اكتشف مصطفى ناجي، الذي يعيش في ألمانيا، أنه يطارد خيط دخان، فقيم الحرية والديمقراطية التي انتقل إلى أوروبا من أجل التمتع بالعيش في كنفها، تكشف عن هشاشتها، بدت سرابًا عندما تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية.
محاطًا بالخوف الذي خبره قبل ذلك في بلاده، يحاول الشاب المصري الذي يبلغ من العمر 37 سنة، رفقة عائلته في برلين، مسايرة اليوم إلى الذي يليه، دون أن يتورط في مشكلة قد تهدد وجوده في البيئة الجديدة وتعرض عائلته للخطر، فقط إن كشف عن هويته وما يؤمن بأنه العدل.
العقاب بالفصل
تفرض السلطات الألمانية قيودًا صارمة على التعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، تحت شعارات محاربة معاداة السامية، يقول مصطفى لـ المنصة "اتفاجئت إن السلطات الألمانية وزعت منشورات على مدرسين مدرسة ولادي، تلزمهم بمنع أي شكل من التعبير عن التضامن مع فلسطين، بما في ذلك ألوان العلم الفلسطيني الأحمر والأسود والأبيض والأخضر".
ولم تتوقف الأمور عند ذلك الحد؛ حيث وُزعت استمارات على المدارس، ليملأها الطلاب كاستبيان يكشف عن مؤيدي حماس "الإرهابية" ومعادي السامية.
"مع حالة الهيستريا اللي بتحصل في مدارس ألمانيا، تخيل اللي هيحصل لو حكيت لأطفالك عن فلسطين أي حاجة غير الرواية الرسمية؟" يتساءل مصطفى، الذي يعمل تحت وطأة الخوف من الفصل، بعد أن "أنهت الشركة تعاملها مع زميل له لمجرد أنه فلسطيني".
يقول مصطفى، الذي يعمل مهندسًا تقنيًا، "الشركة فصلت زميلي بشكل مفاجئ، وفي اليوم التاني حذرنا مدير الموارد البشرية من مخالفة القانون الألماني بكتابة أو حتى قول كلمات محظورة تدعم منظمات إرهابية، أو تعادي السامية وتحرض ضد اليهود، ولو ده حصل هنتعرض للتحقيق والفصل من العمل، وممكن يوصل لبلاغ للشرطة".
قوة القانون
ينص القانون الألماني على أن يُعاقب بالسجن حتى ثلاث سنوات أو بغرامة مالية؛ من يخالف المادة 86 أ من قانون العقوبات، التي تنص على "نشر أو استخدام رموز أو علامات لمنظمات مناهضة للدستور وإرهابية".
يتواتر الحديث منذ بدء الأحداث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عما يتعرض له العاملون في ألمانيا من تضييق، ومحاولات لتكميم الأفواه عن طريق التهديد بالفصل من العمل، يقول مصطفى "نشر بوستات داعمة لغزة كفيل بفصل كاتبها من العمل، ما سمعته من دوائر قريبة أنه تم فصل 3 من أبناء الجاليات العربية على خلفية الأحداث".
في ألمانيا يُعتبر حرق العلم الإسرائيلي فعلًا مجرمًا يعاقب عليه القانون
يعرف مصطفى، الذي يعيش في برلين منذ 7 سنوات، أن ذكر المقاومة الفلسطينية وخاصة حماس أو أي فصيل فلسطيني مسلح يعد نوعًا من أشكال التعبير عن معاداة السامية، "لو شغال في موقع حساس أو شركة ألمانية كبيرة مش مسموح تتكلم عن حقوق الفلسطينيين، ومش مسموح تعبر عن ده بأي شكل، أو لو كتبت ما تقولش إنك شغال معانا".
ويوضح مصطفى أن فصائل المقاومة الفلسطينية ومن ضمنها حماس مُصنفة في ألمانيا كـ"جماعات إرهابية"، وأي شكل من أشكال الدعم للقضية الفلسطينية يمكن اعتباره دعمًا للإرهاب، وهتاف مثل "فلسطين ستصبح حرة من النهر للبحر"، يعد "تعبيرًا عن معاداة السامية وفق القانون الألماني".
كما يُحظر استخدام أعلام المنظمات المصنفة إرهابية؛ حماس، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجهاد الإسلامي الفلسطيني، وحزب الله، وتحظر العلامات واللافتات التي تدعم عملية طوفان الأقصى التي شنتها حماس على إسرائيل. كما يُعد حرق العلم الإسرائيلي فعلًا مجرمًا يعاقب عليه القانون. وتم تعديل مادة في قانون العقوبات قبل ثلاث سنوات، بحيث أصبح حرق جميع الأعلام ممنوعًا بشكل قانوني.
