في السابعة والنصف صباحًا بدأ محمد فرحات، المعروف بـ "أبو مجاهد"، أول أيام رمضان بالتوجه إلى مقر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، سعيًا للحصول على فرشة طبية تريح جسده أثناء النوم، وذلك بعدما فشل في توفيرها منذ وصوله إلى مكانه الحالي، حيث ينام على أرضية الخيمة، يقول "والله يا عمي أنا صاحب مرض وجسمي تعب وتكسر من نومة الأرض".
أكثر من 4 ساعات استغرقها أبو مجاهد في محاولة لتأمين الفرشة لكنه لم ينجح، ليعود خالي الوفاض إلى خيمته التي تبعد عن مقر "الأونروا" قرابة ثلاثة كيلومترات على عربة يجرها حمار، وهي وسيلة النقل الأكثر انتشارًا في الحرب في ظل نقص الوقود، حيث قيدت إسرائيل دخوله منذ بدء الحرب.
قضت المنصة أول أيام رمضان مع عائلة أبو مجاهد، التي نزحت من منزلها شرق مدينة خانيونس بعد الاجتياح البري لجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي دمر منزلهم، وأجبرهم على التنقل عدة مرات داخل المدينة، وصولًا إلى خيمة في منطقة المواصي غرب المدينة.
أم مجاهد كانت تأمل أن تطبخ ملوخية لكن سعرها المرتفع جعلها تكتفي بالبطاطس المقلية
لم يجد أبو مجاهد زوجته في الخيمة لدى عودته، كانت خرجت باكرًا بدورها متوجهة إلى مدينة رفح جنوب خانيونس، في محاولة للحصول على راتب ابنها المُعتقل من البنك، لكن مساعيها باءت بالفشل مثلها مثل زوجها، ولم تجد سيولة نقدية متوفرة.
بدأت رحلة نزوح عائلة أبو مجاهد من مستشفى ناصر في خانيونس، وعقب حصار جيش الاحتلال للمستشفى اضطروا للنزوح مرة أخرى، في مسارات حددها الاحتلال للنازحين، وأقام عليها نقاط تفتيش، اعتقل عبرها عددًا من الشباب، من بينهم الابن البكر للعائلة "مُجاهد"، الذي اقتِيد لجهة غير معلومة، كما يقول والده.
تبدل حال العائلة، التي حاولت مرارًا وتكرارًا التواصل مع مؤسسات دولية لمعرفة مصير ابنهم إلا أنهم لا يعرفون عنه شيئًا منذ اعتقاله قبل قرابة الشهر. ليصبح مكانه خاليًا على سفرة رمضان التي لم تعد كالسابق، كما يروي والده بصوت ملؤه الحزن والمعاناة.
مجاهد مثل غيره كثيرين اعتقلهم جيش الاحتلال خلال عدوانه على قطاع غزة، حيث طالت حملات الاعتقال مسنين ونساء وشبانًا وأطفالًا، وسط شكاوى من تعرضهم لسيل من الإهانات والتعذيب.
مع عودتها من رفح خالية الوفاض، قررت أم مجاهد استغلال ساعات الصباح في الاطمئنان على شقيقتها وزوجة ابنها وطفلة حديثة الولادة، وبعض الأقارب قبل أن تعود إلى الخيمة.
في الخيمة كانت بنات أبو مجاهد الثلاث، إيمان 22 عامًا، وإسراء 19 عامًا، ومَلك، يتبادلن الحديث مع جيرانهم في النزوح حول إعداد الفطور الرمضاني، قبل أن يقسمن وقتهن بين قراءة القرآن، وتنظيف وترتيب الخيمة.
ملك ذات السبعة عشر ربيعًا، لم يخطر ببالها أن أسرتها ستقضي رمضان في خيمة للنازحين.
أجبر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، الذي بدأ في أعقاب عملية طوفان الأقصى، سكان القطاع على ترك منازلهم، والنزوح إلى مراكز ومخيمات الإيواء. وبالتالي لم تشتر مَلك فانوس رمضان هذا العام. كما لم تستطع أن تزين منزلها بشرق مدينة خانيونس في قطاع غزة.
في طريق عودتها، كانت أم مُجاهد مرت على السوق، الذي يبعد عن خيمتها قرابة كيلو متر واحد، بحثًا عن ملوخية كانت تأمل أن تطهوها لإفطار أول أيام رمضان كما اعتادت في السنوات الماضية، لكن ارتفاع سعرها الذي وصل إلى نحو 6 دولارات لكل كيلوجرام، مقارنة بأقل من دولار ونصف الدولار قبل الحرب، دفعها لتعديل الخطة. اشترت كيلو من البندورة/الطماطم، وآخر من الخيار، وثالثًا من الباذنجان وعادت إلى الخيمة.
ويعاني سكان قطاع غزة منذ بدء الحرب ندرةً في المواد الغذائية وارتفاعًا في أسعارها، بينما تتواصل محاولات إيصال المساعدات الإغاثية إلى غزة برًا وجوًا، رغم المعوقات الإسرائيلية.
فرحة بأنبوبة الغاز
سألت أم مجاهد بناتها وزوجها "ماذا سنفطر اليوم؟"، وتركز الحوار حول عدم وجود أنبوبة غاز، حيث كان الأب أرسلها للتعبئة قبل أيام ولم تصل بعد، ليتحول النقاش إلى ما الذي يمكن طبخه على الحطب. لكن يبدو أن القدر أراد للأسرة بعضًا من الفرحة حيث وصلت أنبوبة الغاز، التي افتقدوها وقت السحور، ليغيب عنه براد الشاي، كما تقول إسراء.
