم الفلسطينيين، فبدلًا من المناشدة مثل صلاح، نشر ماني على إنستجرام بوسترًا مكتوب عليه "Free Palestine" أي الحرية لفلسطين.
ماني ترك ليفربول وانضم إلى فريق النصر السعودي، بعد أن قبل للاحتراف هناك أموالًا أقل بكثير مما رفضه صلاح. ومثلما غرَّد ماني متعاطفًا مع ضحايا زلزال المغرب في الشهر الماضي كما فعل صلاح، صمت الاثنان عن التعاطف مع ضحايا غزة، ناهيك عن دعم تحرير فلسطين. فهل أبلغه مضيفوه السعوديون موقفهم غير المعلن من مغبِّة التعاطف مع عمل خرَّب خطط المملكة في التطبيع مع إسرائيل؟ لا ندري!
عمومًا؛ وجد محمد صلاح دعمه في هذه الأزمة من داخل دولته مثلما وجده منها سابقًا في أزمة التجنيد، قبل أن يصبح مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية خمسة آلاف دولار، أي ما يحصل عليه مو صلاح في ساعتين من ناديه!
في هذه المرة، نقلت وسائل الإعلام عن الهلال الأحمر المصري أن قائد المنتخب تبرع بمبلغ كبير لمساعدة الفلسطينيين. لم تحدد الجمعية المبلغ، باعتباره صدقة لا يريد صاحبها أن تعرف يمينه ما أنفقت يسراه؛ وهي فرصة أيضًا لمحبي صلاح للمزايدة، فيما تنفَّس مقدمو البرامج الوطنيون الصعداء، لتمكنّهم أخيرًا من الدفاع عن ابن مصر البار، الذي وجد أن "الفلوس.. الفلوس" أهم من الكلام، أو "الهري"، حسب تعبير رئيس الجمهورية!