من جانبه يؤكد السفير رخا أحمد حسن، مساعد وزير الخارجية الأسبق، عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية وعضو الجمعية المصرية للأمم المتحدة، أن ألمانيا لم تُصدر قرارًا رسميًا بمنع التظاهر، "لكن يواجه الداعمون صعوبة كبيرة في الحصول على تصريح بالتظاهر، ومع ذلك لم تتوقف الاحتجاجات".
يُغلب حسن، في حديثه لـ المنصة، أن حالات الفصل أو التهديد به، "تحدث في المؤسسات القائمة على رأسمال يهودي، ومن المستبعد تنفيذها طالما أن أحدًا منهم لم يتلفظ بألفاظ محظورة يعاقب عليها القانون في تلك البلدان".
ممنوع التعاطف
لكن لا يوجد طريقة لوقف حالات الفصل، إذ شهد مؤمن عبد العظيم منذ أيام على فصل طبيب تخدير مصري يعمل معه في المستشفى، لدعمه فلسطين، يقول لـ المنصة "الإدارة بلغته في الأول إن السبب هو اللي بينشره على فيسبوك وواتساب بخصوص غزة، لكن بعد كده قالوا إنه زعّق في وش ممرضة عشان كده مشوه!"
فيما يعاني مؤمن، الذي يعمل طبيبًا في ألمانيا منذ 6 سنوات، من سيطرة مشاعر الحزن الممزوجة بتأنيب الضمير، إذ فقد لتوه زميلًا في القصف الإسرائيلي على غزة، كان سافر لقضاء إجازة مع عائلته بالقطاع.
لا يستطيع مؤمن المصري الثلاثيني، التعبير عن حزنه لفقد زميله، بل يساهم، كونه أحد دافعي الضرائب، في دعم إسرائيل والآلة الإعلامية التي تخدمها على حساب الشعب الفلسطيني.
يحكي مؤمن "لما وصلنا خبر استشهاد زميلنا الطبيب الفلسطيني ماحدش من الأوروبيين أبدى تعاطفًا، العرب اللي حسوا بحزن شديد، لكن محدش قدر يتكلم في حاجة تجنبًا للمشاكل".
اعتقلت الشرطة الألمانية مؤقتًا عدة أشخاص من النشطاء المؤيدين للفلسطينيين
في حين تعرض زميل آخر لموقف يمثل تهديدًا بطريقة ما، "كان بيتفرج على فيديو لقصف غزة، في مكتب الدكاترة وبيقول بالألمانية: ينفع اللي بيحصل دا؟ عاجبكم كدا يا ناس؟، فجأة دكتور ألماني من القسم بتاعي انفجر في وشه وقلبها خناقة، وقال: أنتم بتدعموا الإرهابيين وعمل فيلم، وإحنا مش عارفين المشكلة دي هترسى على إيه؟"، في إشارة منه لإحتمال فصله أو تحويله للتحقيق.
ويبلغ عدد الأطباء المصريين في ألمانيا 1670 طبيبًا، وفق الحصر الذي قدمته نقابة الأطباء الألمانية الفيدرالية حتى نهاية عام 2022. تسود فيما بينهم، حسب مؤمن، تحذيرات قلقة من احتمالية التعرض لسحب الإقامة وإلغاء التأشيرة والترحيل، بسبب نشر محتوى داعم لفلسطين، قد تراه السلطات الألمانية معادٍ للسامية أو تمجيدًا للإرهاب.
كانت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر أعلنت أنه لن يتم التسامح مع المتظاهرين المتضامنين مع غزة وحماس في ألمانيا، وأنه سيتم اعتقال مؤيديها وترحيلهم من البلاد.
وبحسب صحيفة مورجن بوست، اُعتقل عشرات المتظاهرين المتضامنين مع فلسطين في ساحة بوتسدام ببرلين، واحتجزت الشرطة الألمانية مؤقتًا عدة أشخاص من النشطاء الذين تجمعوا عند بوابة براندنبورج دعمًا للفلسطينيين، بعد حظر المظاهرات.
غير أن الدبلوماسي المصري رخا أحمد حسن يستبعد إمكانية تنفيذ التهديدات بقوله "لم يعد لها مكان اليوم بعد كل ما يحدث، كما أن القضاء الألماني سيقضي بعدم أحقيتها في إلغاء إقامات المتضامنين، لأنهم يعبرون عن رأيهم".