مع اقتراب الساعة الثالثة عصرًا، صنعت ملك وإيمان عجينة السمبوسك، التي اعتادت الأسرة في السابق شراءها جاهزة من السوق لكن هذا لم يعد متاحًا في زمن الحرب.
أعدت الفتيات سلطة الخضار، فيما جهزت الأم بعضًا من حبات البطاطس تمهيدًا لقليها قبل موعد أذان المغرب، بينما تفرغت إسراء لقراءة القرآن.
تناولت الأسرة طعام الإفطار في صمت قبل أن يكسر هدوءهم صوت انفجارات قريبة
ترك أبو مجاهد الخيمة، وقال لأسرته إنه "ذاهب إلى السوق لشراء بعض الحاجيات". لكنه في الحقيقة كان يتهرب من المواجهة، "كتير مفتقد وجود ابني مُجاهد معنا اليوم، كان بساعدني وبجهز معنا وبنكون على سُفرة وحدة، مش قادر أجيب سيرته ما بدي أنكد عليهم، نفسي نرجع نلتم سوا ونفرح"، كما قال لمراسل المنصة الذي رافقه إلى السوق القريب من مُخيم النزوح.
يخشى الأب مصير ابنه في ظل الانتهاكات التي يماسها الاحتلال بأريحية.
كانت كاميرات شبكة سي إن إن التقطت، في يناير/كانون الثاني الماضي، مشاهد مصورة لمعتقلين فلسطينيين معصوبي الأعين، قرب الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة.
من السوق اشترى أبو مجاهد نصف كيلو من القطائف، وحشوة جاهزة مصنوعة من جوز الهند والقرفة والزبيب والفُستق، وقال "بناتي بحبوه"، كما اشترى كيلو من الكباب الجاهز تجاوز سعره الـ 35 دولارًا، وبعض الخضروات من جرجير وبصل أخضر لتزيين سُفرة رمضان، وعاد إلى خيمته قبل موعد آذان المغرب بـ20 دقيقة.
كانت الأم وبناتها، قد أعدوا السمبوسك، والبطاطس المقلية والسلطة، وجهزوا سُفرة بسيطة على أرضية الخيمة، واستقبلوا والدهم ببهجة، بعدما سلّمهم ما حمله من أغراض لم يتوقعوا وصولها على سُفرة إفطارهم أول يوم في رمضان.
وقال "والله يابا بدي تنبسطوا وتاكلوا"، عبرت الفتيات عن رضاهم بما قُسم لهم، قالت ملك "والله يابا راضيين الحمد لله، صحيح ما كان يعجبنا أي اشي عادي زمان، بس الله يعينك ويعين الناس على الوضع الحالي، الحمد لله لاقيين اشي ناكله ونشربه".
على مدار الأعوام الماضية اعتاد أكثر من مليوني غزي الاستعداد لرمضان بشراء الفوانيس وأحبال الزينة المُضيئة والملونة، وتزيين المنازل والشوارع، جنبًا إلى جنب مع شراء مواد تموينية وأطعمة وتخزينها تحسبًا لارتفاع أسعارها خلال شهر رمضان.
ولكن هذا العام اختلفت معالم رمضان وطقوسه. غابت مظاهر البهجة. وفي ظل ندرة المواد الغذائية في قطاع غزة، وصعوبة توفيرها لا سيما في الشمال، حذرت هيئات أممية من خطر المجاعة، مطالبة بتكثيف المساعدات.
اجتمعت العائلة حول سُفرة رمضان وسط الخيمة، انتظروا صوت المؤذن، الذي لم يتأخر طويلًا، تناولوا الفطور بصمت، قبل أن يكسر هدوءهم صوت انفجارات قريبة بعض الشيء، حاول الأب طمأنتهم. وقالت الأم "ربنا يستر بس".
بينما رفعت الفتيات الصحون تمهيدًا لعملية الجلي والتنظيف بجالون المياه الخاص للجلي والوضوء، تعاونت الفتيات مع بعضهنّ البعض، وتناوبنّ على صلاة المغرب في الخيمة، ثم أعدوا القطايف والقهوة.
"كنا كل سنة نشتري الفوانيس وحبال الزينة، ونزين البيت من الداخل والخارج، ونشتري مفرش سفرة رمضاني، ونكتب جملًا رمضانية على طقم الكنب في الصالون وأدوات الضيافة، لكن هذا العام لم نفعل شيئًا"، تقول ملك لـ المنصة.
يقول أبو مجاهد إن هذا العام مُختلف بكافة تفاصيله، بداية من الإقامة في خيمة بعيدًا عن منزله المُدمر، وصولاً إلى الأعباء والمهمات اليومية من شراء الاحتياجات بعدما فقدوا الكهرباء والثلاجة وأدوات المطبخ والسفرة التي كانوا يتجمعون حولها. لكن الأهم بالنسبة له مرور أول أيام رمضان على خير ، "الحمد لله مر اليوم على خير".
وبينما يحمد أبو مجاهد الله على مرور اليوم بسلام، يظل ذهنه مشغولًا بابنه المعتقل، ويقول "طول الوقت كنت بفكر إذا مجاهد ماكل وشارب ومرتاح أو كيف وضعه"، فيما همست الأم "الله يرجعك بخير يما ويطمن قلبي".