شهد شارع الكيلاني بمنطقة مطار إمبابة، اليوم، تحولات كثيرة. فالطريق الذي يمتد عرضه لأكثر من 20 مترًا، ويدب فيه ضجيج الحياة المعهود في منطقة شعبية، امتلأ بآخر، كئيبٍ.
في نحو التاسعة والنصف صباحًا، استحال الشارع ساحة لمستشفى طوارئ كبير، دون مسعفين أو أطباء، فقط الأهالي يتكاتفون لنقل المصابين وجثث الضحايا، يفرشون بها الطريق في عجلة، كي ينهضوا إلى التقاط غيرهم، من بين 41 قتيلًا و14 مصابًا بعضهم أطفال، سقطوا في حريق التهم كنيسة أبو سيفين، خلال الصلاة، اليوم الأحد.
بين الظهر والعصر، انتقل الضحايا كلهم إلى المستشفيات، ولم يتبق في المنطقة سوى الجيران وأهالي المنطقة الغاضبين، والكثير من الصحفيين، استحوذ الأمن وقتها على الكيلاني.
الأهالي الذين لعبوا أدوار البطولة في الصباح، كُدسوا على جنبات الطريق كهامش، في حين حُددت الشوارع بالمتاريس ورجال الأمن، تمهيدًا لحضور المسؤولين الحكوميين، وهي الحدود التي سرعان ما تهاوت بعد أن غادرها المسؤولون، يدفعها الناس في حماس، بحثًا عن متنفس.
كانت الكنيسة تفحمت
قبل دقائق من وصول رئيس الوزراء، كانت امرأة تصرخ "عايزين حقنا، كل عيد لازم كنيسة يا تتحرق يا تنفجر، كل عيد"، وحينما صعد مصطفى مدبولي، مصحوبًا بقوات تأمين، ووزيرا الصحة والتضامن الاجتماعي إلى مبنى الكنيسة المحترق، كانوا مشيعين بنظرات أهالي المنطقة المسيحيينن الخالية من الثقة، وكثير من الشكوى، عن تعرضهم للإهمال، والتشكيك في الرواية الأولية التي أرجعت نشوب الحريق إلى ماس كهربائي.
يصوم المسيحيون هذه الأيام صيام العذراء، لذا وجدت المرأة الغاضبة تأييدًا كبيرًا من أخريات وقفن إلى جوارها على جانبي الطريق، اللاتي رغم جراءتهن في التعبير، رفضن الإدلاء بأسمائهن للصحافيين، حتى لمن التقطوا حديثهم بالفيديو.
تحدثت واحدة من الواقفات، فقدت زوجة شقيقها وهي أم لخمسة أطفال، للمنصة. لا تسكن المرأة المنطقة نفسها، وإن كانت تحرص على الصلاة في أبو سيفين، كل أحد، لكنها تخلفت عن روتينها اليوم "جيت على 11 كانت المطافي موجودة، بس كانت يا دوب لسه جاية، كل الناس قالوا جت متأخر، وصلت بعد ساعة ونص أو ساعتين".
تؤكد حديثها أخرى من سكان المنطقة، امرأة خمسينية، تقول "ابني صحاني على الخبر، عرف من صحابه وجريوا كلهم يطفوا الحريقة وينقذوا اللي جوا، الناس هي اللي خرجتهم وحطتهم بره في الشارع الرئيسي على الطريق، لحد ما الإسعاف جت وشالتهم.
"الإسعاف وصلت قبل المطافي، المطافي جات بعد ساعة ونص، كانت الكنيسة اتفحمت"، تتابع الجارة، التي شهدت محاولات الإنقاذ الشعبية، قبل أن تتذكر المرأتان معًا أبونا عبد المسيح بخيت كاهن الكنيسة الذي زهقت روحه في الحريق "رفض ينزل، نزل كل اللي فوق الأول، لحد ما مات، كان جميل، بيحب كل الناس"، يشيران إلى سيارة متضررة أمام الكنيسة "هذه سيارته، كانوا بينطوا عليها من الكنيسة".
على الجانب الآخر من الشارع وقف سعيد توفيق وزوجته راندا شوقي، اللذان كان ينويان حضور الصلاة، لكنهما استيقظا متأخرين، يقولان للمنصة "صحينا على صوت خبط أهلنا في البيت، كانوا عارفين إننا رايحين نصلي، لما سمعوا عن الحريق نزلوا يطمنوا علينا.