السجن للمتظاهرين
أماني الشريف، اعتقلت ولكن في فرنسا، حيث حظرت السلطات الفرنسية مظاهرات دعم الشعب الفلسطيني، مع تهديد بحبس المتظاهرين مدة ستة أشهر بالإضافة إلى فرض غرامة مالية.
أماني، التي تعمل طبيبة، وشاركت في مظاهرة لدعم فلسطين بباريس، عقب قصف المستشفى المعمداني بقطاع غزة، فوجئت بإحاطة الشرطة الفرنسية المسلحة بها وبقية المتظاهرين، تُضيق الخناق عليهم في دائرة، لمنعهم من الخروج والدخول أو مواصلة السير. وأطلقت عليهم الغاز المسيل للدموع، واستخدمت خراطيم المياه، ومارست عنفًا جسديًا على بعض منهم.
تقول أماني، القاطنة بباريس منذ 20 عامًا، في حديثها مع المنصة "اتنين ظباط حاوطوني وألزموني بدفع غرامة 135 يورو، وهددوني بالاعتقال"، لم تفلح محاولاتها لتوضيح أسبابها في المشاركة في الوقفة الاحتجاجية، كونها تعبر عن رأيها، وتساند زملاء مهنتها ممن تعرضوا للقصف والموت. "كلامي مانفعش معاهم، مش بيتفاهموا، لولا تدخل مصورة صحفية فرنسية، خليتهم يسيبوني أمشي".
لم تتلق وزارة الخارجية شكاوى بفصل أو اعتقال أي من المصريين في الخارج
وكان وزير العدل الفرنسي، إريك دوبون موريتي، أعلن الأحد 29 أكتوبر الماضي، اعتقال أكثر من 400 شخص في فرنسا، منذ الـ7 من أكتوبر بتهمة معاداة السامية، وقبل أيام أكدت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيت بورن، أن بلادها لن تتسامح مع أي عمل أو أي تصريح معادٍ للسامية على أراضيها.
فيما يوضح السفير رخا أنه "بعد حظر التظاهر في فرنسا وألمانيا، رفعت الجاليات الأجنبية من أصول عربية دعوى قضائية مستعجلة أمام المحكمة، والتي قضت لصالحهم بعدم أحقية الحكومة الفرنسية في منع المظاهرات، لأن ذلك مخالف للدستور والقوانين الفرنسية".
ويضيف "لكن ذلك لم يمنع تعرض الداعمين للقضية الفلسطينية من المصريين والجاليات العربية للمضايقات في الشوارع وإلقاء القبض عليهم خارج القانون"، حسب السفير.
كما أنه لم يمنع أيضًا من خسارة البعض وظائفهم، مثلما حدث مع كريم قباني، صانع المحتوى المصري، الذي يدرس ويعمل في فرنسا. بعد نشر مقاطع فيديو على السوشيال ميديا داعمة للفلسطينيين؛ أخبره مديره أن تلك المقاطع تُثير غضب العملاء وليست على حق، وفي اليوم التالي وجد الإدارة تطالبه بالتوقيع على استقالته وخروجه من مجموعة واتساب موظفي الشركة، بحسب ما أفاد قباني في مقطع فيديو نشره عبر حساباته على السوشيال ميديا.
كما فُصل الطيار ذو الأصول المصرية، مصطفى عزو من الخطوط الجوية الكندية، بسبب دعمه لفلسطين ومشاركته صورًا شخصية له على إنستجرام يرتدي خلالها العلم والوشاح الفلسطيني.
تهديد من أجل الردع
لم تصل الأمور حتى الآن إلى الترحيل، أو تظهر أخبار تفيد بذلك، وهو ما يوافق وجهة نظر السفير رخا أحمد حسن، "بأن الغرض من التهديدات الردع لا أكثر". ويؤكده السفير أحمد أبو زيد، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، في حديثه لـ المنصة، إذ نفى تلقي الوزارة شكاوى بخصوص تعرض أفراد من الجاليات المصرية بالخارج للفصل من العمل أو الجامعة أو سحب الإقامة على خلفية دعم فلسطين، معتبرًا "الحديث عن أي إجراءات لإعادتهم لمصر أو استكمال دراسة أي طالب مصري يتعرض للفصل، حديثًا سابقًا لأوانه".
ورغم كل ذلك تتباين ردود الأفعال بين المصريين في أوروبا، ففي الوقت الذي تشارك فيه أماني في الوقفات الاحتجاجية، يلتزم مصطفى الحذر الشديد خوفًا على مصدر رزقه في ظل ما يصفه بـ"حالة الهيستريا الجماعية في أوروبا".