"كنا نحسبها كم يوم تصعيد عادي وقصف مقرات للمقاومة وكم صاروخ يطلع أو ينزل بس طلعت حرب"، هكذا بدأت إيناس حامد حديثها مع المنصة، عبر رسائل واتساب التي ترسلها في الأوقات التي تتوافر فيها خدمة الإنترنت.
لم تكن إيناس تعلم وهي تلقي على مسامع تلاميذها في الإذاعة المدرسية في يناير/كانون الثاني الماضي، كلماتها المُحملة بالأمل، وبنبرة حماسية "إنه لصباح جميل، يوم تُشفى الصدور ونرتاح قليلًا ولو للحظات مما رأيناه من قهر على مدار عقود طويلة"، أن العام سينتهي بحرب تعيد السيرة الأولى.
فالآن تعايش مع أهالي غزة عدوانًا جديدًا، يحملهم على ترك منازلهم والهرب جنوبًا، بحثًا عن نقطة آمنة من الصواريخ، التي لا تفرق بين مقرات المقاومة ومنازل المدنيين والمستشفيات. لتعاني كل ليلة من فقدٍ جديد في دائرة معارفها؛ العائلة، الجيران، طالباتها في المدرسة.
وداع طويل
بين ليلة وضحاها تبدل كل شيء، ودعت إيناس حياتها الهادئة، ودروس الأحياء التي كانت تشرحها لطلابها كل صباح بشغف. دمَّر القصف المستمر منذ السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري يومياتها كما دمر جدران البيوت. وبلغ عدد الإصابات منذ بداية العدوان الإسرائيلي على القطاع، أكثر من 12 ألف مُصاب، 70% منهم، من الأطفال والنساء، فيما ارتفع عدد الضحايا إلى أكثر من 3785 قتيلًا أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، بحسب وزارة الصحة بغزة.
لم تعد هناك حاجة لاستخدام الثلاجات، فلا يوجد طعام ليُحفظ فيها
تعيش إيناس في المحافظة الوسطى في قطاع غزة بالقرب من مخيم النصيرات، التي لجأ إليه مئات العائلات النازحة ممن تهدمت بيوتهم جراء القصف، يتشاركون مساحات ضيقة.
المياه مقطوعة
غيَّرت إيناس خططها لتدريس مناهج الأحياء، إلى مخطط واحد، كيف يمكن توفير الطعام والماء من أجل يومٍ آخر، خاصة مع انقطاع التيار الكهربائي، الذي أفسد الطعام الذي تحتفظ به في الثلاجة، تقول "اللحوم في الفريزر بقت زي الجثث"، ولم تعد هناك حاجة للثلاجات من الأساس، فلا يوجد طعام ليُحفظ فيها "نخليها مفتوحة طول الوقت عشان ما تعفنش من الرطوبة".
تخشى إيناس، التي تبلغ من العمر 38 سنة، أن تتناول ما لديها من طعام، فلا تجد سواه في الغد إن ظلت على قيد الحياة، تقول "المي مقطوعة من زمان وما بنعرف نعبي الخزانات، وخايفة أعمل أكل المونة تخلص، وأضطر أخرج وأخاطر". تعتمد في طعامها وعائلتها على المعلبات فقط، وتحصل كغيرها على رغيف خبز واحد يوزعه المسؤول عن المخيم على كل شخص كوجبة غداء، "ومو مسموح نتحمم عشان المي ما تخلص والجلي بكباية مي بس".
رغم وجود مياه في السبيل يذهب إليه السكان والنازحين للحصول على حاجتهم، غير أنها ليست متوفرة في دورات المياه بالمدرسة/المخيم، "المدرسة ما فيها مي كفاية، الستات ما بيقبلو يشربوا عشان ما يروحوا الحمام اللي ما فيه مي"، تقول إيناس.
أما المياه في المنازل والتي جاءت بعد فترة انقطاع طويلة فهي ضعيفة "ما بتطلع في الخزّانات"، فاستخدامها لابد أن يكون بحساب.
الحمام بالدور
مثل إيناس، يعاني باسل السقا، الذي يعمل صحفيًا، قلة المياه الصالحة للشرب، ويقول لـ المنصة "إحنا بنعيش وضع مأساوي جدًا، حتى دورة المي بالطابور".
نظرًا لتهدم المباني في معظم أحياء المدينة، يضطر الجميع لاستخدام أعداد محدودة من دورات المياه، يشتكي باسل، الذي يعيش في الشوارع بعد أن دُمر بيته، "الطابور ممكن يكون فيه حوالي 60 واحد وعقبال ما يجي دوري ممكن ما بقدر أتحمل".