اغرورقت عينا توفيق بالدموع بينما يقول "للأسف راحت عليا نومة"، نسأله "أكنت تفضل الوجود بالداخل وقت الحريق"، فأجاب مسرعًا "طبعًا، يا ريتني كنت معاهم، يمكن كنت قدرت أعمل حاجة أو أنقذ حد، اللي معذبني أني مكنتش معاهم".
لتوفيق ثلاثة أبناء في مراحل تعليمية مختلفة، عادة ما يحضرون إلى الصلاة جماعة، وأنقذهم القدر اليوم من الحريق، لكنهم لا يعتبرون أن ذلك نهاية المطاف، يقول "مفيش أمان، كل سنة كنيسة يحصلها حاجة، والإعلام مش فالح غير في التدليس، مات واحد وحضر المسؤول، محدش بيقول الحقيقة".
وزير خلف المتراس
حين حضرت وزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج إلى موقع الحادث، ذهبت إلى المسيحيات المتلحفات بالسواد خلف المتاريس، ربطت على إيديهن، لكن أصواتهن المكلومة الغاضبة، حالت دون استمرار الحديث سوى لدقيقة، عزتهم وابتعدت.
بعد دقائق، بات المشهد الأمني أكثر تشديدًا، وصل رئيس الوزراء مصطفى مدبولي إلى الموقع، يسبقه رجال ببدل مهندمة عاينوا المكان، بدا أنهم من النيابة. لكن الصحفيين، مستقلين أو مندوبين عن وكالات أجنبية وفضائيات، تكدسوا على جانبي الطريق خلف المتاريس، بينما حاز صحفيو المؤسسات القومية والموالية للحكومة، حرية أكبر في الحركة، ينقلون الحدث من زاوية محددة، كما رصدت المنصة، لكن جميعهم منعوا من التقاط أي صور، حين حضر مدبولي، حتى صرخت فيهم سيدة مسيحية أربعينية، "ما تسبوهم يصوروا، يعني تصوروا اللي محروقين ومش عايزين تصورا اللي بيجوا يجبولهم حقهم، طيب على الأقل هيتقال إن الحكومة كانت حاضرة، فكروا شوية".
حديث المرأة رغم منطقيته، انطلق وتبدد في بقايا السحب السوداء من أثر الحريق، وظلت الأوامر سارية، "نزلوا الكاميرات، ممنوع التصوير"، لنحو 15 دقيقة، استغرقهم رئيس الوزراء في الداخل، حيث الكنيسة المُتفحمة.
خرج رئيس الوزراء، وظل الأهالي ينادون عليه "عايزين نتكلم معاك يا دكتور مصطفى، يا دكتور مصطفى، تعالى كلمنا". أصوات مرتفعة وطلبات ملحة، تجاهلها الدكتور مصطفى، وغادر المكان، لكن الأهالي، لم يستسلموا، لحقوا بالسيارة من شارع آخر يصل بهم إلى الكيلاني، حيث سيغادر، سبقته سيارة التشويش، حاوطته والمسؤولون، وقوات الأمن، حتى رحل، وفتح الأهالي أحد المتاريس.
النواب في جولة
كان الشارع في كلا المشهدين السابقين، يتحول شكله، وموقع الواقفين فيه. وعندما حضر نواب الشعب، اتخذ الشارع شكلًا جديدًا، عندما هيأ الأمن مربعًا، يستطيع من خلاله أن يتجول نواب البرلمان.
استطاع الصحفيون النفاذ إلى المنصة، والمنصة بينهم. سألنا النائب في مجلس الشيوخ، وليد المليجي، عما قاله الأهالي من تأخر وصول الإسعاف والمطافئ، لكنه سارع بالنفي وشكر المسؤولين سرعة الاستجابة في آن.
قال "محصلش، كل أجهزة الدولة كانت موجودة في غضون نص ساعة"، قاطعه آخر يبدو أنه مساعد له، وهو مسيحي، وعضو في حزب مستقبل وطن "جم بعد ساعة كده يا سيادة النائب"، لكن الأول تجاهل ساعة زميله تلك، والساعة والنصف التي تكررت على لسان شهود العيان، وظل يردد أنهم وصلوا بسرعة، ثم شكر الأمن.
