للبطل وسماته، تعريف تكاد تجمع عليه الحضارات والثقافات جميعًا، ماضيها وحاضرها. هو شخصية اجتمعت فيها الشجاعة والإقدام والمواصفات البدنية الاستثنائية والقدرة على تحمل الألم، مع مبادئ نصرة المظلوم ومساعدة الضعيف، وغالبًا ما تُضحِّي بنفسها لأجل أهدافها ومبادئها، وقلَّما كانت نهاية قصصها سعيدة.
وكم تذخر الثقافات بقصص أبطال واقعيين أو أسطوريين سكنوا في الوجدان من جيل إلى آخر، تُلهِم سيرهم حكايات تحولت إلى كوميكس للأبطال الخارقين، وهي الأكثر انتشارًا بين الشباب حول العالم.
لعبت شخصية البطل عاملًا مهمًا في تشكيل المجتمعات الأولى، لأنها كانت رمزًا للقيم الثقافية والقواعد الاجتماعية والمُثل المجتمعية، وأيضًا مصدرًا للاجتماع والدعوة للوحدة وتحقيق العدل.
من شجاعة جلجامش وهرقل إلى إيثار الإمام علي ودفاعه عن الحق ليظل حتى اليوم رمز نصرة المظلوم، ومن بطولات عز الدين القسّام واستبساله في مواجهة المحتل ومقتله الذي حوَّله إلى رمز للمقاومة الفلسطينية والعربية، وصولًا لقصص البطولات اليومية التي نعيشها. هذه القصص أبطالها أناس تجاوزوا تعريفات البطولة التقليدية إلى معنى اكثر إنسانية وقُربًا.
مرَّت شخصية البطل عبر تاريخنا الحديث بمراحل عدة، بدءًا من شخصيات القصص المصورة الخارقة فيما يعرف بالعصر الذهبي للكوميكس بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن الماضي، وظهور السوبر هيروز مثل سوبرمان وباتمان ووندر وومن. انعكست الفترة التي تلت الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية على تلك الشخصيات وسعيها إلى المثالية ونشر الفضيلة، وغالبًا ما كانت تعبِّر عن القيم الأمريكية في نظرتها إلى مفهومي العدالة والحق.
ثم ما سُمِّي بالعصر الفضي لثورة ثقافة البوب في الستينيات والسبعينيات، عندما ظهرت شخصيات سبايدرمان، وإكس مِن، وفانتاستك فور، التي كانت أيضًا انعكاسًا صافيًا لما كان يَعْتمِل في المجتمعات من تحركات تحررية حول العالم، لتجسد شخصيات الأبطال الخارقين هذه المرة صراعات الإنسان الداخلية والتعامل مع المعضلات الأخلاقية. كما أنها كانت أكثر قربًا لشخصية الإنسان منها إلى كاراكتر البطل الخارق الباحث عن المُثل العليا.
في الثمانينيات وحتى عصرنا هذا، أصبحت صناعة الكوميكس التي تجسد الخوارق أكثر تنوعًا وجرأة في تقديم صورة البطل. في العصر الحديث وما بعده، تحرر البطل من صفات كثيرة كان يجب عليه التمتع بها سابقًا، كما حررته جندريًا لتصبح البطلات الخارقات حاضرات في أكثر من نموذج.
نحن محاطون كلَّ يوم بكلِّ أنواع الأبطال الخارقين، لكنهم لا يطيرون ولا يُطلقون شعاعًا من أعينهم
كما برزت منذ أواخر القرن الماضي حركة The Anti-Heroes أو اللا أبطال، إذا جاز تعريبي للمفهوم. وهم أبطال لا يمتلكون صفات البطل التقليدية، وغالبًا ما تمتاز شخصياتهم بسمات غامضة أو مظلمة، ويتمتعون بالفضيلة وأيضًا بصفات الشر، ويمتلكون أساليب تثير التساؤلات حول الحدود بين مفهومي الخير والشر والصواب والخطأ.
وأقرب مثال لفكرة البطل اللا بطل هي ثلاثية كريستوفر نولان عن باتمان، المنتجة بين 2005 و2012. حاولت السلسة استكشاف الجانب المظلم لشخصية باتمان، ووضعت قيم البطولة تحت المجهر، وطرحت أسئلة حول أساليب البطل نفسه في مسعاه لتحقيق العدالة والبحث عن الحق، أساليب شابها الغموض وغابت فيها الحدود بين ما هو أخلاقي وما هو مذموم.
حنظلة بطلًا
برأيي هذا التحول الذي طرأ على شخصية البطل الخارق، هو ردة فعل على تصاعد الشر وتنوع أساليبه. يمتلك الشر أدواته المتنوعة بدءًا من السلطة التي تُخوِّله ممارسة شرِّه، إلى سيطرته على مساحات واسعة من حياة البشر وتحكِّمه فيها. أما تحقيق الخير، فيقترن دائمًا بإعلاء القيم الإنسانية فوق حسابات الربح والخسارة والهزيمة والانتصار في معركة أزلية.
ماذا لو أخذ تحقيق الخير مسارًا آخر واستخدم أدواتِ الشر نفسها للتغلب عليه؟ هل يصبح أكثر فعالية وتتحقق العدالة أسرع ويسترد أهل الحق حقهم؟ سؤال المعضلة!
تحرير شخصية البطل من قيم الأنبياء وعصمتهم، وتقريبها إلى الطبيعة البشرية الحائرة في الخيارات والصراعات في سعيها إلى تحقيق العدل بأساليب بشرية تحتمل الخطأ والصواب، جعلها أقرب إلينا، لننتبه إلى أننا محاطون كلَّ يوم بكلِّ أنواع الأبطال الخارقين، لكنهم لا يطيرون ولا يُطلقون شعاعًا من أعينهم.
أبطال اليوم لن تكتب عنهم القصص المصورة ولن يدخلوا في سباق عصر الخارقين، هم أبطال عاديون محاطون بالموت لكنهم يتابعون الحياة، مدركين عبثية أقدارهم ومع ذلك يستمرون، ويحلمون ويتمسكون بأحلامهم، أعمارهم صغيرة أصغر من أن تُكتَب سيرهم مع أنها حافلة بالتحديات اليومية.
تخيَّل ما أثقل أن يحمل طفل على عاتقه مهمة صحوة العالم وتحقيق العدالة وإحلال السلام. يقدم عمره قربانًا للإنسانية. طفل بسيط من غزة لم يتعلم بعد أصول الحساب، لكنه دفع الحساب مقدمًا عن جهل البشر.
لم نرَ يومًا وجه حنظلة لكننا نجزم أنه لا يمتلك عينين من جمر أو لسانًا من نار، أدار ظهره للعالم ومشى، ومع ذلك هو بطل خارق. البطل الذي ثبت في مكانه في كل اللوحات، فوق الدمار وأمام فوهات المدافع، في حصار بيروت وتشييع جثامين الشهداء، ووضع زهرة يتيمة فوق شواهد القبور. ظلَّ ثابتا في مكانه وتحوَّل رمزًا للعائد فوق الركام، يمشي حاملًا البندقية ويحلم بالعودة إلى الوطن.
أبطال اليوم لا وجه لهم مثل حنظلة، ليس مهمًا أن نعرف ملامحهم أو أسماءهم، يشبهون حكايات الغريب، يتواجدون في كل مكان في الوقت نفسه، يراوغون الموت للثبات في أماكنهم، فاتحين طريق العودة لحنظلة من تغريبته الطويلة.