يتعمد جيش الاحتلال استهداف المنازل المجاورة للمخابز المكتظة بالمواطنين
ورغم قلة الموارد المتاحة، يستهدف القصف السوق والمخابز تقول إيناس "امبارح الساعة 3 الفجر قصفوا أشهر مخبز في النصيرات، واستشهد 3 من العمال كانوا بيجهزوا الخبز للناس".
في ظل الدمار الكامل للمناطق المحيطة، تستعيد الغزاويات ميراثهم الثقافي، في محاولة لمواجهة تحدي تحضير الطعام، تقول إيناس "قرايبي جابوا حطب وبيخبزوا الخبز على فرن الحطب". فيما تستخدم هي "وابور الجاز" لتسخين المياه.
أما باسل فيحكي عن نفاد مخزون الغذاء خاصة الدقيق، "فيه تكدس على المخابز وللأسف الكميات محدودة في ظل إغلاق المعابر علينا"، بالإضافة لنقص الغاز والكهرباء، تأتي ساعة واحدة فقط في اليوم.
طوابير الخوف
فيما يجلس الطفل محمد عدنان، بجوار أمه في أحد الملاجئ التي وفرتها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" بمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، رافضًا الانصياع لطلب أبيه الابتعاد عنها ومرافقته للمخبز القريب من المكان البديل لمنزلهم شمال القطاع، والذي نزحوا منه قبل قرابة أسبوع بعد تلقي تهديدات إسرائيلية باستهداف منطقة سكنهم.
عدنان، البالغ من العمر 11 عامًا، كان يرافق والده لشراء بعض الاحتياجات، والخبز قبل يومين، وأثناء وقوفهم في طابوا انتظار طويل للحصول على كمية تكفي أسرتهم ليوم واحد على الأكثر، استهدفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي منزلاً قريبًا من المخبز، دون سابق إنذار، ما أدى إلى مقتل بعض من كانوا في المنزل المستهدف وإصابة آخرين، فيما أصيب المنتظرين في طابور المخبز بـ "الخوف والرعب" كما يقول والد الطفل.
محاولة التواصل مع الطفل عدنان لم تنجح، رفض الحديث، مُبعدًا وجهه عنا، وتقول والدته لـ المنصة "رجع من المخبز خايف، ومن وقتها مو راضي يبعد عني، طول الوقت يا ماسك في، يا قريب مني جدًا، لا بياكل منيح، ولا بيرضى ينزل يلعب مع إخوته وباقي الأطفال في ساحة المدرسة".
حالة الطفل النفسية الصعبة، لا يمكن الحديث حول علاجها في الوقت الحالي، الحالات التي تستلزم رعاية طبية نتيجة القصف تحول دون ذلك.
يتعمد جيش الاحتلال استهداف المنازل المجاورة للمخابز المكتظة بالمواطنين، يرى سلامة معروف، رئيس المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، أنّ الاحتلال يتعمد قصف واستهداف منازل في محيط المخابز وخلال اصطفاف عشرات المواطنين على أبوابها، الأمر الذي تسبب في وقوع العشرات من الشهداء ومئات الجرحى.
ويعتقد أن ذلك "ما هو إلا دليل على نية الاحتلال إيقاع أكبر عدد من الضحايا، ومفاقمة الوضع الإنساني وزيادة صعوبته على المواطنين، حتى بات الحصول على بعض أرغفة الخبز رحلة محفوفة بالمخاطر" حسب معروف.
وثق المكتب الإعلامي الحكومي 5 استهدافات لمخابز بشكل مباشر أو في محيطها، وبمناطق مختلفة من القطاع، منذ بدء العدوان، وهي؛ مخبز اليازجي ومخبز عجور وسط مدينة غزة، ومخبز عجور شرق غزة، ومخبز اليازجي في شمال القطاع، ومخبز البنا في النصيرات وسط القطاع.
رائحة البارود
فيما تحاول إيناس إخفاء خوفها وآلامها عن أسرتها كلما اشتد القصف، تظهر متمسكة بالأمل واليقين في أن كل شيء سيكون على ما يرام، وأن الأرض ستعود لأحضان أبنائها. لكن الأيام صعبة، والحرب مريرة على من يعيشها. الأصوات في الأجواء لا تخرج عن "مدفعية من الشرق وقذائف من الغرب، وطيارات الـF16 اللي بتقصف البيوت، وطيارات الاستطلاع اللي بنسميها الزنانة".