وتجول أيضًا في شارع الكيلاني، حيث بدا صليب الكنيسة واضحًا، وآثار الحريق، النائب البرلماني عن حزب مستقبل وطن، طارق سيد حسنين، سألته المنصة عن عدد الضحايا فقال "41 قتيلًا، و7 مصابين"، قبل أن ترفع الصحة عدد المصابين إلى 14. وأضاف النائب "القتلى فيهم أطفال، وكلهم حالات اختناق، أما المصابين فبكسور من أثر قفزهم من الكنيسة أو التدافع وكده".
لا فتنة لكن فقدان ثقة
لم يتردد من بداية حضورنا إلى مقر الحادثة أي شبهة طائفية، لا أجواء مشحونة، الكل مكلوم، ومصدوم من أثر الفاجعة، يتذكرون مشاهد الأطفال المحمولين على الأكتاف، وحال ذويهم.
تقع الكنيسة في مدخل شارع يسمى الحاج مصباح، وتجاور منزل الحاج نفسه، المرسومة على جدرانه صورة الكعبة وبعض الآيات القرآنية. المبنيان متجاوران دون فاصل.
يشيد الأهالي من المسيحين بدور جيرانهم الذين هرعوا إلى الكنيسة ينقذون الضحايا وينقلونهم إلى المستشفى، تقول إحداهن "لو النار انتشرت هتاكل الكل"، فتحمل الجملة على بساطتها وبديهيتها معان كثيرة.
حضر القساوسة وكهنة الكنيسة، مكسورين، يكسوا وجوهم الحزن والصدمة، أحدهم طلبنا تعليقه، أجابنا بصوت يكاد لا يُسمع من شدة الحزن "مش أنا مسؤول الكنيسة"، نرد "نعم أعلم أن أبونا رحمه الله توفي في الحادث"، فيجيب "في زميل تاني جاي". وينسحب جالسًا على عتبة إحدى المنازل المجاورة، بصحبة آخرين، في حزن مهيب.
يحضر ممثلان عن المؤسسات الدينية الإسلامية، الأوقاف والأزهر، ليقدما واجب العزاء، أحدهم ظل ممسكًا بهاتفه، فيما قال الآخر إنه يحدث الإمام أحمد الطيب، شيخ الأزهر، الذي يستطلع الوضع.
في المقابل، بدت أزمة عدم الثقة واضحة، وإن لم يعكسها القادة الكنسيون بالطبع، الذين سارعوا إلى شكر الرئيس والمسؤولين على اهتمامهم الكبير بالحادث، الذي هو حادث مصر كلها، لكن الأهالي لم يرددوا سوى عبارات "هو كل شوية أحنا، عايزنا نخلص، مش هنخلص"، يسردون قصصًا عن بناء تلك الكنيسة قبل عقود، بجهود من الأب عبد المسيح بخيت الذي رحل اليوم "اشترى البيت ده بالتبرعات، وعملناه كنيسة، مكنش لينا مكان نصلي فيه، وكنا بنروح مسافات بعيدة".
"كل شوية أبونا كان بيعمل صيانة للتكييفات، وأي حاجة في الكنيسة محتاجة تتصلح ألف مين كان يعملها، بمجرد ما يكتب محتاجين كذا، كان مفيش في طيبته، لو بيوزع حاجة لازم المسلم قبل المسيحي"، يضيف الناس، بينما يبكون الأب، ويسألون عن محاسبة المسؤول، فحتى إذا ثبتت رواية الماس الكهربائي، وهي رواية أكدتها الكنيسة نفسها، فإن أسئلة كثيرة تحمل معاني الاتهام لتأخر المطافئ التي تتمركز في نقاط عدة حول المنطقة بالقرب من شارع الكيلاني، على مبعدة دقائق.
هل تأخرت؟ هل لو حضرت في موعدها لعاش كثيرون، وانخفض عدد الضحايا؟ كانت مثل تلك الأسئلة تلاحقنا بينما نهم بالمغادرة.
تنتشر الكاميرات في أماكن عديدة، أحدها في مبنى الكنيسة، وأخرى في نهاية شارع الحاج مصباح، وربما لو نطقت بما جرى فعلًا من إهمال أو تقاعس، هل يمكن أن يتغير شيء؟ أم أن اللقطة تنتهي مع حضور المسؤول ورحيله إلى موضع الحدث.