لم يُعد صوت الأذان يُسمع بانتظام في غزة "بيجمعوا صلاة الظهر والعصر، وبيجمعوا المغرب والعشاء عشان الوضع المخيف، ومرات بيقولوا: صلوا في رِحالكم وأحيانًا كثيرة لا نسمع الآذان ونصلي حسب التوقيت"، تقول إيناس.
فيما تعبق السماء برائحة البارود نتيجة القصف المتكرر، ما يزيد من صعوبة الحياة، تعاني إيناس صعوبة في التنفس تزيد من سوء حالتها. يغلف ذلك كله حزن دائم، يتجدد في قلبها مع كل شهيد يسقط.
تطال الصواريخ، مع البيوت أرواح طلابها تقول "من أول يوم فقدت واحدة من طالباتي، بعدها والد طالبة أخرى، وعم ثالثة". الأعداد التي تتداولها الأخبار كل يوم، هي وجوه تعرفها إيناس، وأسماء ذات صلات بها، تمتد القائمة لتشمل صديقتها وعائلتها جميعًا، "كلهم استشهدوا في يوم واحد، كمان زوج صديقة أخرى استشهد نتيجة القصف".
وتضيف "تقريبًا أي حدا بيخرج من بيته بينصاب، قريبي كان رايح يجيب مي يسقي الحمار تبعه، لأنه بيشتغل بائع خضار على كارة حمار، واتقصف السوق وهو في الشارع واستشهد".
تغريبة جديدة
تتذكر إيناس اللحظة التي استجاب فيها السكان لتحذيرات جيش الإحتلال بإخلاء المباني، "الشارع كان عامل زي التغريبة الفلسطينية، كارات (عربية كارو) تجرها حمير، وناس قاعدين معهم حاجياتهم جايين من الشمال ومدارس الأونروا جنبنا مليانة عائلات، والستات ناشرين الملابس على الدرابزين ووضع مؤلم"، وكأن التاريخ يكرر نفسه في واحد من أقسى المشاهد التي مرت على القضية.
نزح الأهالي من المناطق الحدودية مع إسرائيل، لتصبح شبه فارغة الآن
بينما عايَش الثلاثيني باسل مشهدًا آخر، يعتبره الأقسى في تاريخه الشخصي، يقول "نفدت بروحي بس، ما ضل قزاز ولا باب، قصف بصواريخ بشكل عشوائي مفزع". لم يعد باسل قادًرا على ممارسة عمله، وربما حياته إذ يعيش الآن في الشارع.
تعيش معظم الأسر في غزة في المدراس لاجئين بعد أن تهدمت بيوتهم، أو خوفًا من أن تطالها صواريخ جيش الاحتلال المستمرة. تركوا منازلهم دون أغطية أو ملابس، تحميهم البرد الذي بدأ يعلن عن نفسه في ليالي أكتوبر. "جم باللبس اللي عليهم ومعهمش فلوس ياكلوا وعايشين على ستر ربنا"، يقول باسل.
يعتقد باسل أن الأمور ستزداد سوءًا فليس هناك بادرة للحل، يقول "لا يزال نزيف الشهداء مستمرًا وعداد المصابين في تزايد، في ظل عدم توافر الأدوات اللازمة من قبل الدفاع المدني لاستخراج الضحايا من تحت الركام".
يرى باسل نزوح الأهالي من المناطق الحدودية مع إسرائيل، لتصبح شبه فارغة الآن، في اتجاه الغرب، يقصدون مدارس الإيواء، يعانون نقصًا في الماء والطعام، والمال، وهو ما يُعيد للأذهان صور التهجير الأولى للفلسطنيين في 48.
تتلخص أحلام باسل الآن في العودة إلى منزله، وأن ينعم بنوم هادئ دون أن تفزعه أصوات الصواريخ، وأن يتوافر له قوت يومه، ويتوقف نزيف الدماء، وتعود الأرض لأصحابها.
أما إيناس والتي تزور كل يوم مخيم النصيرات القريب من بيتها، في محاولتها دعم النازحين القاطنين فيه، شهدت ميلاد طفل جاء والدته المخاض في الليل لتعاني آلامه حتى الفجر، حيث وصلت سيارة الإسعاف لتنقلها إلى المستشفى، لم يهدأ بالها حتى اطمأنت على عودة الأم مع وليدها في المغرب. بقدر ما تمنحه ولادة طفل من أمل، بقدر ما تحمل من آلام ومعاناة في ظل الأوضاع التي يعيشها أهالي غزة اليوم.